مصر تفرح بالاتفاق مع "صندوق النقد الدولي"... ولكن

رفع الفائدة إلى مستوى تاريخي والبنك المركزي يراهن على قدرة الاقتصاد على الصمود أمام التحديات

أ.ف.ب.
أ.ف.ب.
فرقة "باغاد لان بيهو" لموسيقى القربة التابعة للبحرية الفرنسية، تعزف في أهرامات الجيزة عام 2020

مصر تفرح بالاتفاق مع "صندوق النقد الدولي"... ولكن

يأمل المصريون خيراً بعد موافقة "صندوق النقد الدولي"، على منح مصر قرضا بنحو 9.2 مليارات دولار، بزيادة ثلاثة مليارات دولار عما كان متداولا في السابق، وذلك بعد أشهر عصيبة مرت على الاقتصاد المصري لم تشهدها مثلها البلاد من قبل، ضغوطا تضخمية، وارتفاعا للأسعار بصورة غير مسبوقة، وتوسعا في الفجوة التمويلية.

بتوقيع الاتفاق مع الصندوق اكتملت الإجراءات التصحيحية التي بدأ تطبيقها خلال الأسابيع الأخيرة، انطلاقاً من إلغاء الإعفاء الضريبي على النشاط الاقتصادي للحكومة، وخفض الإنفاق الاستثماري من موازنة السنة المالية الجارية بنسبة 15 في المئة، وعدم البدء بمشاريع جديدة خلال تطبيق الخطة.

ترافق ذلك مع إقرار حزمة حماية اجتماعية بدأ صرفها للمصريين في الشهر الجاري، من خلال زيادة الرواتب والمعاشات ورفع الحد الأدنى للأجور، وتوفير إعفاء ضريبي للعاملين في القطاع العام والخاص، ووصولا إلى ما اتخذه المصرف المركزي من قرارات استباقية لتوقيع القرض في اليوم نفسه، من رفع لمعدلات الفائدة ثم تحرير سعر الصرف الجديد رسميا اعتبارا من 6 مارس/آذار 2024 وارتبط كل ذلك بإجراءات تشديد نقدي من المصرف المركزي وتشديد مالي من وزارة المالية، وتحفيز القطاع الخاص لممارسة النشاط الاقتصادي من خلال مجموعة من الإجراءات الحكومية .

وسبق هذه الإجراءات قبل أسبوعين، صفقة "رأس الحكمة" التي نجحت، بشراكة استثمارية ضخمة مع دولة الإمارات إلى جانب اتفاقات أخرى لتدبير سيولة بالدولار الأميركي تصل خلال الشهرين الجاري والمقبل الى 35 مليار دولار، مما سهل إنجاح عملية تحرير سعر صرف الجنيه.

أ.ف.ب.
لقطة من العمل الفني "أحلام في الجيزة" للفنان الكاميروني باسكال مارتين تايو في أهرامات الجيزة خلال معرض فني مصري عام 2022

ومع ابرام هذه الصفقة اكتملت جهوزية الحكومة المصرية لتوقيع الاتفاق مع "صندوق النقد الدولي" الذي يعد اتفاقا مهماً، ومرحلة مفصلية جديدة لتحسين تصنيف مصر الائتماني، بما يعزز جاذبية السوق المصرية للاستثمارات الأجنبية سواء مباشرة أو غير مباشرة، في حين أن الاتفاق يعيد الاقتصاد المصري إلى سكة المسار الطبيعي، في حال نفذت الاصلاحات.

توقيع الاتفاق مع "صندوق النقد الدولي" واجراءات المصرف المركزي يمثلان رسالة طمأنة إلى المؤسسات والمستثمرين، وتسريع برنامج تخصيص المؤسسات الحكومية، لكن تحرير سعر الصرف سيتسبب بموجة تضخم جديدة

واذ ينهي الاتفاق مع الصندوق حال الارتباك الاقتصادي التي كانت تسيطر على السوق المصرية خلال الآونة الأخيرة، لكن الأمر لا يخلو من تحديات، ولا سيما لجهة تكلفة الإجراءات الحمائية الاجتماعية للأجور والمعاشات التي بلغت نحو 180 مليار جنيه (3.65 مليارات دولار).

