الوجود البحري الأميركي... المرونة لمواجهة التحديات

مصلحة وطنية ثانية دائمة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط

ناتالي ليس/المجلة
ناتالي ليس/المجلة

الوجود البحري الأميركي... المرونة لمواجهة التحديات

سلطت هجمات الحوثيين الأخيرة على السفن التجارية في البحر الأحمر الضوء على الأهمية الحاسمة لوجود القوات البحرية الأميركية في الشرق الأوسط. وعندما انتهى التزام القوات البرية الأميركية الذي دام عقدا من الزمن في أفغانستان بكارثة الانسحاب عام 2021، أصبح مقر الأسطول الخامس للبحرية الأميركية في البحرين مرة أخرى مرساة للوجود الإقليمي للولايات المتحدة والحامي الأساسي للمصالح الوطنية في المنطقة.

ومع ذلك، فإن الانخفاض الحاد في عدد المقاتلين البحريين الأميركيين المنتشرين في الشرق الأوسط أرسل رسالة صارخة إلى الحلفاء في العالم العربي، ومعهم إيران والصين وروسيا، تشير إلى أن الولايات المتحدة تحول مركز اهتمامها من الشرق الأوسط نحو آسيا والمحيط الهادئ.

قد لا يكرر التاريخ نفسه بشكل مباشر، لكنه يردد في كثير من الأحيان موضوعات مماثلة. ومن الأمثلة البارزة على ذلك يوم 14 فبراير/شباط عام 1945، عندما اجتمع الرئيس فرانكلين روزفلت والملك السعودي عبد العزيز بن سعود على متن السفينة "يو إس إس كوينسي" في قناة السويس. يومها، دار بينهما نقاش، يعيد إلى الأذهان ما يقع اليوم في غزة، حول مستقبل فلسطين المثير للجدل. وعلى الرغم من أنهما لم يتفقا على هذه القضية، إلا أن اجتماعهما وضع الأساس لتحالف دائم يعتمد على الضمانات الأمنية الأميركية للمملكة مقابل الحصول على الطاقة.

تتعهد أميركا بالتعاون مع حلفائها وشركائها، لردع وتحييد جهود إيران المزعزعة للاستقرار

وجود أميركي بعد انسحاب بريطاني

بعد انسحاب المملكة المتحدة من المنطقة، أنشأت الولايات المتحدة مقر الأسطول الخامس في البحرين.

وفي الوقت الحاضر، يتولى الأدميرال المسؤول عن الأسطول الخامس أيضا قيادة القوة البحرية المشتركة، وهو أكبر تحالف بحري في العالم يضم 44 دولة. يستخدم هذا التحالف 6 فرق عمل بحرية متعددة الجنسيات مخصصة لمهام مثل حماية السفن التجارية من هجمات الصواريخ والطائرات دون طيار الحوثية، وجهود مكافحة القرصنة، وضمان التدفق المستمر للتجارة من الخليج العربي إلى البحر الأحمر.

إن الصراع الحالي في غزة، والتهديد الذي يشكله تنظيم "داعش" في سوريا والعراق، والهجمات المتكررة التي تشنها الميليشيات الإيرانية على القوات الأميركية، وهجمات الحوثيين على الشحن التجاري. كل ذلك يزيد من تعقيد سيناريو اليوم بما يتجاوز اتفاق "النفط مقابل الأمن" البسيط الذي تفاوض عليه روزفلت والعاهل السعودي على متن السفينة "يو إس إس كوينسي".

ولكن هذا لا ينفي، مع ذلك، أن ضمان التدفق المستمر للطاقة إلى السوق العالمية كان بمثابة حجر الزاوية في السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط منذ ما يقرب من 50 عاما، حيث تعمل البحرية الأميركية كأداة رئيسة لهذه السياسة في أوقات السلام والحرب.

تحدد استراتيجية الأمن القومي للرئيس بايدن لعام 2022 هذه المصلحة الأساسية للولايات المتحدة بوضوح:

"إن الولايات المتحدة ملتزمة بضمان عدم تعرض القوى الأجنبية أو الإقليمية للمساس بالمرور الآمن عبر الطرق البحرية الرئيسة في الشرق الأوسط، مثل مضيق هرمز وباب المندب. وهي تقف بحزم ضد أي محاولات من قبل الدول لتأكيد الهيمنة على الآخرين أو المنطقة نفسها، من خلال التصعيد العسكري أو التعديات الإقليمية أو التكتيكات التخويفية. ومن أجل دعم هذا الموقف، تتعهد الولايات المتحدة بالتعاون الوثيق مع حلفائها وشركائها، بهدف تعزيز قدراتهم الدفاعية لردع وتحييد جهود إيران المزعزعة للاستقرار بشكل فعال".

