قراءة صريحة لتحديات الاقتصاد المصري

قراءة صريحة لتحديات الاقتصاد المصري

في زيارة للقاهرة بدعوة من مؤسسة عبد العزيز البابطين الثقافية لحضور المنتدى الثالث لثقافة السلام العادل من أجل التنمية، كان لا بد من التمعن في الأوضاع المصرية والتعرف إلى مساراتها الاقتصادية.

تجددت في هذه السنة الآمال بالاتفاق بين مصر وصندوق النقد الدولي من أجل توفير تسهيلات ائتمانية مناسبة لدعم القدرات المصرية على مواجهة الاستحقاقات والالتزامات المحلية والخارجية. غني عن البيان أن الديون الخارجية التي تواجه مصر تعدت 165 مليار دولار، ناهيك بالديون المحلية المصدرة بالجنيه المصري من خلال أدوات متعددة.

أنجزت مصر خلال السنوات العشر الماضية مشاريع مهمة تركزت في البنية التحتية وعززت قدرة البلاد على توفير مرتكزات جيدة للمشاريع الإنتاجية والخدمية التي قد يقدم عليها المستثمرون المحليون والدوليون، لكن مصر تواجه ارتفاعاً مضطرداً في عدد السكان الذي يقترب من 110 ملايين نسمة ويقدر معدل النمو السكاني بنسبة تتراوح من 1.6 إلى 2.0 في المئة. تتزايد أعداد الشباب المتدفقين إلى سوق العمل سنوياً في الوقت الذي لا تتوفر فيه فرص العمل الكافية نظراً الى الامكانات المحدودة للدولة وتباطؤ الاستثمارات الخاصة في المشاريع التي تخلق فرص العمل.

مشكلات الاقتصاد المصري يجب ألا تقاس بمعدل النمو فقط، إذ أن هناك جوانب عدة لا بد أن تؤخذ في الاعتبار وأهمها تحسن مستويات المعيشة وارتقاء جودة الحياة في البلاد

قدر البنك المركزي المصري معدل نمو الناتج المحلي في الربع الثاني من العام الماضي بنحو 2.9 في المئة بعدما بلغ 3.9 في المئة في الربع الأول من العام نفسه. لكن هيئة المعلومات الحكومية تقدر بأن معدل النمو قد يرتفع إلى مستوى 4.1 في المئة خلال العام الجاري. تظل هذه محض تقديرات وربما تكون متفائلة الى درجة ما، لكن حتى لو تحققت هذه الأمال فإن مشكلات الاقتصاد المصري يجب ألا تقاس بمعدل النمو فقط، إذ أن هناك جوانب عدة لا بد أن تؤخذ في الاعتبار وأهمها تحسن مستويات المعيشة وارتقاء جودة الحياة في البلاد.

مظاهر الفقر والدولار

هناك مظاهر تؤكد توسع دائرة الفقر وانعكاس مصاعب الحياة على المواطنين، ويمكن مشاهدة هذه المظاهر في شوارع مدينة القاهرة التي لا بد من الاقرار بتحسن نظافتها وحيويتها الى درجة ما. بيد أن الحديث مع المواطنين يؤكد المعاناة الشديدة من ارتفاع أسعار المواد الغذائية والتنقلات والسكن وعدم كفاية المداخيل لمواجهة الاستحقاقات المعيشية الأساسية، خصوصاً بعد انخفاض سعر صرف الجنيه أمام العملات الرئيسة. كل تراجع في سعر صرف الجنيه لا بد أن يزيد أسعار السلع والخدمات إذ أن هناك اعتماداً متزايداً على مدخلات إنتاجية تستورد من خارج البلاد ناهيك بالسلع المستوردة أصلاً من الخارج.

يقدر سعر صرف الدولار، رسمياً، في البنوك وبرقابة من البنك المركزي المصري، في حدود 31 جنيهاً في حين يتم تداوله بما يقارب الستين جنيهاً في السوق الموازية، أو السوداء، كما يطلق عليها في مصر. وعلى الرغم من العقوبات المشددة على تداول الدولار خارج المصارف والمؤسسات المالية المعتمدة، يظل هناك الكثير من تجار العملة الخضراء مقابل أسعار أعلى من المتعارف عليه رسمياً. ويظل كبيرا الطلب على الدولار أو غيره من مبالغ بعملات أخرى، مثل اليورو أو الجنيه الاسترليني أو العملات الخليجية، فهناك تجار ورجال أعمال ومسافرون يرغبون بالحصول على مبالغ بالعملات الحرة لمواجهة استحقاقات خارجية مثل تمويل الواردات أو مواجهة التزامات خارج البلاد. 

