أيام عصيبة للجنيه المصري... وتحديات جديدة

مزيد من ارتفاع الدولار في السوق السوداء مع تداعيات غزة وعسكرة البحر الأحمر

Shutterstock
Shutterstock

أيام عصيبة للجنيه المصري... وتحديات جديدة

تتسبب تداعيات الأزمات الجيوسياسية في المنطقة بأثمان باهظة تطاول دولا كثيرة، قريبة وبعيدة، لا سيما على مستوى حركة الملاحة والتجارة العالمية، وعسكرة البحر الأحمر جراء هجمات الحوثيين على السفن التي تعبره، ومن ثم الضربات التي توجهها القوات البحرية التابعة للولايات المتحدة والمملكة المتحدة إلى الجماعة الحوثية رداً على ذلك. ليست مصر في منأى من تلك التطورات، وخصوصا في ضوء تذبذب سوق العملات الذي انعكس سلباً على أداء الشركات الأجنبية في مصر، ودفع بعضها إلى التفكير في الخروج من السوق المصرية. هذا ناهيك عن حرب غزة التي دخلت شهرها الرابع ولا تزال دائرة بين إسرائيل و"حماس"، بما يرافقها من إشارات إلى خطورة الوضع في سيناء.

تتفاقم التأثيرات السلبية لهذه التحديات على التجارة العالمية، خصوصا بعدما فرضت على سفن الشحن البحري الاتجاه نحو طريق رأس الرجاء الصالح، بعيداً من مناطق النزاع، مما رفع تكلفة الشحن لطول المسافة. وقد انخفض حجم الدخل بالعملات الأجنبية الذي تحصل عليه مصر من رسوم عبور السفن في قناة السويس بنسبة 40 في المئة، علماً بأن مصر تستورد المواد الأولية والسلع الاستراتيجية الغذائية مثل القمح عبر القناة. وباتت الصدمات الخارجية المتراكمة جراء حرب روسيا وأوكرانيا، والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، تضغط على اقتصاد البلاد بشكل مقلق.

عجز الموازنة ونقص الاحتياط و"موديز" تبدل نظرتها المستقبلية الى مصر من "مستقرة" إلى "سلبية" في ظل وجود سعرين لصرف الدولار

فالتضخم آخذ بالارتفاع، وكذلك عجز الموازنة ونقص الاحتياط من العملات وتدني قيمة الجنيه الى مستويات جديدة، وثمة عدم وضوح في الرؤية المستقبلية للاقتصاد، في ظل عدم تلبية متطلبات المستوردين، وبات شبح البطالة يلوح في الأفق، بعد تغيير وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني نظرتها المستقبلية الى مصر من "مستقرة" إلى "سلبية" في ظل وجود سعرين لصرف الدولار، هذا عدا عن ارتفاع حجم القروض الخارجية إلى 165 مليار دولار، مع زيادة فوائد الديون الخارجية المستحقة خلال عام 2024، والتي باتت تضغط وسط شح الدولار، واتجاه الحكومة المستمر إلى الاقتراض كوسيلة من وسائل التمويل.

EPA
في انتظار مآل الدولار، واجهة أحد محلات االصيرفة في القاهرة

يتزامن ذلك كله مع الارتفاعات المتلاحقة في سعر الدولار في السوق الموازية عقب اندلاع حرب غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، من 40 إلى 57 جنيها، ووسط سعي الحكومة إلى مد آجال تسديد فوائد الديون خلال السنوات المقبلة، واستبعاد مصرف "جاي. بي. مورغان" الأميركي مصر من مؤشر السندات الحكومية للأسواق الناشئة، على خلفية مشكلات تتعلق بقابلية تحويل النقد الأجنبي إلى المستثمرين خارج البلاد، على أن يسري قرار الاستبعاد بدءاً من 31 يناير/كانون الثاني، أي بعد مرور سنتين على انضمام مصر إلى المؤشر.

كذلك، تتعرض البلاد إلى مزيد من الضغوط جراء انخفاض تحويلات المصريين العاملين في الخارج، وباتت نسبة لا يستهان بها خارج منظومة الجهاز المصرفي، فيما يحتفظ بعضهم بجزء من مدخراتهم في الخارج، عند انخفاض سعر العملة بفارق كبير عن قيمتها في السوق السوداء، وارتفاع معدل التضخم. وتاليا، تبحث الحكومة المصرية عن بدائل، مثل الشركة الجاري تأسيسها لتصدير العقار المصري، أي بيعه إلى مستثمرين أجانب، والتدقيق في أعداد اللاجئين إلى مصر ومنحهم الإقامة لمدة خمس سنوات في مقابل أن يسددوا رسومها بالدولار.

