"الضبعة" يضع مصر على خريطة الطاقة النووية الدولية

فرصة لتنويع مصادر الطاقة لإنتاج الكهرباء وحماية الاقتصاد من تقلبات أسعار النفط

هيئة محطات الطاقة النووية المصرية
هيئة محطات الطاقة النووية المصرية
"الضبعة" أول محطة للطاقة النووية في مصر

"الضبعة" يضع مصر على خريطة الطاقة النووية الدولية

يشهد العالم حالياً اضطرابات في سوق إمدادات الطاقة جراء تهديدات الحوثيين المدعومين من إيران للملاحة في البحر الأحمر، وارتفاع أسعار الغاز المستورد من الشرق الأوسط بعدما سارعت أكثر الدول المصدرة للغاز إلى توجيه شحناتها عبر طريق رأس الرجاء الصالح، هذا ناهيك بتبعات الحرب الروسية-الأوكرانية وتوقف تصدير الغاز الروسي نتيجة الحرب والعقوبات المفروضة على موسكو، إضافة إلى تفاقم تداعيات التدهور المناخي.

يتصاعد الاهتمام الدولي بالطاقة النووية، لا سيما في ضوء استشعار العديد من الدول الأوروبية بأنها باتت عرضة إلى الضغوط والمساومات الروسية من جهة ورقة الغاز الطبيعي، واتضاح خطط التحول في إنتاج الطاقة الكهربائية من مصادر متجددة ونظيفة مثل المحطات العاملة بالمفاعلات النووية أو توليد الطاقة من الشمس والرياح. وإذ تبدو أزمة المياه العذبة واحدة من المسائل التي تشغل سكان العالم، تظهر أهمية الطاقة النووية في المساعدة على تلبية الحاجات العالمية المتزايدة لمياه الشرب من طريق تقليل البصمة الكربونية الناتجة من تحلية المياه.

إحياء "الضبعة"

محلياً، تعد الطاقة أحد العوامل المهمة لتوفير بيئة جاذبة للاستثمارات لحماية الاقتصاد المصري من تقلبات الطاقة العالمية. وقد اتجهت مصر إلى تعزيز سيادتها في مجال الطاقة من خلال مباشرة تحقيق حلمها الذي ظل حبيس الأدراج منذ عام 1956، بأن تعمل على استكمال مشروع الضبعة النووي الذي يعتبر من ضمن أهم المشاريع الوطنية منذ عام 2014، وتصنَّف مفاعلاته بتلك ذات التصميم المنتمي إلى الجيل الثالث المتطور الذي يُعتبَر أعلى ما توصلت إليه التكنولوجيا النووية المستخدمة في العالم.

يقع مشروع الضبعة، وهو مشروع روسي مصري، في محافظة مطروح على ساحل البحر المتوسط، حيث تتكون المحطة من أربعة مفاعلات نووية، بقدرة 4,8 جيغاواط

يقع مشروع الضبعة، وهو مشروع روسي مصري، في محافظة مطروح على ساحل البحر المتوسط، حيث تتكون المحطة من أربعة مفاعلات نووية، بقدرة 4,8 جيغاواط، فيما يبلغ العمر التشغيلي للمفاعلات 60 سنة قابلة لأن تمتد إلى 80 سنة. ويمكّن المشروع البلاد من تنويع مصادر الطاقة والمساهمة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة التي تشمل توفير طاقة نظيفة، وزيادة الاعتماد على المصادر المنخفضة الكربون. وتعد المحطات النووية صديقة للبيئة مقارنة بالمحطات التقليدية لأنها لا تنتج الغازات المدمرة للبيئة مثل أكسيد الكربون والكبريت والنيتروجين.

وكانت أكثر من 20 دولة تلقت دعوة في بيان مشترك خلال انعقاد مؤتمر الأطراف الثامن والعشرين الخاص بالمناخ (كوب 28) الذي استضافته دولة الإمارات العربية المتحدة العام الماضي، إلى زيادة مصادر الطاقة النووية في العالم ثلاثة أضعاف ما كانت عليه في 2020، وذلك في حلول عام 2050، لتقليل الاعتماد على الفحم والغاز، وبهدف تحقيق الحياد الكربوني، والحفاظ على الاحترار المناخي عند 1,5 درجة مئوية.

