ألمانيا... ‏اللحظة الحرجة في حقبة شولتز

يلامس الوضع الاقتصادي الانكماش

أ. ف. ب
أ. ف. ب
لافتة تركها متظاهرون بعد مسيرة ضد اليمين المتطرف في مدينة ماغدبورغ في 29 يوليو 2023

ألمانيا... ‏اللحظة الحرجة في حقبة شولتز

انزلقت اليابان بشكل غير متوقع إلى الركود وفقدت لقبها كثالث أكبر اقتصاد في العالم لصالح ألمانيا، ويعتمد الاقتصادان الياباني والألماني بشكل كبير على الصادرات. ورغم مواجهة الاثنين عقبات كبيرة فإن اليابان تعاني أكثر من ألمانيا جراء النقص الحاد في العمالة لديها وانخفاض عدد سكانها.

بيد أن "ليس كل ما يلمع ذهبا"، إذ تمر ألمانيا أيضا بلحظة حرجة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا بعد مرور ثلات سنوات على حقبة أنغيلا ميركل.

لا يعد الوضع الألماني استثنائيا في أوروبا. لكن هذا البلد الأكبر من حيث عدد السكان وصاحب المركز القيادي اقتصاديا في أوروبا تترتب عليه مسؤولية خاصة لتدعيم الاتحاد الأوروبي والحفاظ على التماسك الألماني.

من حقبة ميركل المميزة إلى حقبة شولتز الصعبة

عادت ألمانيا بقوة إلى المسرح العالمي من موقع الريادة الأوروبي وذلك بعد سبعين سنة على هزيمتها النكراء في الحرب العالمية الثانية وبعد أكثر من ربع قرن بقليل على إعادة توحيدها.

عبر تاريخها المضطرب والغني على حد سواء، بلورت ألمانيا في القرن الماضي علم الجيوبوليتيك ومفهوم المجال الحيوي (نحو شرق ووسط أوروبا) كي تفرض نفسها قوة برية كبرى في خدمة النفوذ والتوسع. وفي حقبتنا الحالية بعد سقوط جدار برلين وتفاقم الفوضى الاستراتيجية. تعد ألمانيا من أفضل الأمثلة على استخدام القوة الناعمة في سبيل ترويج توسعها الاقتصادي ونفوذها العالمي.

رويترز
المستشار الألماني أولف شولتز أثناء زيارته إلى مصنع في ناغولد في 5 مارس

بيد أن تصدع العولمة وصعود القوميات والهويات وضع الدور الألماني على المحك في قيادة القارة القديمة مع أنغيلا ميركل، المستشارة لأربع ولايات متواصلة بين 2005 و2021. وراهنت "الإمبراطورة" أنغيلا مع الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما على عدم العودة إلى عالم ما قبل العولمة. وفي مرحلة 2014-2016، برز البعد الإنساني والأخلاقي لزعامة ميركل في إدارتها أزمة تدفق اللاجئين إلى أوروبا.

بلغ معدل التضخم 5.9 في المئة عام 2023 بأكمله، مقارنة مع 6.9 في المئة في 2022

بيد أن مهمة ميركل وألمانيا أصبحت أصعب نتيجة وضع الاتحاد الأوروبي بعد الخروج البريطاني "البريكسيت" وعلى ضوء التنافسية القوية مع الصين والتحدي الآتي من روسيا والمجهول الذي ارتسم مع وصول ترمب إلى البيت الأبيض في 2017 وصعود اليمين المتطرف في أوروبا. 
وبعد حقبة ميركل المتميزة والطويلة والحافلة، بدأت في 2021 حقبة المستشار الديمقراطي الاجتماعي أولاف شولتز في ألمانيا التي عانت من مضاعفات جائحة "كوفيد-19" وسرعان ما داهمتها الحرب الأوكرانية في فبراير/شباط 2022 وانعكاساتها على الاقتصاد والتوازنات الأوروبية والعالمية. ولم يكن الاستنهاض الألماني العسكري خوفا من التهديد الروسي كافيا لتحصين الدور الألماني أو تعزيز الموقف الأوروبي، بل كان الاصطفاف تحت قيادة الولايات المتحدة هو العنوان للمرحلة الجديدة ومقابل ذلك اهتزت العلاقة الألمانية- الروسية واضطربت العلاقة الألمانية- الصينية مع ما سيترتب على ذلك من آثار وتداعيات محتملة على المدى المتوسط. 

