السعودية وسؤال الملاحة في البحر الأحمر

الرياض تريد وقف الحرب الإسرائيلية على غزة

إ ب أي
إ ب أي
صورة وزعها "الحوثيون" لمروحية فوق سفينة "غالاكسي" في البحر الأحمر في 19 نوفمبر

السعودية وسؤال الملاحة في البحر الأحمر

في الرابع عشر من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، هدد الحوثيون في اليمن باستهداف السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر، وبعد عدة أيام نفذ الحوثيون تهديدهم وقاموا بالاستيلاء على سفينة الشحن "غالاكسي ليدر" المملوكة لرجل أعمال إسرائيلي، واقتيادها إلى الساحل اليمني، تضامنا مع "الفلسطينيين في قطاع غزة" بحسب زعم المتحدث العسكري للحوثيين يحيى سريع.

لاحقا، وتحديدا في التاسع من شهر ديسمبر/كانون الأول الحالي، أعلن الحوثيون في اليمن عزمهم منع مرور السفن المتجهة إلى إسرائيل أيا كانت جنسيتها، محذرين في الوقت نفسه "جميع السفن والشركات من التعاملِ مع الموانئ الإسرائيلية"، وهو موقف أكد عليه زعيم الحوثيين عبد الملك الحوثي يوم التاسع عشر من ديسمبر/كانون الأول الحالي، مهددا أن جماعته ستشتبك مع القوات الأميركية إذا حاولت الأخيرة منعها بالقوة من تحقيق أهدافها.

ولا شك أن تصعيد الحوثيين لإجراءاتهم ضد إسرائيل يتماشى مع ما قاله عبد الملك الحوثي يوم 11 أكتوبر/تشرين الأول، عندما أعلن في بداية الحرب الإسرائيلية على غزة أن جماعته ستضرب إسرائيل بالصواريخ والطائرات المسيرة، مضيفا أنه سيكون هنالك تدرج في المواجهة مع إسرائيل متفق عليه مع "محور المقاومة" قائم على عدد من الخطوط الحمراء، منها ما يتعلق بتطورات المعركة على الأرض في غزة، ومنها ما يتعلق بالتدخل الأميركي المباشر في الحرب، وهو ما يعني أن تصعيد الحوثيين في البحر الأحمر سيستمر إلى أن تتوقف الحرب.

أ ف ب
صورة للناقلة "سترنيدا" في البحر الأحمر في 12 ديسمبر 2023

لقد نفذ الحوثيون تهديدهم واستهدفوا اثنتي عشرة سفينة كانت في طريقها لإسرائيل، مما اضطرها لتغيير وجهتها. ووفقا لما أورده موقع "بلومبرغ"، فإن هناك أكثر من 180 سفينة شحن إما أنها قامت بتحويل طريق سيرها باتجاه رأس الرجاء الصالح بدلا من البحر الأحمر، وإما أنها وجدت ميناء قريبا ورست عليه إلى حين انتهاء الأزمة في البحر الأحمر.

لا ترى إسرائيل أن الحل لأزمتها يكمن في المواجهة المباشرة مع الحوثيين وإنما في قيام الولايات المتحدة بلعب هذا الدور نيابة عنها، رغم احتمال قيام تل أبيب بتوجيه ضربات مباشرة للحوثيين

بالإضافة لذلك، أوقفت العشرات من شركات الشحن رحلاتها البحرية عبر البحر الأحمر، منها شركات عملاقة مثل "بريتش بتروليوم"، و"فرونتلاين" القبرصية، و"ميرسك" الدنماركية، و"هاباج- ليود" الألمانية، و"سي إم إيه سي جي إم" الفرنسية، و"إم إس سي" الإيطالية- السويسرية، و"إيفرغرين" التايوانية. كذلك قفزت تكلفة نقل البضائع في حاوية بطول 40 قدما من آسيا إلى شمال أوروبا بنسبة 41 في المئة بعد هجمات الحوثيين، فيما ارتفعت فواتير شحن الوقود بسبب تجنب شركات النفط الكبرى وشركات الشحن الإبحار عبر البحر الأحمر. وفي المجمل تراجعت حركة السفن في ميناء إيلات الإسرائيلي بنسبة 85 في المئة بعد هجمات الحوثيين، وفق تقرير أوردته وكالة "رويترز".

