بوتين "يجمد" أوكرانيا وينتظر "شقوق" الغرب

يجري انتخابات في 2024 ويعزز سلطته

Eduardo Ramon/Majalla
Eduardo Ramon/Majalla

بوتين "يجمد" أوكرانيا وينتظر "شقوق" الغرب

في فبراير/شباط 2024، ستدخل الحرب الروسية ضد أوكرانيا عامها الثالث. وكانت التكلفة حتى الآن باهظة؛ إذ من المرجح أن يكون العدد الإجمالي للجنود القتلى والجرحى من الجانبين أكثر من نصف مليون شخص. كما أصبح أكثر من 11 مليون أوكراني لاجئين أو نازحين داخليا، وفرّ أكثر من مليون مواطن روسي هربا من التجنيد. كما دمرت معدات تقدر قيمتها بمليارات الدولارات. ولا تزال أصداء الحرب تتردد على مستوى العالم مع تباطؤ النمو الاقتصادي، وارتفاع التضخم، وتقلب أسعار الطاقة، ونقص الغذاء– خاصة في أفريقيا والشرق الأوسط.

تتجه روسيا بشكل متزايد نحو التحول إلى نظام سلطوي عسكري، حيث أصبح الصراع مع الدول الغربية ركيزة أساسية لاستمرارية وجود الكرملين. ينظر النظام الروسي إلى الحروب على أنها معارك ضرورية للبقاء، إذ لا يمكن تبرير وجوده إلا من خلال استمرار الصراع، وبالتالي لا يمكنه تحمل تكاليف السلام.

ويلتزم الرئيس بوتين باستراتيجية انتظار فقدان الغرب للعزم وتخليه عن أوكرانيا، في حين يعمل على مسح الهوية والتاريخ الأوكرانيين. ونظرا لأن مستقبل المساعدة العسكرية الأميركية لأوكرانيا يبدو على المحك، فإن وحدة وعزيمة الدول الغربية أصبحت موضوع شك وتساؤل متزايدين. ويمكن أن يكون العام المقبل حاسما لكل الأطراف المعنية وللنظام العالمي بشكل عام.

لقد تشكل إجماع في الخطاب الغربي على مدى الأشهر القليلة الماضية بأن الحرب في أوكرانيا وصلت إلى مرحلة جمود. وترسخت الفكرة في أوائل نوفمبر/تشرين الثاني تقريبا، عندما نقلت مجلة "ذي إيكونوميست" عن القائد الأعلى للقوات المسلحة الأوكرانية، الجنرال فاليري زالوجني قوله: "تماما كما كانت الحال في الحرب العالمية الأولى، وصلنا إلى مستوى تكنولوجي يضعنا في مرحلة جمود"، وسيتطلب الأمر اتخاذ قفزة تكنولوجية هائلة لكسر هذا الجمود.

ولاحظ خبراء أوكرانيا أن استخدام زالوجني لمصطلح "الجمود" كان خاطئا وأسيء فهمه، لأن المفتاح وراء ذلك كان إشارته إلى "التكنولوجيا الحالية". وكانت تعليقات زالوجني باللغة الأوكرانية الأصلية تنقل رسالته بشكل أفضل، حيث حذر من وصول أوكرانيا إلى "طريق مسدود" إذا لم تحصل على المساعدات العسكرية اللازمة. وبغض النظر عن قدرة أوكرانيا المستمرة على تدمير أسطول البحر الأسود الروسي واعتراض خطوط القطارات في أقصى شرق الأراضي الروسية، إلا أن فكرة الجمود كانت هي المسيطرة. ويتأثر هذا التقييم بتصور غير دقيق للهجوم المضاد الأوكراني باعتباره غير ناجح، بالإضافة إلى التناقض بين التوقعات الغربية للهجوم المضاد الأوكراني والاحتياجات الفعلية لتحقيق تلك النتائج المتوقعة.