ضرورة تكوين رؤية واضحة للاقتصاد

لمواجهة التحديات المقبلة، يرى الاقتصاديون أن ثمة حاجة ملحة إلى إدارة حكيمة في الوقت الراهن لاستكمال عملية تحرير سعر الصرف بنجاح، وتقييم السياسات الاقتصادية الكلية التي حدثت في الفترة الماضية، وتكوين رؤية كلية واضحة للاقتصاد المصري، ومخطط إجراءات تنفيذية لا تتعارض مع هذه الرؤية، لتحقيق مسار اقتصادي ناجح يراعي الواقع المحلي والمتغيرات الدولية، ويستفيد من تجارب السنوات الماضية من أجل نموذج اقتصادي أكثر تطوراً.

ويرى المحللون أن القرارات التي اتخذها المصرف المركزي وتوقيع الاتفاق مع الصندوق يمثلان رسالة طمأنة إلى المؤسسات والمستثمرين تؤدي إلى زيادة الاحتياطات من العملات الأجنبية ودفع عجلة الاقتصاد إلى الأمام، والمساهمة في النمو الاقتصادي، مما سيكون له الأثر الأكبر في تسريع تنفيذ الحكومة برنامج الطروح الحكومية للتخصيص الذي لم يحقق المأمول منه حتى الآن.

لكن تحرير سعر الصرف قد تنتج منه موجة تضخمية خلال الفترة المقبلة على أسعار السلع والبضائع والخدمات، لذلك اتخذ المصرف المركزي قراراً استباقياً يحتوي معدلات التضخم برفع معدلات الفائدة على الجنيه المصري ستة في المئة، لتصل على الايداع والاقراض إلى 27.25 في المئة، إضافة إلى طرح شهادات استثمار بعائد استثماري تاريخي لم يسبق له مثيل في تاريخ الاقتصاد المصري وذلك عند 30 في المئة على الأوعية الادخارية الاستثمارية.

وبذلك تحتل مصر المرتبة السادسة عالمياً على قائمة الدول ذات معدل الفائدة الأعلى، وكان ذلك من متطلبات صندوق النقد في برنامج الإصلاح الاقتصادي الجديد لدفع معدل التضخم إلى المنحنى النزولي وصولاً إلى رقم أحادي بعدما قارب 40 في المئة في بعض أشهر العام المنصرم.

وفي الوقت نفسه يلوح في الأفق بأن هذه القفزة الجديدة في معدلات الفائدة من شأنها الضغط على الاستثمار، إلى جانب خلق حال من الركود في الإقراض والتمويل الداخلي للمستثمرين، مما يحدث تذبذباً وركوداً في حركة الإقراض في المصارف إذا لم يحدث جديد في الفترة المقبلة.

التحرير الخامس لسعر الصرف منذ 2016

حررت مصر سعر الصرف للمرة الأولى في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، فيما كان التعويم الثاني في مارس/آذار 2022، إذ خفض الجنيه من 15.77 جنيها للدولار إلى 19.7 جنيها للدولار بتراجع 25 في المئة، بينما كان التعويم الثالث في أكتوبر/تشرين الأول 2022 إذ خفض الجنيه من 19.7 جنيها للدولار إلى 24.7 جنيها للدولار بتراجع 25.4 في المئة، في حين كان التعويم الرابع والأخير في يناير/كانون الثاني2023 وتقرر خفض الجنيه من 24.7 جنيها للدولار إلى 31 جنيهاً للدولار بتراجع 30 في المئة.

رفع معدلات الفائدة 6% وشهادات الادخار إلى 30% لتحتل مصر المرتبة السادسة عالميا على قائمة الدول ذات أعلى معدلات الفائدة

ويأتي توقيع اتفاق صندوق النقد بقيمة ثمانية مليارات دولار، اضافة الى 1.2 مليار دولار من ضمن برنامج الصلابة والاستدامة والمرونة. وتنتظر مصر مزيداً من ضخ المليارات من جانب الشركاء التجاريين، أو ما يقرب من 12 مليار دولار في الفترة المقبلة، مما سيوفر جزءاً كبيراً من النقد الأجنبي لاحتياجات الدولة وسيعالج العديد من الملفات التي كانت مصر تعاني منها بسبب النقص في العملات الأجنبية، سواء البضائع المتكدسة في الموانئ من مستلزمات إنتاج ودواء وغذاء، مثل السكر الذي اختفى أخيراً من الأسواق وارتفع سعره من 12 جنيهاً إلى 75 جنيهاً للكيلوغرام في السوق الموازية ولم يتوافر بعد. ووعدت الحكومة باستيراد مليون طن من السكر في الفترة المقبلة.