وفي عام 1967 استندت إسرائيل إلى إغلاق الرئيس المصري جمال عبد الناصر لمضائق تيران في البحر الأحمر لتشن حربها على مصر وسوريا والأردن، بذريعة الحق في حرية الملاحة. هذه المرة تبدو إسرائيل عاجزة عن تغيير الواقع الجديد وحدها؛ فقد هددت- وعلى لسان رئيس مجلسها للأمن القومي تساحي هنغبي- بأنها ستقوم بالرد عسكريا، قائلا إن "نتنياهو أبلغ الرئيس الأميركي جو بايدن والمستشار الألماني أولاف شولتس عزم بلاده التحرك عسكريا ضد الحوثيين إذا لم يتخذا أي إجراءات ضدهم".

تبدو الولايات المتحدة مرتبكة؛ فهي لا تريد للحرب على غزة أن تتوسع، لأن توسعها سيضعها أمام خيارين: المشاركة في الحرب بشكل مباشر إلى جانب إسرائيل، أو ترك إسرائيل وحدها

لكن وعلى الرغم من أن إسرائيل قادرة على تنفيذ هجمات جوية ضد الحوثيين أو على ضربهم بصواريخ بعيدة المدى فإن ذلك لن يحل مشكلتها في البحر الأحمر؛ حيث سيستمر الحوثيون في استهداف سفنها والسفن المتجهة إليها. لذلك لا ترى إسرائيل أن الحل لأزمتها يكمن في المواجهة المباشرة مع الحوثيين وإنما في قيام الولايات المتحدة بلعب هذا الدور نيابة عنها، رغم احتمال توجيهها ضربات مباشرة للحوثيين.

أ ف ب
صورة أرشيفية لطائرات فوق حاملة الطائرات الأميركية "أزينهاور" في 2 يوليو العام 2013

من جانبها، تبدو الولايات المتحدة مرتبكة؛ فهي لا تريد للحرب على غزة أن تتوسع، لأن توسعها سيضعها أمام خيارين: المشاركة في الحرب بشكل مباشر إلى جانب إسرائيل، أو ترك إسرائيل وحدها.

لاعتبارات داخلية أهمها نفوذ اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة الذي يفرض على الإدارات الأميركية المتتالية تبني سياسات مؤيدة لإسرائيل، فإن توسع الحرب يعني مشاركتها فيها، وهو ما سيضطرها لإحضار عشرات الآلاف وربما مئات الآلاف من جنودها للمنطقة لحسم المعركة، وهذا يتعارض مع مصالحها والخطط التي وضعتها لاحتواء تصاعد النفوذ الصيني عالميا وهزيمة روسيا في أوكرانيا، خصوصا وأن أي حرب في المنطقة قد تستمر لسنوات مثلما حدث في العراق وأفغانستان.

لذلك فضلت الولايات المتحدة في البداية سياسة دفاعية وقامت بإسقاط طائرات الحوثيين المسيرة وصواريخهم البالستية عن طريق المدمرة الأميركية "كارني" الموجودة في البحر الأحمر. وبعد إعلان الحوثيين استهدافهم للسفن الإسرائيلية، قامت الولايات المتحدة بنقل مجموعة هجومية بقيادة حاملة الطائرات "دوايت دي آيزنهاور" من الخليج العربي إلى مضيق باب المندب، للتصدي للهجمات الحوثية ضد السفن الإسرائيلية.