يُعرّف "قاموس ويبستر" حالة الجمود بأنها "وضعية في لعبة الشطرنج، حيث لا يكون اللاعب في وضع (كش ملك)، ولكنه لا يملك أي نقلة قانونية". وبمعنى آخر "طريق مسدود". وبشكل مماثل، يصف الخبراء العسكريون حالة الجمود في الحروب بأنها حالة "لا يستطيع فيها أي من الطرفين تغيير الخطوط الأمامية بشكل كبير بغض النظر عن مدى الجهد المبذول". وبعبارة أخرى، الجمود هو أن لا يتبقى لدى أي من الجانبين حركات يمكن لها تغيير نتيجة المعركة.

وبحسب هذا التعريف فإن الحرب في أوكرانيا ليست في وضع جمود؛ إذ لدى كلا الجانبين عدد من الحركات المتبقية التي تمكنهما من تغيير النتيجة. وتعتمد القدرة على القيام بذلك إلى حد كبير على الالتزام بالموارد المتاحة، وإرادتهما لمواصلة القتال، وتأثير تحركاتهما في جميع المجالات، وليس في الحرب البرية فقط.

من المرجح أن تلعب كل من الطائرات المسيرة التكتيكية والاستراتيجية طويلة المدى دورا رئيسا في ساحة المعركة عام 2024.

ما التحركات المتبقية؟

أولا، من المحتمل أن يبدأ الجانبان التعبئة العامة، وهو إجراء عادة ما لا يحظى بشعبية بين المواطنين. ومن المرجح أن تنتظر روسيا من جانبها حتى ما بعد الانتهاء من الانتخابات الرئاسية المقررة في مارس/آذار 2024 لاتخاذ مثل هذا الإجراء. أما بالنسبة للجيش الأوكراني، فهو يواجه أزمة تجنيد، وقد يكون اللجوء إلى التعبئة العامة هو الخيار الوحيد المتاح له، بغض النظر عن جهودهم الجادة لحماية الفئة العمرية الصغيرة من الشباب في البلاد.

ومن المرجح أن يواجه المجتمع الروسي والأوكراني استجابات مجتمعية متباينة لفكرة التعبئة العامة؛ إذ يتمتع الأوكرانيون بميزة الروح المعنوية العالية والإرادة القوية للقتال من أجل الدفاع عن بلادهم، بينما يظل المجتمع الروسي عموما غير مبال بالحرب. ومع ذلك، هناك الكثير من التحديات الأخرى، مثل معدلات الاستنزاف داخل كل جيش، وأحجام الجيش والدولة، وقدرة كل جيش على تدريب وتجهيز المجندين، بالإضافة إلى التحديات الديموغرافية المتنوعة بين روسيا وأوكرانيا. تلك العوامل جميعها تؤثر على النتائج المحتملة.

ثانيا، كانت هناك سلاسل عمليات مستمرة على جبهات كثيرة وميادين مختلفة في أوكرانيا، ومن المتوقع أن يشهد عام 2024 تصعيدا مستمرا. وفي الآونة الأخيرة، قامت القوات الروسية بالتقدم في دونيتسك، في حين قام الأوكرانيون بالتقدم عبر نهر دنيبر.

وفي أوائل ديسمبر/كانون الأول، استولت القوات الأوكرانية على مواقع على الضفة الشرقية لنهر دنيبر، مما يشكل تهديدا للهيمنة الروسية في المنطقة. ويعمل الأوكرانيون حاليا في إقليم خيرسون الشرقي، وهو تطور كان يعتبره الخبراء في السابق أمرا مستحيلا. كما نجحوا في حرمان الروس من أجزاء كبيرة من البحر الأسود، وتسببوا لهم في خسائر مهولة في الرجال والموارد في أفدييفكا. قد يكون من السابق لأوانه تحديد ما يمكن أن يعني ذلك بالنسبة للنتيجة النهائية، لكن كلا الجانبين يتخذان خطوات فعالة لتغيير الوضع الحالي.