أ.ف.ب.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال مشاركته في فعاليات صب الخرسانة الأولى في وحدة الطاقة الرابعة في محطة الضبعة النووية في ساحل البحر الأبيض، عبر الفيديو من موسكو، 23 يناير 2024

تأتي أهمية القرار الاستراتيجي الذي اتخذته مصر بإحياء البرنامج النووي السلمي لإنتاج الطاقة الكهربائية، كونه يساهم في توفير إمدادات طاقة آمنة ورخيصة وطويلة الأجل، إذ يقلل الاعتماد على الوقود الأحفوري.

وقد بدأت مصر العمل على تنويع مصادرها لتوليد الطاقة والاعتماد على مصادر الطاقة النظيفة، وأولت البلاد اهتماماً خاصاً إلى مشاريع الطاقة النووية في توليد الكهرباء، إذ لا تزال مصر تعتمد بنسبة 85 في المئة في إنتاجها للكهرباء على الوقود الأحفوري (الغاز الطبيعي والمازوت). وطبقت وزارة الكهرباء منتصف العام المنصرم خطة لتخفيف الأحمال عبر قطع مجدول للتيار الكهربائي لتخفيف استهلاك الغاز الطبيعي والمازوت في تشغيل محطات الكهرباء الذي يكلف الدولة كثيراً باعتباره مدعوماً منها.

ستمول عقود تنفيذ المحطة وفق الاتفاقية المالية مع روسيا وسيسدد القرض البالغ 25 مليار دولار خلال 22 سنة من الأرباح بعد التشغيل التجاري

تأتي الخطوات المصرية لضم الطاقة النووية إلى منظومتها كأحد المصادر لإنتاج الكهرباء، رغبة في حماية اقتصادها من تقلب أسعار النفط العالمية إضافة الى انخفاض تكلفة توليد الكيلوواط الواحد من الطاقة النووية، مقارنة بالمصادر الأخرى.

تنويع مصادر توليد الطاقة 

وأفاد تقرير لمجلس الوزراء المصري بأن الطاقة النووية لا تتعرض إلى تقلب الأسعار مثل محطات الطاقة التي تعمل بالغاز، مبيناً أن تكلفة الكهرباء، إذا ارتفعت أسعار الغاز الطبيعي بنسبة 100 في المئة، سترتفع في محطة تعمل بالغاز بنحو 60-70 في المئة، وإذا تضاعف سعر السوق لليورانيوم الطبيعي فإن الزيادة في التكلفة ستكون أقل من 10 في المئة، وستُموَّل عقود تنفيذ المحطة وفق الاتفاقية المالية الحكومية بين الحكومة المصرية وحكومة روسيا وسيُسدَّد القرض البالغ 25 مليار دولار خلال 22 سنة من الأرباح بعد التشغيل التجاري، علماً بأن المقاول الرئيسي العام لتنفيذ المشروع هو الشركة الروسية للطاقة النووية، "روس أتوم".

إقرأ أيضا: مستقبل واعد لمصر في صناعة الهيدروجين الأخضر

شهد مشروع مفاعلات الضبعة دفعات كثيرة في الآونة الأخيرة، منها صب الخرسانة للقواعد للجزء الرابع للمفاعلات النووية السلمية لإنتاج الكهرباء. ويتقدم المشروع إلى الأمام بخطوات متسارعة لإنتاج الكهرباء. وفي ظل اهتمام العالم في الوقت الحالي بالطاقة الخضراء، بدأت مصر المشروع النووي وتتقدم فيه، على الرغم من وجود مصادر أخرى لإنتاج الطاقة من الطاقات الجديدة والمتجددة. 