رفضت السعودية أن تكون جزءا من القوة المشتركة التي شكلتها الولايات المتحدة. ويستند رفض المملكة إلى قناعة راسخة لديها بأن الحرب الإسرائيلية على غزة يجب أن تتوقف فورا، وأن ما تقوم به إسرائيل في غزة هو عملية تطهير عرقي

الآن ومع إعلان الحوثيين استهدافهم أية سفينة تتجه لإسرائيل، أيا كانت الدولة التي تمتلكها، قامت الولايات المتحدة في التاسع عشر من ديسمبر/كانون الأول بإطلاق "عملية حارس الازدهار"، وهي مبادرة أمنية تشتمل على تشكيل قوة متعددة الجنسيات تحت مظلة القوات البحرية المشتركة للعمل على تأمين حرية الملاحة في البحر الأحمر.

أ ب
وزير الدفاع الأميركي لويد اوستن في مقر القوات الاميركية في البحرين في 23 ديسمبر 2023

ووفق البيان الأميركي، تشتمل القوة البحرية متعددة الجنسيات على عشر دول، منها: بريطانيا، وكندا، وفرنسا، وإيطاليا، وهولندا، والنرويج، وإسبانيا (الأخيرة نفت أنها جزء من هذه القوة)، وعملها يتمحور حول التعامل مع التحديات الأمنية في جنوب البحر الأحمر وخليج عدن، وضمان حرية الملاحة.

ليس من الواضح بعدُ إن كانت مهام هذه القوة ستكون دفاعية وستكتفي فقط بالتصدي للهجمات الحوثية على السفن المتجهة إلى إسرائيل أم إنها ستكون هجومية وستستهدف المواقع التي تُطلق منها الصواريخ والمسيرات الحوثية، وهو ما يعني الدخول في حرب مع الحوثيين. هنالك تسريبات إعلامية تقول إن الولايات المتحدة تدرس القيام بوضع الحوثيين على قائمة الإرهاب والقيام بعمليات عسكرية ضدهم.

لا شك أن للبحر الأحمر أهمية كبيرة بالنسبة للمملكة العربية السعودية، فهي تحصل على 36 في المئة من وارداتها الخارجية عبر موانئها الموجودة عليه. وعلى ساحله الممتد 1830 كيلومترا من محافظة حقل شمالا إلى منطقة جازان جنوبا، تقام أهم مشاريع المملكة العملاقة المرتبطة برؤية 2030، وفي مقدمتها مشروع البحر الأحمر الذي تم الإعلان عنه عام 2017. هذا المشروع السياحي الذي يمتد لمسافة 200 كيلومتر بين مدينتي أملج والوجه يشتمل أيضا على تحويل 22 جزيرة في البحر الأحمر إلى منتجعات سياحية منها خمس جزر قيد التطوير والإنشاء أعلن سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان أنه سيتم افتتاحها عام 2024.

على الرغم من ذلك، رفضت المملكة أن تكون جزءا من القوة المشتركة التي شكلتها الولايات المتحدة. ويستند رفض المملكة إلى قناعة راسخة لديها بأن الحرب الإسرائيلية على غزة يجب أن تتوقف فورا، وأن ما تقوم به إسرائيل في غزة هو عملية تطهير عرقي بحق الشعب الفلسطيني، هدفها في النهاية تهجيره من أرضه.

أ ب
صورة جوية لغزة بعد قصف اسرائيلي في 10 اكتوبر

والمملكة أيضا ترى أن الولايات المتحدة تعارض إجماعا دوليا يتفق على وقف الحرب، تمثّل في تصويت 13 دولة في مجلس الأمن على وقف الحرب وإدخال المساعدات الإنسانية للفلسطينيين في غزة، وفي قيام 153 دولة بالتصويت على ذلك في الجمعية العامة للأمم المتحدة. والمملكة لهذا، وكما جاء على لسان وزير خارجيتها الأمير فيصل بن فرحان بكلمات قاطعة لا تحتمل التأويل: "لن تعمل مع أي دولةٍ كانت تساعد على تحقيق أهداف إسرائيل في تهجير الفلسطينيين".