EPA
فوانيس رمضان استعدادا للشهر المبارك في إحدى أسواق القاهرة، 4 مارس 2024

ويؤمل أيضاً القضاء على السوق الموازية للدولار التي كانت من أكبر التحديات التي واجهت الحكومة خلال الفترة الماضية، ويتوقع تحسن مصادر العملات الأجنبية، مثل تحويلات المصريين في الخارج التي انخفضت بنسبة 30.8 في المئة إلى 22.1 مليار دولار في 2022-2023، وزيادة الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي انخفضت بنحو 30.3 في المئة في الربع الأول من 2023-2024.

ارتفاع الصادرات والاحتياط

 في المقابل يراهن الخبراء على ارتفاع الصادرات المصرية، التي نجحت عام 2023 في تحقيق معدلات نمو ملموسة بلغت نحو 35.631 مليار دولار، وتجاوزت أرقام عام 2022، وذلك على الرغم من تتابع الأزمات الاقتصادية على الصعيدين الإقليمي والعالمي، بحسب بيانات رسمية. هذا ناهيك عن زيادة الاحتياط من العملات الأجنبية المتوقعة في الفترة المقبلة.

ودأب مسؤولون في صندوق النقد في الآونة الأخيرة على القول إن زيادة التمويل لبرنامج مصر مهم لنجاحها بعد تعرضها إلى صدمات خارجية، وإن استقرار مصر مهم للمنطقة بأكملها، وإن غالبية التأثير المباشر للحرب في غزة على مصر يتمثل في خفض حركة المرور في قناة السويس بنسبة 55-60 في المئة. وبحسب الصندوق جرى التوصل إلى اتفاق مع السلطات المصرية على العناصر الرئيسة في تعديلات البرنامج في إطار المراجعتين الأولى والثانية اللتين جرى دمجهما لإقراض مصر مبلغاً قفز من ثلاثة مليارات دولار إلى ثمانية مليارات دولار، إضافة إلى قرض الاستدامة البالغ 1.2 مليار دولار.

ويعود تاريخ الاتفاق على البرنامج الذي تعثر بين مصر والصندوق إلى نهاية ديسمبر/كانون الأول 2022، إذ وافق الأخير على تقديم ثلاثة مليارات دولار إلى مصر التي كانت تتعرض إلى ضغوط مالية قوية، في حين يجري 8 مراجعات لبرامجها الإصلاحية، الأولى منها كانت مقررة في مارس/آذار 2023، لكنها لم تستكمل.

وكان صندوق النقد خفض توقعاته لنمو الاقتصاد المصري في السنة المالية الجارية 2023-2024 بواقع 0.6 نقطة مئوية مقارنة بتوقعات سابقة إلى ثلاثة في المئة. وتوقع أن يرتفع نمو الاقتصاد المصري إلى 4.7 في المئة في السنة  المالية المقبلة 2024-2025، مما يمثل خفضاً للتوقعات بواقع 0.3 نقطة مئوية أيضاً عن تقديرات الصندوق الصادرة في أكتوبر/تشرين الأول. وبحسب تقديرات الصندوق، سجلت مصر نمواً نسبته 3.8 في المئة في السنة المالية 2022-2023 وفق تقرير آفاق الاقتصاد العالمي.

مصر تعرضت لصدمات خارجية واستقرارها مهم للمنطقة بأكملها، حرب غزة أثرت كثيرا عليها، وتراجعت حركة المرور في قناة السويس بنسبة تصل إلى 60 في المئة 

مسؤولون في "صندوق النقد الدولي"

وحافظ المصرف المركزي على عدم تحريك سعر صرف الجنيه أمام الدولار منذ نحو سنة عند 30.85 جنيها خلافاً للاتفاق السابق مع صندوق النقد باعتماد سعر صرف مرن، لكن السعر كان أكثر مرونة في السوق السوداء، حيث جرى تداوله عند مستوى 50 جنيهاً بعدما لامس 75 جنيهاً قبل أن تعلن مصر عقد الصفقة الضخمة مع دولة الإمارات العربية المتحدة في شأن مشروع "رأس الحكمة" على الساحل الشمالي قبل أيام بقيمة 35 مليار دولار.