وأخيرا، يبدو أن الروس يتكيفون مع استخدام الطائرات المسيرة في القتال على نحو لا يستطيع الأوكرانيون مضاهاته حاليا.

ومن المرجح أن تلعب كل من الطائرات المسيرة التكتيكية والاستراتيجية طويلة المدى دورا رئيسا في ساحة المعركة عام 2024. وإذا كان ما يقرب من تسعين في المئة من الإصابات الأوكرانية في السابق ناتجا عن المدفعية، فإنها، وفقا للبعض، مقسومة اليوم بين المدفعية والطائرات الانتحارية المسيرة "إف بي في" (منظور الشخص الأول). وفي الشتاء الماضي، استهدفت روسيا البنية التحتية العسكرية والمدنية في أوكرانيا، وخاصة قدرات إنتاج الطاقة، لكنها غيرت تركيزها الاستراتيجي بعد ذلك. وكانت الحملة في ذلك الوقت تهدف إلى كسر إرادة الشعب الأوكراني لقبول تسوية بشروط روسية من خلال التفاوض، ولكنها فشلت في تحقيق ذلك. ومع اقتراب شتاء جديد، يبدو أن الجيش الروسي يعاود استخدام هذه الاستراتيجية، ولكن بميزة جديدة.

تشير استطلاعات للرأي إلى تراجع الدعم المحلي لأوكرانيا، حيث إن نحو نصف الأميركيين يرون أن الولايات المتحدة تبذل الكثير من الجهد لمساعدة أوكرانيا، فيما تظهر استطلاعات أخرى أن أغلبية ضئيلة لا تزال تؤيد تقديم الدعم لأوكرانيا.

مستقبل غامض للدعم الغربي

وبغض النظر عن الرغبة في القتال وتحمل الخسائر، فإن الموارد تلعب دورا مهما في ظل استمرار الجيش الروسي في التكيف. وفي الوقت الحاضر، أصبح مستقبل المساعدات العسكرية الأميركية على المحك؛ إذ قام مجلس الشيوخ الأميركي في الآونة الأخيرة بمنع إرسال 110.5 مليار دولار من حزمة المساعدات المقدمة لأوكرانيا وإسرائيل وحلفاء أميركا في المحيط الهادئ. ولكن، في حال توصل الكونغرس وإدارة بايدن إلى حل وسط بشأن قضايا الهجرة وأمن الحدود، فستحصل أوكرانيا على المساعدة اللازمة. ولا يزال أغلب الجمهوريين في مجلس الشيوخ يؤيدون تقديم المساعدات لأوكرانيا، ولا يزال بوسع زعماء الكونغرس نظريا حل هذه المشكلة، ولكن التوصل إلى حل وسط بشأن الهجرة شكل تحديا داخليا للولايات المتحدة لأكثر من عقد من الزمان.

وفضلا عن ذلك، يتجاهل زعماء الكونغرس على ما يبدو أن الأموال المخصصة لأوكرانيا تعود بشكل رئيس إلى الولايات المتحدة من خلال استبدال المعدات العسكرية. ويشعر الكونغرس بالقلق حيال تأثير المساعدات لأوكرانيا- وإسرائيل- على المخزون الأميركي الضروري في حالة نشوب حرب بحرية محتملة ضد الصين، ولكن في الواقع، من خلال الإنفاق على أوكرانيا، فإن أميركا تعمل على تنشيط قاعدتها الصناعية والحفاظ عليها.