أثر الانسحاب الأميركي من أفغانستان

كان تخفيض الوجود البحري الأميركي في أعقاب الانسحاب من أفغانستان إشارة فسرها كثيرون على أنها تراجع من الولايات المتحدة عن المنطقة. شهدت هذه الفترة انخفاضا ملحوظا في القدرات القتالية البحرية للأسطول الخامس، بما في ذلك غياب عمليات النشر الروتينية من قبل مجموعات حاملات الطائرات الضاربة ومجموعات الاستعداد البرمائية الأميركية.

وعوضا عن ذلك، كانت هناك عمليات نشر محدودة لمقاتلات سطحية أميركية مستقلة، وترك الأسطول الخامس بمدمرة واحدة فقط أو في بعض الأحيان مدمرتين، إلى جانب وحدة متواضعة من القوات المنتشرة في البحرين. تضمنت هذه القوات قاعدة انطلاق عائمة وأربع سفن لمكافحة الألغام وعددا قليلا من زوارق الدورية الساحلية وخفر السواحل الصغيرة التابعة للبحرية.

دعم إيران للمتمردين الحوثيين في اليمن، وتزويدهم بطائرات دون طيار وصواريخ مضادة للسفن، يعكس تكتيكاتها التخريبية

وفي خطوة نحو الابتكار، أنشأ الأدميرال براد كوبر، قائد الأسطول الخامس، "فرقة العمل 59" عام 2021، التي استخدمت بطريقة إبداعية السفن السطحية ذاتية التحكم للتخفيف من فجوة الاستخبارات والتحذير، التي خلفها النقص في نشر المقاتلات السطحية والطائرات المأهولة. ومع ذلك، فإن هذه السفن غير مسلحة وتفتقر إلى النطاق اللازم لمراقبة الممرات البحرية الشاسعة بشكل مناسب.

وفي نهاية المطاف، فإن الموقع العسكري الاستراتيجي للصين في جيبوتي مكنها من الحفاظ على وجود بحري أكبر في الشرق الأوسط من الأسطول الخامس الأميركي في كثير من المناسبات.

ونتيجة لذلك، سمح هذا الخلل لإيران، كما هو متوقع، بزيادة دعمها العسكري بشكل تدريجي للمتمردين الحوثيين في اليمن، وتزويدهم مع مرور الوقت بالوسائل اللازمة لتعطيل حرية حركة الشحن التجاري عبر البحر الأحمر بشكل كبير.

مصلحة أميركا

اليوم، باتت المصلحة الوطنية الأساسية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط في خطر. وللمرة الأولى منذ أربعة عقود، تواجه المصلحة الوطنية الأساسية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، التي ارتكز عليها الرؤساء الأميركيون المتعاقبون، والمتمثلة في ضمان حرية الملاحة والتدفق السلس للتجارة، تهديدات حقيقية بشكل متزايد.

إن دعم إيران للمتمردين الحوثيين في اليمن، وتزويدهم بطائرات دون طيار مسلحة وصواريخ متقدمة مضادة للسفن، يعكس تكتيكاتها التخريبية في الخليج منذ أواخر الثمانينات. وقد ألحقت هذه الإجراءات أضرارا جسيمة بممرات الشحن التجارية ذات الأهمية الحيوية للتجارة العالمية، مما أثر بشكل خاص على البحر الأحمر وخليج عدن. وأدت هجمات الحوثيين اللاحقة إلى تعطيل أنماط التجارة العالمية، مما أجبر ما لا يقل عن تسعين في المئة من السفن، وخاصة سفن الحاويات التي تمر عادة عبر قناة السويس المصرية، على الإبحار بدلا من ذلك حول أفريقيا عبر رأس الرجاء الصالح.

وفي إجراء استراتيجي مضاد، صعدت الولايات المتحدة وجودها البحري في الشرق الأوسط، ونشرت مجموعتين هجوميتين لحاملات الأسلحة النووية بهدف ردع إيران عن المزيد من التصعيد والتصدي لتهديد الحوثيين بشكل مباشر.

من الأفضل مواجهة النفوذ الإيراني الخبيث في البحر ومن البحر

تحتوي كل مجموعة من هذه المجموعات الضاربة على حاملة طائرات نووية مع جناح جوي قوي من الطائرات المقاتلة والهجومية، وتدعمها بين 3 و5 طرادات ومدمرات مجهزة بنظام أسلحة إيجيس الجبار بالإضافة إلى غواصات هجومية. وقد وُضعت إحدى المجموعات في شرق البحر الأبيض المتوسط والثانية في البحر الأحمر.

وبالإضافة إلى ذلك، أرسلت الولايات المتحدة مجموعة استعداد برمائية ضمت حاملة طائرات من طراز "واسب" ومقاتلتين برمائيتين أخريين مع مشاة البحرية الأميركية المنتشرة في البحر الأحمر لحماية الشحن التجاري من هجمات الحوثيين. وللمرة الأولى منذ الانسحاب من أفغانستان، كان للأسطول الخامس الأميركي قوة بحرية منتشرة يمكنها القتال والردع.

وقد أظهرت عمليات النشر الاستراتيجية هذه أيضا خفة الحركة والقدرة الجوهرية للقوات البحرية على تجميع القوة القتالية المتكاملة وإبرازها بسرعة في جميع أنحاء العالم استجابة للأزمات الناشئة.