في هذا السياق، أكد رئيس منتدى الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية سمير غطاس لـ"المجلة" أهمية القرار الاستراتيجي الذي اتخذته مصر بإحياء البرنامج النووي السلمي لإنتاج الطاقة الكهربائية، وأشار إلى أن مصر، على الرغم من الوضع الاقتصادي المتأزم الذي تمر به، وضعت أساسات للمحطات الثلاث لمفاعلات الضبعة وأخيراً وضعت أساسات المحطة الرابعة للمفاعلات النووية، وثمة مراعاة لشروط الأمان.

إن توجيه شحنات الغاز عبر رأس الرجاء الصالح يزيد تكلفة الشحنة مليون دولار لوقود الناقلات، إضافة الى ارتفاع تكلفة التأمين والعمالة، وتصل إلى أوروبا بسعر مرتفع

سمير غطاس، رئيس منتدى الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية

ورأى غطاس "أن العالم يتجه إلى خفض انبعاثات الغازات الدفيئة، لكن دولاً كثيرة تعارض إقامة محطات سلمية للطاقة النووية، فقد قامت ألمانيا أخيراً بتفكيك مشاريعها النووية كلها. لكن الجميع مضطرون إلى التوجه إلى الطاقة النووية، أو الاعتماد على الفحم والعودة إلى البدائل الملوثة للبيئة".

وأشار الى "أن قطر التي تُعتبَر أكبر الدول المصدرة للغاز، وجهت شحناتها من المادة عبر رأس الرجاء الصالح، ومع تزايد أزمة الطاقة والاضطراب في البحر الأحمر، ارتفع كثيراً سعر الغاز المستورد من الشرق الأوسط بديلاً من الغاز الروسي، إذ أن توجيه شحنات الغاز عبر طريق رأس الرجاء الصالح يزيد تكلفة الشحنة مليون دولار هي تكلفة الوقود لناقلات الغاز والبترول الضخمة إضافة الى ارتفاع تكلفة التأمين والعمالة، وتاليا ستصل الطاقة إلى أوروبا بسعر مرتفع للغاية إذا استمرت الأزمة ولم يجرِ التوصل إلى حلول"، معتبراً "أن الأزمة ليست مرتبطة بغزة حصراً وإنما كذلك بالحوثيين وبالعلاقات الإيرانية-الأميركية".

يعتقد غطاس أنه من الضروري جدا عدم التركيز على مصدر واحد للطاقة، إذ أن مصر لديها مصادر متعددة لإنتاج الطاقة النظيفة أرخص وأكثر حيوية، ويمكن إنتاج طاقة بديلة منها تكفي مصر وتصدر منها، ومصر قريبة من دول البحر المتوسط التي تحتاج إلى الطاقة، فيمكن بالشراكة معها أن تصبح مصر دولة مصدرة للطاقة مثل المغرب.

المشروع الأفضل للاستثمار الزراعي

واعتبر الخبير الاقتصادي علاء النهري في حديث إلى "المجلة" أن مشروع مفاعلات الضبعة "يحدوه الأمل في تنمية الساحل الشمالي الغربي الذي كان قبل وقت قريب نسبياً سلة غذاء مصر وأوروبا. ذلك أن الزراعة في تلك المنطقة تعتمد في شكل أساسي على الأمطار، ولإتمام نمو القمح والشعير نحتاج إلى ري تكميلي لمرتين، وبالتالي نحتاج الى تحلية مياه البحر الممتدة بطول المنطقة وذلك بإنشاء عدد من محطات التحلية التي تحتاج الى طاقة يمكن الحصول عليها من المفاعلات". 