Eduardo Ramon/Majalla

في الوقت نفسه، تشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى تراجع الدعم المحلي لأوكرانيا، حيث يظهر بعضها أن نحو نصف الأميركيين يرون أن الولايات المتحدة تبذل الكثير من الجهد لمساعدة أوكرانيا، فيما تظهر استطلاعات أخرى أن أغلبية ضئيلة لا تزال تؤيد تقديم الدعم لأوكرانيا. علاوة على ذلك، يُظهر الدعم انقساما حزبيا متزايدا، مع انخفاض حاد في دعم الجمهوريين مقارنة بالديمقراطيين. وفي هذا السياق، لم تنجح إدارة بايدن والسياسة الخارجية الأميركية والمجتمعات الأكاديمية في إيصال ضرورة دعم أوكرانيا للجمهور الأميركي وتوضيح أهمية تقديم الدعم والتكاليف المحتملة في حالة عدم فوز أوكرانيا في الحرب. ولكن، إذا تلقت أوكرانيا الدعم اللازم هذا العام، فإنها قد تكون قادرة على الاستمرار في القتال وربما مواجهة تكيف روسيا في ساحة المعركة.

الانقسامات الداخلية المتنامية في الغرب والافتقار إلى العزيمة والتفكير الاستراتيجي لضمان فوز أوكرانيا، سيكونان السمة المميزة لعام 2024.

ولكن إذا لم تحصل أوكرانيا على دعم عسكري قريبا، فستجد نفسها في وضع أسوأ من حالة الجمود، وستنقلب الموازين بشكل حاسم لصالح روسيا. ومن الممكن أن يتحول الوضع إلى سيناريو مماثل للحرب الروسية الفنلندية في الفترة 1939-1940، والتي أسفرت عن إنهاك الجيش الفنلندي الذي قاتل روسيا بمفرده، دون دعم خارجي. في نهاية المطاف، اعترفت فنلندا بهزيمتها واضطرت إلى إبرام معاهدة سلام مع موسكو، إلا أنها تمكنت من الحفاظ على سيادتها، على الرغم من خسارتها للأراضي. ولكن، واستنادا إلى أهداف بوتين المتطرفة، فإن هذا الأمر قد لا يكون ممكنا في حالة أوكرانيا.

ومن جانبه، يواصل بوتين إظهار الثقة في موقفه؛ حيث التقى بقادة السعودية والإمارات، واستضاف الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في موسكو في اليوم التالي، ما يعكس رسالة منه إلى الغرب مفادها أنه ليس معزولا على الساحة العالمية. وليس لدى بوتين أي حافز لوقف الحرب، حيث إن الغرب لم يحدد استراتيجية متماسكة ونتيجة محددة لحرب أوكرانيا تتضمن فرض تكاليف على روسيا تفوق مكاسب القتال. وعلى مدى العامين الماضيين، ضاعف بوتين جهوده في القتال. ولفهم أفضل لهذا الأمر، ما علينا إلا أن ننظر إلى علاقة روسيا الاستراتيجية المتنامية مع إيران والصين، وتحول كوريا الشمالية نحو روسيا، إلى جانب البصمات الروسية في التصعيد المتزايد في الصراع السوري، وبين إسرائيل و"حماس"، والآن في فنزويلا.

إن الحرب على أوكرانيا ليست شأنا محليا، إذ أظهر بوتين بالفعل أنه يضاعف جهوده في جميع أنحاء العالم. وربما ينطوي العام المقبل على المزيد من التدخل الروسي بطرق متنوعة، وتأجيج المزيد من الأزمات الإقليمية لتحويل انتباه الغرب عن أوكرانيا وتحقيق هدف بوتين المتمثل في إعادة تحديد قواعد النظام الدولي. وبعيدا عن حالة الجمود الحالية، يمكن للحرب أن تتوسع عموديا (من حيث الشدة)، وجانبيا (من حيث المجال)، وأفقيا (من حيث المنطقة الجغرافية). وفي هذا السياق، فإن الانقسامات الداخلية المتنامية في الغرب والافتقار إلى العزيمة والتفكير الاستراتيجي لضمان فوز أوكرانيا، سيكونان السمة المميزة لعام 2024.

font change

مقالات ذات صلة