هناك أهمية لتنويع القاعدة الاقتصادية والارتقاء بمساهمة مختلف القطاعات في الناتج المحلي الإجمالي، لكن كيف يمكن تطوير مساهمة القطاعات الحيوية إذا ظلت تحت هيمنة الدولة أو الجيش 

تراجعت الايرادات والتحويلات خلال السنوات الماضية بفعل مشكلات جائحة "كوفيد-19"وحرب أوكرانيا، وتراجعت أعداد الزوار، وتفاقمت الصراعات الاقليمية في البلدان المجاورة وآخرها حرب إسرائيل على غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. كما أن تجاوزات الحوثيين على الملاحة في البحر الأحمر منذ بداية حرب غزة عطلت المرور في قناة السويس، التي حققت في العام الماضي دخلاً لمصر بلغ 8 مليارات دولار.

النمو وهيمنة الدولة

على الرغم من التوقعات الرسمية التي سبقت الإشارة إليها، فإن البنك الدولي أشار في تقرير صدر في شهر يناير/كانون الثاني الماضي إلى أن معدل النمو في الناتج المحلي الإجمالي في حدود 3.8 في المئة في العام الماضي، كما أشار الى أن سعر الدولار سيرتفع إلى 39 جنيها رسمياً. وقدر البنك الدولي بأن معدل التضخم في مصر بلغ 36.4 في المئة في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.

ومهما قدر معدل النمو في الناتج المحلي الإجمالي فإن من الحكمة توقع معدل منخفض إذا استمرت الأوضاع المحلية الجيوسياسية قائمة ولم تتغير إلى الأحسن. هناك أهمية لتعزيز امكانات تنويع القاعدة الاقتصادية والارتقاء بمساهمة مختلف القطاعات في الناتج المحلي الإجمالي، لكن كيف يمكن تطوير مساهمة القطاعات الحيوية إذا ظلت تحت هيمنة الدولة أو الجيش ولم تتحرر الملكية بحيث يديرها قطاع الأعمال أو المستثمرون الأجانب.

بدأ التمصير والتأميم في مصر في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر خلال الفترة 1954 – 1970، وبدأت محاولات تحرير الاقتصاد في عهد الرئيس السادات بعد إصدار القانون 43 لسنة 1974 لكن مقاومة البيروقراطية عطلت التحول الهيكلي ولا يزال العديد من المؤسسات الأساسية في القطاعات الحيوية خاضعا لملكية الدولة.

المشاريع الاستثمارية الاماراتية مهمة، لكن ماذا عن الأوضاع المعيشية؟ لا تزال هناك فئات واسعة تعيش تحت خط الفقر. ويتوقع أن تبلغ نسبة الفقر 36 % من السكان في 2025 (33.3% في 2023) ونسبة الفقر المدقع 6.2 %

يحاول صندوق النقد الدولي اقناع الحكومة المصرية بإنجاز الاصلاحات البنيوية مثل تحرير الاقتصاد وبيع الاصول المملوكة من الدولة إلى القطاع الخاص، المحلي والأجنبي. وفي هذا المجال تحاول الحكومة المصرية منذ فترة تسويق منشآت عدة إلى شركات محلية وعربية وأجنبية. لكن هذه المحاولات تهدف أيضا إلى تحصيل أموال لمواجهة التزامات الدولة. هل ستكون حصيلة البيع كافية لتوفير ما تتطلبه الاستحقاقات على الدولة؟

الإمارات ساعدت... ولكن

خلال شهر يوليو/تموز من العام الماضي أبرمت الحكومة عقداً لبيع أصول بقيمة 1.9 مليار دولار. تلك محاولة للبدء ببيع الاصول الحكومية وتوفير أرضية أفضل لبناء الثقة مع المستثمرين الأجانب في القطاع الخاص المصري. وقد شملت العقود المذكورة بيع مساهمات في شركات نفط وبتروكيماويات لصالح الصندوق السيادي لأبو ظبي. كذلك هناك مخصصات لحصص في شركات فنادق.