سياسات البنك المركزي

وتأتي قرارات لجنة السياسات النقدية المصرفية في المصرف المركزي المصري بزيادة الفائدة بنحو ستة في المئة كأكبر معدل يشهده الاقتصاد المصري، برفع معدلي عائد الإيداع والإقراض لليلة واحدة ومعدل العملية الرئيسة للمصرف المركزي بواقع 600 نقطة أساس ليصل إلى 27.25 في المئة للائتمان، و28.25 في المئة على الإقراض.

أ.ف.ب.
مبنى البنك المركزي المصري

وترى لجنة السياسة النقدية أن قرار رفع معدل العائد الأساسي سيساعد في تقييد الأوضاع النقدية على نحو يتسق مع المسار المستهدف لخفض معدلات التضخم. ويعتبر توحيد سعر الصرف إجراء بالغ الأهمية، حيث يساهم في القضاء على تراكم الطلب على النقد الأجنبي في أعقاب إغلاق الفجوة بين سعر صرف السوق الرسمية والموازية. وأصدر المصرف المركزي شهادات بعائد 30 في المئة بهدف معالجة التضخم، وتعويض المودعين، وجذب شريحة من العملاء، وهي رسالة تفيد بأن معدل التضخم سينخفض بعد قرارات المركزي الجديد وهو الأمر الذي لم يصدقه المواطن في الشارع المصري وينتظر مزيدا من الارتفاعات في الأسعار والخدمات والمحروقات التي تلهب جيوب الناس ويكتوي الجميع بنارها.

للمزيد إقرأ: قراءة صريحة لتحديات الاقتصاد المصري

ووصف بعض المسؤولين اتفاق صندوق النقد وقرارات المصرف المركزي مع الحكومة المصرية بأنها "بناءة للغاية"، وتوقعوا أن تجلب حزمة تمويل أخرى من باقي شركاء التنمية، مثل البنك الدولي والاتحاد الأوروبي وغيرهم سيوفرون قروض ميسرة للدولة المصرية، وبذلك تكون مصر في صدد برنامج متكامل بأرقام مهمة تمكن البلاد من تحقيق الاستقرار النقدي والاستمرار في برنامج الإصلاح الاقتصادي، والأهم العودة الى القطاع الخاص ليكون المساهم الأكبر في الاقتصاد، ورحب البعض باتخاذ الحكومة قراراً لوضع سقف للاستثمارات العامة الإجمالية بنحو مليار و272 مليون دولار، بينما توقع قطاع عريض من المصريين مزيداً من المعاناة والإحباط الفترة المقبلة.

"فيتش" مرتاحة لإجراءات مصر

ووصفت وكالة "فيتش" للتصنيفات الائتمانية الإجراءات التي اتخذها المصرف المركزي بالخطوة الإيجابية نحو وصول مصر إلى النور في نهاية النفق، مؤكدة "أن المصرف المركزي جاد في خفض التضخم، ورفع معدل الفائدة بما يكفي لعودة معدلات الفائدة الحقيقية الإيجابية".

وأوضحت أن "العوائد على السندات الحكومية ستصبح إيجابية، وستنحسر أخطار صرف العملات الأجنبية، وسيستقر سعر الصرف عند 50 جنيهاً حتى نهاية العام". وقالت الوكالة إن تلك الإجراءات تساعد على جذب التمويل الأجنبي، وإن الحملة الأمنية على تجار الأموال والمضاربين إيجابية، وإن الإجراءات ككل أدت إلى تعزيز قيمة العملة المحلية.

أ.ف.ب.
فرقة موسيقية بالملابس المصرية القديمة تؤدي عرضا قبل معرض الأهرامات الجوي في 3 أغسطس 2022

وعلى رغم الترحيب والثناء على القرارات لدى البعض من تحرير سعر الصرف ورفع الفائدة للوصول إلى الطموحات المأمولة، لكن هناك ضريبة ستدفعها قطاعات عريضة من المواطنين وأصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة ولا سيما في القطاع الصناعي الذي سيتأثر سلباً من رفع الفائدة بسبب ارتفاع تكلفة التمويل وانعكاسه على تكلفة الإنتاج، وسيصب ذلك كله في أسعار السلع التي سيدفعها المستهلك شاء أم أبى.

font change

مقالات ذات صلة