ماذا يعني الآن مقتل 30 ألف فلسطيني في غزة؟

انتهاء الحرب يبدو أشد مرارة من الحرب نفسها

رويترز
رويترز
أطفال فلسطينيون نازحون ينتظرون للحصول على الطعام في أحد مخيمات النزوح في رفح بجنوب قطاع غزة، 27 فبراير

ماذا يعني الآن مقتل 30 ألف فلسطيني في غزة؟

خمسة أشهر من الحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة كانت كفيلة بتبيان حقائق كثيرة في المنطقة، أو أن هذه الحرب أظهرت المنطقة على حقيقتها ودفعتنا بقوة لإعادة اكتشافها كأننا لم نكن نعرفها من قبل. بهذا المعنى لم يعد ثمة جديد نكتشفه في المنطقة الملتهبة والتي أصبحت مواقف دولها وشعوبها معروفة وبينة ولا تحتاج إلى تأويل أو استقراء.

الكل أصبح مكشوفا أمام الكل، خصوصا أولئك الذين كانوا يخلقون واقعا موازيا بالخطابة والشعارات التي تتحايل على موازين القوى، وكأن المعركة مستبعدة أو بعيدة، وبالتالي يمكن العيش في عالم الشعارات ويمكن تغطية السياسات السلبية والمدمرة بالشعارات والعناوين الأخلاقية التي امتحنتها أرض المعركة امتحانا حقيقيا وكشفت زيفها ودجلها.

نعيش الآن مع الاقتراب أكثر فأكثر من موعد الهدنة الثانية بين "حماس" وإسرائيل على وقع انتهاء الحرب. والمفارقة المأساوية أن انتهاء الحرب يبدو أشد مرارة من الحرب نفسها، لأنه يضع نتائج الحرب وجها لوجه مع 30 ألفا من ضحاياها الفلسطينيين، إضافة إلى عشرات الآلاف من الجرحى ومئات الآلاف الذين يقفون الآن على حافة الجوع. في هذه اللحظة، لحظة جردة الحسابات السياسية للحرب يبدو رقم القتلى الفلسطينيين أكبر من أي وقت مضى إذا ما قورن بنتائج هذه الحرب من الناحية الفلسطينية، وبالتحديد لجهة ما تكبده الفلسطينيون من خسائر خلال الحرب وما ينتظرهم بعدها، أي نتائجها السياسية عليهم وعلى قضيتهم التي ما عاد في الإمكان تعريفها تعريفا حقوقيا وسياسيا واضحا في ظل ضبابية خطاب "حماس" وتناقضاته وتشتت السلطة الفلسطينية وضعفها.

وبالأساس فإن الجسم السياسي الفلسطيني ابتعد عما يمكن تسميته "أجندة وطنية"، أي برنامج عمل سياسي بعناوين واضحة ومحددة يشكل مرجعية أي فعل سياسي أو عسكري فلسطيني.

أيا يكن الموقف من عملية "حماس" على غلاف غزة فإن نتنياهو مسؤول عما حصل في السابع من أكتوبر، وهو ما تقوله أصوات إسرائيلية قبل غيرها

لكن مع ذلك، وفي لحظة انتهاء الحرب، أي وصولها إلى أقصاها بتعذر تحقيق "النصر الكامل" الذي دعا إليه بنيامين نتنياهو ودورانها في إطار رغبة الأخير في مواصلتها لحسابات شخصية قبل أي شيء آخر، فإن العودة إلى يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 ممكنة الآن أكثر من أي وقت مضى. والهدف الرئيس من هذه العودة لا يمكن أن يكون، راهنا، محاسبة "حماس" أو تحميلها مسؤولية ما حصل، أي مسؤولية سقوط 30 ألف فلسطيني وعشرات آلاف الجرحى، من دون أن يتمخض ذلك عن أفق سياسي واضح. فكل ذلك، على الرغم من أسئلته المشروعة، لا ينقل المسؤولية من ضفة إلى أخرى، أي من ضفة إسرائيل إلى ضفة "حماس". فأيا يكن الموقف من عملية "حماس" على غلاف غزة، وأيا تكن حسابات هذه العملية وخلفياتها، حتى داخل أروقة "حماس" نفسها وأجنحتها قبل البحث في الخلفية الإقليمية والدولية للعملية، قبل ذلك كلّه من الضروري القول والتأكيد على أن إسرائيل- وبالتحديد بنيامين نتنياهو وكل من هو على يمينه أو يساره وإن بتفاوت النسب- مسؤولة عما حصل في ذلك اليوم، وهو ما تقوله أصوات إسرائيلية قبل غيرها.