تبخر الاستقرار السياسي وتراجع الاقتصاد 

بين أواخر يناير/كانون الثاني، وبدايات فبراير الماضي، بدت ألمانيا وكأنها تقلد أو تشبه فرنسا: مظاهرات المزارعين، وحركات الإضراب، واهتزاز الأحزاب السياسية بفِعل صعود اليمين المتطرف والتوترات الحكومية وأزمة الميزانية.
ولوحظ أن الائتلاف الحكومي الثلاثي الألوان الذي يجمع الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر والحزب الليبرالي، يئن تحت وطأة صعوبات الإدارة الثلاثية وقيادة أولاف شولتز المضطربة، مع عدم تمتع المستشار بشعبية كبيرة. 
على الصعيد الاقتصادي، بلغ معدل التضخم 5.9 في المئة عام 2023 بأكمله، مقارنة مع 6.9 في المئة في 2022، وهو رقم غير مسبوق منذ إعادة التوحيد.

في غضون ثلاثة أعوام، تبخر الاستقرار المستديم الذي ساد في عهد ميركل

يلامس الوضع الاقتصادي الانكماش، إذ من المتوقع حسب آخر البيانات الحكومية أن يصل معدل النمو في عام 2024، إلى 0.2 في المئة، وهو انخفاض حاد عن التقدير السابق البالغ 1.3 في المئة.
لكن مع تراجع معدل التضخم إلى 2.6 في المئة في يناير 2024، هناك رهان على تخفيف العبء على المستهلكين والأعمال التجارية بعد زيادات سريعة في أسعار الطاقة والمواد الغذائية.
ومما لا شك فيه أن صدمة الحرب في أوكرانيا، كان لها تأثيرها الجسيم في ألمانيا خاصة بسبب علاقاتها السابقة القوية في مجال الطاقة مع روسيا. وزاد الوضع الاقتصادي سوءا مع قرارات قضائية ضد تخصيص موارد حكومية كبيرة للتحول البيئي والاقتصاد الأخضر، ما أبرز الانقسامات الأيديولوجية داخل التحالف الثلاثي الحاكم بين مؤيدي الانضباط المالي ومؤيدي الإنفاق العام.

رويترز
النمو لم يتجاوز 0.2 في المئة في العام الماضي

هكذا، في غضون ثلاثة أعوام، تبخر الاستقرار المستديم الذي ساد في عهد ميركل. وبالطبع لا يمكن نعت ألمانيا بمصطلح "رجل أوروبا المريض" الذي كان رائجا في زمن صعوبات إعادة التوحيد بعد سقوط جدار برلين، بل يمكن اعتبار ألمانيا اليوم منكهة سياسيا واقتصاديا لأسباب متعددة، وتبدو بحاجة لحوافز جديدة.
سياسيا، تدل ردة الفعل الشعبية والمجتمعية العارمة ضد انحرافات أقصى اليمين وأطروحات اليمين المتطرف على أن الذاكرة الألمانية يقظة وقادرة على دق جرس الإنذار من أجل سد الطريق على الانطواء الوطني والعنصرية والتمييز وعلى العودة إلى الحقبة النازية السوداء. 