وهناك مساعٍ حثيثة ومفاوضات جارية في مصر مع مسؤولي صندوق النقد الدولي لتسلم الشريحتين التي كان يفترض حصول القاهرة عليهما بقيمة 700 مليون دولار، وتأخر ذلك لعدم تنفيذ الحكومة مطالب الصندوق بضرورة رفع الدعم بشكل تام عن المنتجات البترولية وكثير من المواد الغذائية، وخروج الحكومة من النشاط الاقتصادي وطرح شركات للخصخصة. لكن هناك مخاوف سياسية من تأثير هكذا إجراءات سلباً على المصريين، في ظل ارتفاع معدل التضخم الذي تجاوز في الشهور الماضية 40 في المئة وانخفض إلى 33,7 في المئة في ديسمبر/كانون الأول 2023 على الرغم من عدم انخفاض الأسعار التي ترتفع بصورة شبه يومية، ناهيك عن المخاوف من إحداث قلاقل اجتماعية في حال تعويم الجنيه المصري.

أزمة قناة السويس

وأدت التطورات العسكرية في البحر الأحمر الى تحويل الملاحة التجارية بعيداً من قناة السويس إلى زيادة الضغط على الاقتصاد المصري، لتصبح الحاجة أكبر إلى إجراءات إصلاحية والحصول على مساعدات من الخارج. وانخفضت الموارد الرئيسة للعملة الأجنبية بنسبة كبيرة بسبب تراجع السياحة نتيجة الاضطرابات الإقليمية، كما تراجعت تحويلات العاملين في الخارج بنسبة 30,8 في المئة في العام المالي 2022-2023 لتصل إلى 22,1 مليار دولار، في مقابل 31,9 مليار دولار العام المالي السابق، وفق بيانات المصرف المركزي ووزارة التخطيط. واستغل التجار الأزمة فرفعوا الأسعار تبعا لارتفاع تكلفة البضائع نتيجة إبحار السفن عبر طريق رأس الرجاء الصالح.

وإذا ما استمر انخفاض إيرادات السويس، فقد يمثل انتكاسة كبيرة للاقتصاد كونها مصدر مباشر لإيرادات النقد الأجنبي للحكومة. يذكر أن دخل قناة السويس عام 2023 بلغ نحو 10,1 مليارات دولار.

ويؤكد خبراء اقتصاديون أن ارتفاع حصيلة السياحة الأجنبية الى مصر إلى أكثر من 13 مليار دولار قبل أزمة غزة، لم يكن مفيداً جداً، إذ أن جزءاً من حصيلتها يتسرب إلى الخارج، ذلك أن بعض شركات السياحة تحتفظ بجزء من المكاسب في حساباتها في الخارج، وثمة تردد في الاستثمارات العربية والأجنبية المباشرة في الوقت الراهن لضخ الأموال في السوق المصرية. ووجه عدد من الاقتصاديين اللوم إلى حكومة البلاد لتوسعها في مشاريع ضخمة للبنية التحتية، في وقت لم تكثف جهودها للمشاريع الصناعية والزراعية.

أدى تحويل الملاحة التجارية بعيداً من قناة السويس إلى زيادة الضغط على الاقتصاد المصري، اضافة الى تراجع تحويلات العاملين في الخارج بنسبة 30,8 في المئة

وكانت وكالة "موديز" للتصنيفات الائتمانية غيرت نظرتها المستقبلية الى مصر من "مستقرة" إلى "سلبية"، مشيرة إلى الأخطار المتزايدة المتمثلة في استمرار ضعف الوضع الائتماني للبلاد وسط صعوبة إعادة التوازن الى الاقتصاد الكلي وسعر الصرف. وكان من المتوقع أن يؤدي استمرار الحصول على الدعم المالي الرسمي من صندوق النقد الدولي إلى زيادة قدرة مصر على تحمل الديون.