الوجود البحري على المدى القصير والبعيد

من الأفضل مواجهة النفوذ الإيراني الخبيث في البحر ومن البحر. وينبغي تكليف القيادة المركزية الأميركية وتوفير الموارد اللازمة لقيادة مبادرة تهدف إلى منع الحوثيين من تعطيل التدفق الحر للتجارة في البحر الأحمر وخليج عدن. ومن الطبيعي أن تقليص قدرات الحوثيين بشكل فعال سيُظهر تصميم الولايات المتحدة وينقل رسالة قوية إلى طهران مفادها أن الولايات المتحدة مجهزة لمواجهة العناصر الأخرى في شبكة التهديد الإيرانية.

ومن خلال تعاون الشركاء العرب والحلفاء الأوروبيين، ينبغي على الولايات المتحدة إقامة حظر بحري شامل للحد بشكل كبير ليس فقط من القدرات الحالية للحوثيين ولكن أيضا من خطوط دعمهم اللوجستي.

وعلى المدى الطويل يجب على الولايات المتحدة أن تعلن التزامها وتصميمها، وإعادة ضبط الردع.

تستطيع أميركا الحفاظ على تأثير رادع بإبقاء إيران في حالة من عدم اليقين بشأن توقيت ووجود قوة قتالية كبيرة في المنطقة

هناك مصلحة وطنية أميركية ثانية دائمة في الشرق الأوسط، وقد جرى توضيح هذه المصلحة بشكل جيد أيضا في استراتيجية الأمن القومي الأميركية: "نحن ملتزمون بالانخراط في الدبلوماسية لمنع إيران من الحصول على سلاح نووي. وفي الوقت نفسه، سنبقى على استعداد لاستخدام استراتيجيات بديلة في حالة فشل الجهود الدبلوماسية. لن نتسامح مع التهديدات من إيران ضد الموظفين الأميركيين، بما في ذلك المسؤولون الحاليون والسابقون.

ناتالي ليس/المجلة

وكما ثبت في الماضي، سنتخذ إجراءات حاسمة ردا على أي هجمات على شعبنا ومصالحنا". ومن أجل دعم هذه المصلحة الوطنية، بعد تحييد التهديد الحوثي للشحن التجاري، يجب على الولايات المتحدة الاستفادة من قدرات النشر المرنة لقواتها البحرية، بالتنسيق مع وحدات مختارة من القوات المشتركة.

 وينبغي لهذه القوات، التي يمكن أن تشمل مجموعات حاملات الطائرات الهجومية ومجموعات الاستعداد البرمائية، أن تتبنى نمط انتشار منتظم وغير متوقع في الشرق الأوسط.

وينفي هذا النهج الحاجة إلى وجود إقليمي طويل الأمد يستنزف الموارد والاستعداد. ومن خلال نشر قوات غير معلنة من الغرب والشرق، تستطيع الولايات المتحدة الحفاظ على تأثير رادع من خلال إبقاء إيران في حالة من عدم اليقين بشأن توقيت ووجود قوة قتالية كبيرة في المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، تهدف هذه الاستراتيجية إلى إعادة تأكيد التزام الولايات المتحدة تجاه شركائها العرب.

مسؤولية عربية أكبر

وبمرور الوقت، من الأهمية بمكان أن تتولى الدول العربية قدرا أعظم من المسؤولية عن حماية تدفق التجارة عبر الممرات المائية الحيوية في الشرق الأوسط. وبمرور الوقت سيشكل ذلك خطوة كبيرة إلى الأمام في التحرك نحو هدف الدفاع العربي من قبل الدول العربية.

وفوق ذلك، ينبغي توسيع الجهود الرائدة التي تبذلها "فرقة العمل 59" بشكل كبير لتعزيز قدرات الاستخبارات والإنذار في جميع أنحاء المنطقة.

الوجود البحري الأميركي حجر الزاوية لتعزيز الشراكات والردع والاستقرار الإقليمي

وينبغي أن يشمل هذا التوسع المشاركة النشطة من الشركاء العرب وغيرهم من الشركاء الإقليميين في تبني هذه الاستراتيجية الأكثر فعالية من حيث التكلفة، مقارنة بالقوات البحرية التقليدية. إن تسليح هذه الأصول في نهاية المطاف لن يؤدي إلى تعزيز قدراتها الدفاعية فحسب، بل سيعزز أيضا قيمتها الرادعة، مما يساهم في جعل المنطقة أكثر استقرارا وأمانا.

إن الوجود البحري الأميركي في الشرق الأوسط مهم، وعندما يقترن بدور الولايات المتحدة القيادي والتزامها يكون له تأثير استراتيجي يمكن أن يضمن حماية المصالح الوطنية الأميركية الأساسية ويغدو حجر الزاوية لتعزيز الشراكات والردع والاستقرار الإقليمي.

font change

مقالات ذات صلة