أ ف ب
طفلان فلسطينيان يجلسان في سيارة مدمرة في رفح، جنوب قطاع غزة، في 28 فبراير

ذلك هو المدخل الرئيس لفهم ما حصل فجر السابع من أكتوبر، ومن دونه فإن أي قراءة لأحداث ذلك اليوم الرهيب والذي وضع المنطقة على منقلب تاريخي تبقى قراءة منقوصة وموجهة ولا تفيد في فهم الأحداث الجارية ونتائجها المستقبلية، ليس على مستوى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وحسب بل على مستوى المنطقة ككل، وأيضا على مستوى تعاطي العالم مع المنطقة.
لا داعي للتذكير بالسياسات الإسرائيلية في العقود الأخيرة، في غزة والضفة والقدس، من توسيع المستوطنات في الضفة ومواصلة سياسة التضييق على المصلين المسلمين في القدس، وتشديد الحصار على غزة وفي الوقت نفسه إبقاء نوافذ مفتوحة أمام "حماس" لتعميق الانقسام الفلسطيني وهو ما يمكّن نتنياهو من مواصلة إدارة الصراع بدل الاضطرار إلى البحث في كيفية حله، وذلك لقضم ما أمكن من الحقوق الفلسطينية وصولا إلى تصفية "القضية الفلسطينية" التي تتمثل بالدرجة الأولى في إقامة دولة فلسطينية مستقلة مع ما يقتضيه هذا الاستقلال من مقومات تفقد أي دولة دونها معناها وأسباب وجودها. كل ذلك هو ما يحدد سلم المسؤوليات عما حصل يوم السابع من أكتوبر وبعده طوال خمسة أشهر من الحرب الإسرائيلية الهمجية على قطاع غزة. فهذه الحرب سرعان ما تحولت ومنذ لحظتها الأولى إلى فرصة لنتنياهو لإيجاد أرضية أكثر صلابة لتنفيذ استراتيجيته القائمة على إدارة الصراع وتوسيع المكتسبات الإسرائيلية عوض الوصول إلى تسوية "عادلة" مع الفلسطينيين.

لم تؤد كل جبهات الإسناد لغزة أي دور في وقف الحرب الإسرائيلية طوال خمسة أشهر

إذن ومن هذه الناحية فإنّ الحرب أعادت تعريفنا بالنوايا الإسرائيلية عن قرب وبكلفة بشرية مهولة تتجاوز قدرة العقل على استيعابها، ولاسيما أن الثلاثين ألف فلسطيني الذي قتلوا في غزة قتلوا على وقع مناداة حكومات العالم بتجنيب المدنيين ضريبة الحرب، فإذا بهم يدفعونها قبل غيرهم. وبالتالي لا يمكن تفسير كل هذه الأصوات بعد خمسة أشهر على الحرب إلا بوصفها تغطية سياسية للجرائم الإسرائيلية، وإفساحا للمجال أمام الآلة العسكرية الإسرائيلية لقتل المزيد من الفلسطينيين. والأخطر أن تصاعد النبرة الغربية في حض إسرائيل على تجنب قتل أعداد إضافية من أهل غزة لم تكن دوافعها أخلاقية إنما سياسية متصلة بالضغط الشعبي المتزايد على الحكومات الغربية، وبالأخص في الولايات المتحدة، لكبح جماح إسرائيل، وهو ما يهدد بتراجع شعبيتها على أبواب الانتخابات. وها هي إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، بعد خمسة أشهر على الحرب، تمهل إسرائيل حتى منتصف مارس/آذار للتوقيع على خطاب يقدم ضمانات بأنها ستلتزم بالقانون الدولي، خلال استخدام الأسلحة الأميركية، فهل صدور هذا القرار الآن يحتاج إلى تفسيرات إضافية؟