رد وزارة المال على "موديز"

وعلقت وزارة المال المصرية على خفض التصنيف السيادي لمصر عند "Caa1"، قائلة إن مؤسسة "موديز" لم تأخذ في اعتبارها الجهود الحالية للحكومة، إذ أن برنامج "الطروحات" يعزز قدرة البلاد على تلبية الاحتياجات التمويلية خلال العامين المقبلين، ويساهم في جذب مزيد من التدفقات الاستثمارية، ويحد من الاحتياج للتمويل الخارجي. وأشارت الوزارة إلى نجاح الدولة في التخارج من عدد من الأنشطة الاقتصادية بقيمة 3,5 مليارات دولار من ضمن برنامج "الطروحات" بما يساعد على زيادة تدفقات النقد الأجنبي.

Shutterstock

وأشارت الوزارة في بيان، إلى إمكان الحصول على نحو خمسة مليارات دولار سنوياً بشروط ميسرة من المصارف التنموية المتعددة الأطراف، الأمر الذي يعكس ثقة هذه المؤسسات الدولية في المسار الاقتصادي الذي تنتهجه الحكومة المصرية بسياسات مالية أكثر قدرة على تحقيق الانضباط المالي، والحفاظ على تسجيل فائض أولي بشكل مستدام، مع المضي في تنفيذ إصلاحات هيكلية تعزز النمو الاقتصادي من خلال إفساح المجال بشكل أكبر للقطاع الخاص باعتباره قاطرة التنمية الشاملة.

وأوضحت أن الحكومة حددت مصادر توفير الاحتياجات التمويلية الخارجية للموازنة العامة للدولة حتى نهاية السنة المالية الحالية المقدرة بأربعة مليارات دولار، مع الاستمرار في تنويع الأسواق الدولية، "ولا سيما بعدما نجحنا في العودة مجدداً إلى الأسواق اليابانية، وقد جرى تنفيذ الإصدار الدولي الثاني من سندات الساموراي بقيمة 75 مليار ين ياباني (نحو نصف مليار دولار)، بتسعير متميز للعائد الدوري بمعدل ١,٥ في المئة سنوياً، وبأجل خمس سنوات، وإصدار سندات دولية مستدامة في السوق المالية الصينية "الباندا"، التي تخصص لتمويل مشاريع بنحو 3,5 مليار يوان صيني (نحو نصف مليار دولار).

يمكن الحصول على نحو خمسة مليارات دولار سنوياً بشروط ميسرة من المصارف التنموية المتعددة الأطراف، ولا سيما بعد نجاح الإصدار الثاني من سندات الساموراي اليابانية و"الباندا" الصينية

وزارة المال المصرية

وأكد البيان "أننا نعمل على وضع معدلات الدين للناتج المحلي في مسار نزولي" ولفت إلى أن هذه المعدلات "متأثرة في الوقت الحالي بالتضخم وارتفاع أسعار الفائدة وأسعار الصرف". وأشار إلى أن الإجراءات الجديدة والتدابير الإصلاحية لإدارة الدين الحكومي تشمل وضع سقف ملزم للأعباء السنوية لضمان المسار النزولي لمعدل الدين للناتج المحلي وصولاً إلى أقل من 85 في المئة مع نهاية يونيو/حزيران 2028، وإطالة عمر دين أجهزة الموازنة ليبلغ أربع سنوات في المدى المتوسط بدلاً من ثلاث سنوات في الوقت الحالي، لتقليل الحاجة إلى التمويلات السريعة.

تكهنات بزيادة قرض صندوق النقد

وفقا للسياسي المصري وأستاذ الاقتصاد في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، الدكتور فخري الفقي، الذي قال في حديث إلى "المجلة"، "إن سوق الصرف في مصر غير منظمة وغير رسمية وباتت تغلب عليها الحيرة"، وتساءل: "كيف يجري الاستثمار في سوق لديها سعران للصرف من العملة الأجنبية، ومع مرور الوقت ترتفع الفجوة بين السعر في المصارف المصرية حيث يصل السعر إلى 30,96 جنيها للدولار بينما وصلت المضاربات في السوق الموازية إلى ما يزيد على 57 جنيهاً للدولار مما يترتب عليه تفاقم الآثار السلبية على الحصيلة الدولارية التي تدخل في خزينة الدولة".