كما ترى المملكة أن مشكلة حرية الملاحة في البحر الأحمر معقدة. جزء منها لا شك طارئ وهو مرتبط بحرب إسرائيل على غزة، وأن وقف العدوان الإسرائيلي سيخفف المشكلة وهو حل غير مكلف ومنسجم مع التزامات المملكة عربيا وإسلاميا وإنسانيا، ومع قرارات الجامعة العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ومع رغبة المجتمع الدولي أيضا في ذلك.

لقد سعت المملكة منذ بداية الحرب إلى عدم توسيعها، وهي ترى أن "عملية حارس الازدهار" قد تتدحرج إلى حرب تعطل الملاحة في البحر الأحمر بدلا من أن تيسرها. كما أن إعلان قائد القوات البحرية بالحرس الثوري الإيراني، علي رضا تنكسيري، عن تشكيل وحدة باسيج بحرية قادرة على القيام بعمليات عبر السفن الثقيلة والخفيفة حتى شواطئ تنزانيا، هو مؤشر جدي على مخاطر توسع هذه الحرب وانتقالها لمنطقة الخليج.

كما وقفت المملكة إلى جانب الفلسطينيين في حقهم المشروع بالدفاع عن أرضهم وأنفسهم وحقوقهم في السابق، فهي تقف إلى جانبهم اليوم حتى إيجاد حل عادل ودائم لقضيتهم المحقة

ويمكن القول هنا إن رفض المملكة المشاركة في القوة البحرية التي تريدها أميركا لحماية الملاحة في البحر الأحمر، لأنها- في حقيقة الأمر- قوة لحماية ملاحة السفن الإسرائيلية أو السفن التي تعمل من أجل إسرائيل. ولا مشكلة هنا لو كانت المعايير واحدة ويتم تطبيقها على جميع الدول، لكنها ليست كذلك.

أ ب
وزير الدفاع الأميركي لويد اوستن على حاملة الطائرات "فورد" في البحر المتوسط في 20 ديسمبر

في عام 2018 تعرضت سفن المملكة لهجمات من الحوثيين اضطرت خلالها لإيقاف تجارتها عبر البحر الأحمر لأشهر طويلة، إلى أن تمكن مبعوث الأمم المتحدة الخاص باليمن من التوصل لاتفاق مع الحوثيين أوقفوا بموجبه هجماتهم على السفن التجارية السعودية. في ذلك الوقت طلبت المملكة من الولايات المتحدة "تشكيل تحالف" لحماية السفن التجارية في البحر الأحمر، وطلبت وضع الحوثيين على قائمة الإرهاب، لكن الولايات المتحدة رفضت. وهنا من حق المملكة أن تتساءل: لماذا لم تكن حرية الملاحة مهمة في ذلك الوقت، بينما أصبحت حرية الملاحة مهمة اليوم؟

الإجابة بالطبع معروفة، وهي المعايير المزدوجة التي تطبقها الولايات المتحدة في كل ما يتعلق بإسرائيل.

أخيرا، هناك من يربط بين رفض المملكة المشاركة في التحالف الذي شكلته الولايات المتحدة بتطور علاقات الرياض مع طهران وبالمفاوضات التي تجريها مع الحوثيين. ليس هذا المقال في وارد إنكار ذلك. لكننا نقول إن هذه عوامل مساعدة وليست العامل الرئيس. بل أدعي، ولأسباب موضوعية، أنه لو لم تكن هذه العوامل موجودة لكان للمملكة الموقف نفسه بعدم المشاركة. ولمن يجهل، فإن مساندة القضية الفلسطينية هي المسألة الوحيدة التي لا توجد بين السعودية وإيران أية خلافات بشأن عدالتها. وموقف المملكة من دعم القضية الفلسطينية مبدئي، وهذا الموقف لم يتغير منذ شارك سعوديون بقرار من الملك الراحل عبد العزيز في القتال دفاعا عن فلسطين عام 1948.

وكما وقفت المملكة إلى جانب الفلسطينيين في حقهم المشروع بالدفاع عن أرضهم وأنفسهم وحقوقهم في السابق، فهي تقف إلى جانبهم اليوم حتى إيجاد حل عادل ودائم لقضيتهم المحقة.

font change

مقالات ذات صلة