أ ف ب
فتى يلهو بجوار الأسلاك الشائكة بالقرب من مخيم للنازحين الفلسطينيين في رفح، جنوب قطاع غزة، في 28 فبراير

لكن هذا الخلط أو التداخل أو التناقض بين السياسة والأخلاق ليس حكرا على الدول والمجتمعات الغربية بل  له أصل مقيم وراسخ في المنطقة، مع كل شعارات التضامن والإسناد لغزة، وهي شعارات تلبس لبوس الأخلاق ولكنها في العمق قائمة على حسابات سياسية، بل هي دليل على تدمير السياسة في المنطقة إلى حد بات يمكن معه للأطراف المهيمنة أن تزايد في دوافعها الأخلاقية في الوقت الذي تنفذ فيه سياسات مدمرة بدأت قبل السابع من أكتوبر وستستمر بعده.
بهذا المعنى فإن الحرب كشفت أدوار أطرافها جميعا والذين استثمروا في فاعليتهم خلال الحرب أو استغلوها لإظهار هذه الفاعلية، والأمثلة كثيرة من اليمن إلى لبنان وصولا إلى العراق، إذ لم تؤد كل جبهات الإسناد لغزة أي دور في وقف الحرب الإسرائيلية على القطاع الفلسطيني طوال خمسة أشهر، وعلى العكس من ذلك فسرعان ما أصبح لكل من هذه الجبهات ديناميتها الخاصة بمعزل عما يجري على أرض غزة.

في لحظة تحول القضية الفلسطينية إلى قضية عالمية، أو بروز إمكانات أكبر لهذا التحول، فإن ذلك يفترض خلق مقاربات جديدة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتداعياته في المنطقة من وحي هذا التحول وبدفع منه

بالتالي فإذا كان تنامي الموقف الشعبي الغربي في إدانة أفعال إسرائيل خلال الحرب يقاس من الناحية السياسية في إمكانات ترجمة هذا الموقف في دعم حقوق الشعب الفلسطيني على المدى الطويل في وجه السياسات الإسرائيلية الرامية إلى تصفيتها- أي أن لا يقتصر هذا الموقف على المطالبة بوقف الحرب بل أن يتحول إلى وعي قوي بتحديات الصراع وعناوينه السياسية والأخلاقية- فإن التحدي الرئيس في المنطقة، وبالتحديد في الدول التي تخضع لـ"محور المقاومة"، هو في خلق سردية بديلة للصراع تخرجه من دائرة التوظيف والاستغلال وتعيده إلى نصاب السياسة والأخلاق الحقة، وهو ما يعني إعادة إنتاج السياسة والأخلاق معا. ففي لحظة تحول القضية الفلسطينية إلى قضية عالمية، أو بروز إمكانات أكبر لهذا التحول، فإن ذلك يفترض خلق مقاربات جديدة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتداعياته في المنطقة من وحي هذا التحول وبدفع منه. وهذا يقتضي أن لا يقتصر الموقف من الصراع على نقد خطاب ما يسمى "محور المقاومة" وكيفيات تدخله فيه، بل إن الأصل هنا هو في فهم تحديات هذا الصراع على مستوى حقوق الشعب الفلسطيني من ضمن فهم أوسع لحق شعوب المنطقة في العيش بسلام وكرامة. فالآن وأكثر من أي وقت مضى يتعذر الفصل بين حقوق الفلسطينيين وحقوق اللبنانيين والسوريين، وحتى العراقيين وإن بسياق مختلف نسبيا. وهذا ما يفترض أن يشكل المقدمة الرئيسة لأي "سياسة بديلة" في منطقتنا. فالثلاثين ألف فلسطيني الذي سقطوا في غزة لا يمكن أن يكونوا وحسب عنوانا إنسانيا بل سياسيا أيضا، لكي لا تتكرر هذه الكارثة، ولكي لا تتكرر الكثير من طقوس التعاطف الإنساني معها!

font change

مقالات ذات صلة