عملت الإمارات على مساعدة مصر بشكل مهم وأوعزت إلى شركاتها للاستثمار في مصر وأعلنت شركة ADQ القابضة، وهي شركة استثمارية حكومية في إمارة ابو ظبي، خططها للاستثمار بقيمة 35 مليار دولار في مصر. وسيتم تطوير مشروع "رأس الحكمة" ضمن هذه الخطة وتقدر تكاليفه بـ 24 مليار دولار، وهو يهدف إلى تطوير منطقة ساحلية، في الساحل الشمالي، لتصير مدينة متكاملة في تلك المنطقة، بما يعني إقامة مجمعات عمرانية متكاملة. شمل الاتفاق أيضا، آليات تمويل ميسرة إذ أن جزءا من التمويل يمثل تنازلا عن 5 مليارات دولار من ودائع الإمارات لدى البنك المركزي المصري.

هذه مشاريع مهمة وجديرة بالاهتمام، لكن ماذا عن الأوضاع المعيشية؟ قررت الحكومة أخيرا رفع الحد الأدنى للأجور إلى 6000 جنيه مصري، ويعادل هذا الأجر 194 دولاراً، بموجب السعر الرسمي للدولار، لكنه أقل من ذلك بكثير عند احتسابه بموجب أسعار السوق الموازية. تستمر الحكومة المصرية في تعديل مستوى الحد الأدنى للأجور لكن الأمور تظل خارج السيطرة. لا تزال هناك فئات واسعة تعيش تحت خط الفقر. ويتوقع اقتصاديون أن تبلغ نسبة الفقر 36 في المئة من السكان في عام 2025 بعدما كانت النسبة 33.3 في عام 2023. هناك الفقر المدقع في مصر الذي يشمل 6.2 في المئة من السكان، يمكن ملاحظته في الأحياء الشعبية في القاهرة حيث تتزايد أعداد الشاكين من ضعف أوضاعهم المعيشية. 

لا بد من تعزيز قيمة الصادرات والتحكم بالواردات إذ بلغت قيمة العجز في الميزان التجاري بين مصر والعالم 36.9 مليار دولار في عام 2023

لا يمكن التغلب على هذه الأحوال إلا بتبني استراتيجيا طموحة تهدف إلى خلق فرص العمل وتشجيع المستثمرين على الولوج في مشاريع صناعية وزراعية تتمتع بالميزات النسبية. كذلك لا بد من تطويع أنظمة التعليم لتطوير التعليم المهني وتوفير عمالة مناسبة لمختلف الأنشطة الاقتصادية. كما يجب أن تتكيف أنظمة التعليم بما يتيح استيعاب التقنيات الحديثة وتأثيراتها على الوظائف وأنظمة العمل.

لا تزال هناك فرص لإنعاش الحياة الاقتصادية في مصر وتعزيز الاستفادة من الامكانات المادية والبشرية وتحسين بيئة الأعمال والاستفادة من الثروات الطبيعية وتعزيز جاذبية السياحة. لا بد من تعزيز قيمة الصادرات والتحكم بالواردات إذ بلغت قيمة العجز في الميزان التجاري بين مصر والعالم 36.9 مليار دولار في عام 2023. كذلك يجب تحفيز المصريين العاملين في الخارج لتحويل الأموال إلى مصر من خلال اتباع سياسات تسعير مقبولة للجنيه المصري وتكون مستقرة، واعتماد سعر صرف متوافق مع القيمة الحقيقية للجنيه المصري أمام العملات الحرة. خطوات مهمة ومتوافقة يتحتم اعتمادها من أجل إصلاح بنية الاقتصاد المصري وتحسين الأوضاع المعيشية للمواطنين. معلوم أن بلوغ الغايات يتطلب الصبر والتكيف بعدما أدت السياسات الاقتصادية التي اتبعت على مدى العقود الماضية إلى تشوهات وبعدما استنزفت المواجهات العسكرية والأمنية قدرات البلاد وعطلت التنمية التي تستحقها.

font change