وأضاف النهري: "أعتبر أن إنشاء المفاعلات النووية أفضل مشروع استثماري في مصر وهي في حاجة ماسة إليه في الوقت الراهن للاستثمار الزراعي والاكتفاء الذاتي من الحبوب [القمح والشعير] لجودة التربة والظروف المناخية بجانب تطوير زراعات التين والزيتون التي تنمو بشكل جيد في المنطقة، إذ تعتمد في نموها بشكل أساسي على الأمطار الموسمية، وبالتالي يمكن التوسع في التصنيع الزراعي والتصدير إلى أوروبا لجودتها المرتفعة جداً. وهكذا سيُعتبَر المشروع من المشاريع العملاقة التي ستنقل مصر نقلة نوعية للوصول إلى الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الاستراتيجية التي تكفي البلاد وتوقف استيرادها في وقت تتأثر مصر فيه بندرة العملة الصعبة".

إقرأ أيضا: العالم يتأهب نوويا؟

وأشار النهري الى أحدث التقديرات الصادرة عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة التي تفيد بأن العالم في حاجة إلى خفض انبعاثات الغازات الدفيئة بنسبة 28 في المئة للحد من ارتفاع متوسط درجات الحرارة العالمية إلى أقل من درجتين مئويتين، وبنسبة 42 في المئة للحد من ارتفاعها إلى 1,5 درجة مئوية – وكلا الهدفين أقرهما مؤتمر باريس عام 2015 (كوب 15) في شأن تغيُّر المناخ. ولتحقيق الهدفين ستكون مكافحة تغير المناخ مهمة صعبة المنال من دون إبراز دور الطاقة النووية كمصدر فاعل ونظيف.

من اللافت أنه قبل "كوب 28" لم يكن إنشاء المحطات النووية مرحباً به بسبب أخطارها والحوادث التي يمكن أن تنجم عنها مثل حوادث تشرنوبيل و"ثري مايل أيلاند" وفوكوشيما

ويُعَد الوقود النووي مصدراً من مصادر الطاقة غير المتجددة، لكن على عكس الوقود الأحفوري، لا تنتج محطات الطاقة النووية غازات الاحتباس الحراري، مثل ثاني أكسيد الكربون أو غاز الميثان، أثناء تشغيلها، وبالتالي يمكن الاعتماد عليها بجانب الطاقة المتجددة للتغلب على تداعيات التغيرات المناخية.

التغلب على التداعيات المناخية

وإذ ستنقل محطة الضبعة النووية السلمية مصر نقلة نوعية في إنتاج الطاقة النظيفة، التي تُعَد محوراً أساسياً في مجابهة التغيرات المناخية، قال خبير الطاقة محمد السبكي لـ"المجلة": "جرى التوصل في كوب 28 إلى أن الطاقات كلها التي تؤدي الى إنتاج ثاني أكسيد الكربون هي تكنولوجيا غير صديقة للبيئة وبالتالي قُبِلت الطاقة النووية كأحد المصادر التي يمكن الاعتماد عليها مستقبلياً وهذا يتماشى مع اتجاه مصر. ومن اللافت أن قبل كوب 28 لم يكن إنشاء المحطات النووية مرحباً به بسبب أخطارها والحوادث التي يمكن أن تنجم عنها مثل حوادث تشرنوبيل وثري مايل أيلاند وفوكوشيما".

ولفت إلى أن الطاقة النووية هي طاقة أحادية الكربون، وأن أخطار الأجيال الجديدة من المحطات النووية باتت محدودة للغاية، ومصر أكدت عدم وجود بعض الأخطار مثل التسرب النووي والإشعاع وغيرها من أي حوادث أو مشاكل أو زلازل.

للمزيد إقرأ: استخدام السلاح النووي... ماذا وراء الخطاب و"الثرثرة"؟

ونوه بأن الطاقة النووية تكلفتها على المدى المتوسط إلى المدى البعيد ستكون منافسة لأسعار الوقود والطاقات الحالية المتذبذبة، وأكد أن مصر اقترضت لمحطة الضبعة نحو 25 مليار دولار بينما مصر ستستعيد هذا المبلغ في أقل من 10 سنوات، لأن الجدوى المالية لتلك المشاريع مرتفعة للغاية، ولأن القدرة لدى تلك المحطات قد تساهم بما قد يصل الى 15 الى 29 في المئة من احتياجات مصر من الكهرباء.

font change

مقالات ذات صلة