مواجهة صعود اليمين المتطرف 

يثير حزب "البديل من أجل ألمانيا" الذي تأسس عام 2013 الكثير من الهواجس في بلد دفع الأثمان الباهظة جراء هكذا توجهات. وتزايدت المخاوف بعد كشف شبكة "كوريكتيف" للتحقيقات الصحافية النقاب في يناير الماضي عن اجتماع بين سياسيين من هذا الحزب اليميني المتطرف في بعض فروعه، مع نازيين جدد، وعن وضعهم خططا لتهجير ملايين الأشخاص من ألمانيا. وتحت عنوان عودة المهاجرين إلى بلدهم الأصلي، يسود الاعتقاد بأن الهدف الفعلي هو الترحيل والطرد الجماعي. وتسرب أن النقاش تطرق أيضا إلى طرد المواطنين الألمان ذوي الأصول المهاجرة، إذا لم يتكيفوا مع مجتمع الأغلبية.

تبدو برلين حذرة من مستقبل التصعيد بين روسيا و"حلف شمال الأطلسي" وتخشى أن تعود أنهار الدم في أوروبا

في مواجهة هذا المد، نزل مئات ألوف الأشخاص إلى الشارع في عدة مدن ألمانية. وبرز رد الفعل الصحي والقوي على تجاوزات النازيين الجدد واصطفافهم إلى جانب حزب صاعد يجتذب أكثر من 20 في المئة من الناخبين في نوايا التصويت، بل وحتى 35 في المئة في بعض الولايات في شرق البلاد. 
يظهر بجلاء وزن التاريخ الألماني في ردة الفعل ضد حزب "البديل من أجل ألمانيا"، ووصل الأمر للمطالبة بفرض حظر عليه ومنعه من العمل السياسي.
من اليسار إلى اليمين، أدى صعود اليمين المتطرف إلى هز النظام السياسي الألماني وتفكيك مشهد الأحزاب التقليدية. فبعد تأسيس حزب يساري متطرف (قريب من روسيا) على يد سارة فاغنكنخت الزعيمة السابقة لحزب "دي لينك" (اليسار)، شهدنا انشقاق تيار محافظ للغاية عن حزب "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" (حزب الوسط الكبير اليميني). وعزم زعيم هذا التيار هانز جورج ماسن على تحويل جمعيته "اتحاد القيم" إلى حزب سياسي يؤكد أنه سيكون "مستعدا للتحدث مع الجميع"، أي أيضا مع حزب البديل من أجل ألمانيا، وهو موقف يرفضه حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي.
يبرهن هذا التفتت وهذه الشروخات في المشهد السياسي الألماني، عن مدى التخبط ضمن الطبقة السياسية الألمانية وعن انفصام في الشخصية الألمانية. 

بين الدور القيادي في أوروبا وحيوية الالتزام الديمقراطي 

وسط هذه اللحظة الحرجة من تاريخ ألمانيا المعاصر، يهيمن الموقف إزاء أفق الحرب الأوكرانية على ما عداه من تحديات. 
وكان لافتا في أواخر فبراير الجدل الذي أثارته مبادرة الرئيس إيمانويل ماكرون، بشأن احتمال إرسال قوات أوروبية وغربية إلى أوكرانيا والتي لم تلق تأييدا أوروبيا وأميركيا. وبرز بين كل الردود الأوروبية الرفض القاطع للمستشار أولاف شولتز، إذ إن التباعد بين شولتز وماكرون أكد تدهور مستوى العلاقات الفرنسية- الألمانية. وحدا ذلك بالرئيس الفرنسي للغمز من هلع المستشار الألماني. 
 ومن دون شك تبدو برلين حذرة من مستقبل التصعيد بين روسيا وحلف شمال الأطلسي وتخشى أن تعود أنهار الدم في أوروبا على وقع الطموحات الإمبراطورية أو الخلل الاستراتيجي العالمي.
بيد أن التأكيد على ضرورة الالتزام الديمقراطي لأكثرية الألمان ولعب دور قيادي في اتحاد أوروبي متحول إلى قطب جيوسياسي، يمكن أن يقدما ضمانات أفضل للمستقبل الألماني. 

font change

مقالات ذات صلة