ورأى الفقي أن الفجوة بين السعرين الرسمي والموازي تزداد في ظل اشتعال المضاربات، انتظاراً لما يسفر عنه الأمر في مباحثات المؤسسات المالية، ولا سيما مع صندوق النقد حالياً، الذي يطالب بمرونة في سعر الصرف، وأشار إلى "أن المرونة لها متطلبات ومن ضمنها المجازفة بالأمن القومي المصري، فلو تحققت مرونة سعر الصرف لتزايدت معدلات التضخم وتفاقمت، بما يؤدي إلى عدم الاستقرار الاجتماعي وبالتالي المساس الأمن القومي، وهو الأمر الذي عبرت عنه القيادة السياسية في برج العرب". ولفت إلى أن ما حدث في الفترة الأخيرة في غزة أضاف أعباء شديدة على مصر، وكذلك النزاع الدائر حالياً بين طرفي القوات المسلحة في السودان، الذي أدى إلى نزوح العديد من أبناء الشعب السوداني إلى مصر، ناهيك عما يحدث بسبب الانقسام في ليبيا، والتوترات التي يفرضها الحوثيون على الملاحة في باب المندب والبحر الأحمر وتأثر حركة الملاحة في قناة السويس.

حجم الديون المستحقة على مصر 32,8 مليار دولار، إضافة إلى 6,7 مليارات دولار قروض قصيرة الأجل مستحقة في عام 2024 ، ليصل الإجمالي إلى 39,5 مليار دولار 

الخبير الاقتصادي الدكتور خالد الشافعي

وعن مباحثات مصر مع صندوق النقد، قال الفقي إن مصر تنتظر في الوقت الحالي المراجعتين للشريحتين اللتين تبلغ قيمة الواحدة منهما 350 مليون دولار، وتأمل الحكومة في الحصول على الشريحتين اللتين كان صرفهما مقرراً عام 2023 بعدما أوفت مصر كل التزاماتها تقريباً، ما عدا مرونة سعر الصرف. وأوضح قائلاً: "على غرار أي دولة من أعضاء صندوق النقد تمر بأزمات إقليمية مثل أزمة غزة، يمكن للدولة المصرية أن تطلب إتمام المراجعتين المؤجلتين، وإرجاء المرونة بعد إتمام المراجعتين، كما تنوي الحكومة التقدم بطلب استثنائي بقرض تمويل ميسر باسم الاستدامة والصلابة بقيمة 1,350 مليار دولار، على أن يُسدَّد على مدى 20 سنة، ليصبح إجمالي القروض ملياري دولار". وأوضح الفقي أن الحصول على قرض التمويل يستلزم ألا يكون لدى البلاد سجل تعثر في التسديد من قبل، وهذا ينطبق على مصر، التي ستبدأ منتصف مارس/آذار 2024 باعتماد مرونة سعر الصرف عقب المراجعة الثالثة.

حجم الديون المستحقة على مصر

في المقابل، أكد الخبير الاقتصادي الدكتور خالد الشافعي لـ"المجلة" أن المصرف المركزي يقدر حجم الديون المستحقة على مصر بـ32,8 مليار دولار إضافة إلى 6,7 مليارات دولار قروض قصيرة الأجل مستحقة في عام 2024 ليصل الإجمالي إلى 39,5 مليار دولار. وقال: "تحتاج مصر إلى الكثير لإعادة تنظيم هذه القروض وتسديدها بالكفاية والآلية من دون تأثيرات سلبية في اقتصادها".

Shutterstock

يذكر أن مجلس محافظي صندوق النقد وافق على زيادة حصص الدول الأعضاء في الصندوق بنسبة 50 في المئة، طبقاً للمراجعة الـ16 نهاية ديسمبر/كانون الأول 2023، وتقدر حصة مصر بما يعادل 2,8 مليار دولار، وبذلك زادت مصر حصتها بمقدار 50 في المئة، مما يعطي مصر فرصة لمعالجة الظروف التي تمر بها والعمل على إقرار الصندوق أحقية مصر في زيادة سقف التمويل.

وثمة كلام يدور في الأوساط الاقتصادية يتناول تكهنات حول إقراض الصندوق مصر 6 مليارات دولار، تُحسَم منها المستحقات المطلوبة للتسديد للصندوق. وكانت مصر رفعت أسعار الكهرباء والوقود والغاز والخدمات المرورية وخدمات الهواتف الأرضية والخليوية. وينتظر الجميع ما سيحدث في المباحثات الجارية حالياً في مصر مع مسؤولي صندوق النقد، وكذلك إيجاد حلول بعيدة عن التعويم الذي ستكون له تداعيات سلبية في غياب إيرادات دولارية منتظمة، أولها، مزيد من الارتفاع في سعر الدولار في السوق الموازية.

font change

مقالات ذات صلة