حروب "كوكا كولا" و"بيبسي" لا تهدأ... من المبيعات إلى البيئة

العبوات البلاستيكية تساهم بربع التلوث الذي تتعرض له البحار والمحيطات وتشكيك بخطط الشركتين لإعادة التدوير

سارة جيروني كارنيفال
سارة جيروني كارنيفال

حروب "كوكا كولا" و"بيبسي" لا تهدأ... من المبيعات إلى البيئة

أتلانتا - جورجيا: يبدو جليا خلال التجول في متحف "عالم كوكا كولا" الذي يقع في قلب مدينة أتلانتا في ولاية جورجيا جنوب الولايات المتحدة الأميركية، الاهتمام الذي يوليه عملاق المشروبات الغازية للتسويق لمنتوجاته "الصديقة للبيئة". كما يلفت الزائر، إضافة الى المدخل المذهل للقبو الذي تخفى فيه الوصفة السرية لـ"أشهر صودا في العالم "، تفاصيل حملة "عالم بلا نفايات" التي تقودها الشركة منذ عام 2018.

من المعروف أن "كوكا كولا" تخوض سباقا مع منافستها التاريخية "بيبسي كو" في خطط التصنيع والتغليف الصديق للبيئة أو المستدام، مع ما تواجهان، كغيرهما من شركات الأغذية والمشروبات التي تستخدم الموارد الطبيعية بكثافة في عملية الإنتاج والتغليف، من ضغوط دولية وأممية، وانتقادات وحملات منذ عقود، بسبب ثقل بصماتهما الكربونية، ومساهمتهما في التلوث البيئي وأزمة المناخ.

تعتبر المنافسة بين "كوكا كولا" و" بيبسي كو" في معركة تحسين الأداء البيئي وفي إبراز النجاح في تدوير نفاياتهما، امتدادا لـ"حرب الكولا" المتواصلة منذ أكثر من قرن بين هذين العملاقين، اللذين يمثلان أفضل مسوقين للمنتوجات في العالم، بفضل الإعلانات الذكية والأغاني الجذابة والعقود الضخمة مع المشاهير الكبار وبرامج المكافآت للمستهلكين، ومجاراة التغييرات في الأنظمة الغذائية في التسويق، والضغط على صناع القرار وتمويل بحوث طبية شتى. ما ساهم في استمرار نجاح الشركتين في أن تكونا المزود الأول في العالم للمشروبات غير الكحولية.

تبلغ القيمة السوقية لشركة "كوكا كولا" نحو 259 مليار دولار، ولشركة "بيبسي كو" 227 مليار دولار

تبلغ القيمة السوقية لشركة "كوكا كولا"، وهي أكبر شركة لتصنيع وتوزيع المشروبات غير الكحولية في العالم بأكثر من 500 علامة تجارية، نحو 259 مليار دولار، وتجاوزت إيرادات الشركة في الربع الأخير من عام 2023 توقعات محللي "وول ستريت"، إذ ارتفع صافي إيراداتها إلى 10,85 مليارات دولار، متجاوزا توقعات بـ 10,68 مليارات دولار.

مليارات "كوكا كولا" في مقابل مليارات "بيبسي"

وبلغت إيرادات "كوكا كولا" لعام 2023، 45,8 مليار دولار (43 مليار دولار عام 2022)، فيما بلغت الأرباح الصافية 11,6 مليار دولار للفترة نفسها، بزيادة 5 في المئة مقارنة بعام 2022.

أ.ف.ب
معرض" زجاجة "كوكا كولا"، الذي يقام للمرة المئة، في المتحف العالي للفنون في أتلانتا، 26 فبراير 2015

من جهتها، تبلغ القيمة السوقية لشركة "بيبسي كو" 227 مليار دولار، وهي حققت من خلال علاماتها التجارية المتنوعة  التي تفوق الـ500 أيضا بين مشروبات وأطعمة ووجبات خفيفة وخدمات في مختلف وحدات الانتاج، إيرادات بـ 91,47 مليار دولار في عام 2023 (86,39 مليار دولار عام 2022) وسجلت أرباحا صافية قيمتها 9,07 مليارات دولار (نحو 9 مليارات دولار عام 2022).

إلى جانب ذلك، تشير توقعات "وول ستريت" إلى قفزة نوعية ستسجلها شركة "بيبسي كو" في السنة الجارية من خلال ارتفاع أسهم الشركة 20 في المئة، مما سيرفع قيمتها السوقية إلى نحو 277 مليار دولار، وذلك سيمكنها من إزاحة "كوكا كولا" من موقعها كشركة المشروبات الغازية  الأعلى قيمة للمرة الأولى منذ عقدين.

ربع التلوث البلاستيكي للبحار والمحيطات

لكن وراء هذه المؤشرات القياسية تظهر أرقام مفزعة لما تسببه صناعة الشركتين من تلوث بلاستيكي، قد يصل إلى حد مسؤولية العبوات البلاستيكية عن ربع التلوث الذي تتعرض له البحار والمحيطات. هذه الظاهرة باتت محور نقاش مستمر في الولايات المتحدة مع استمرار زيادة إنتاج العبوات البلاستيكية وما ينجم عن ذلك من تأثيرات بيئية تثير مخاوف الحكومات والمشرعين وجمعيات حماية البيئة والمستهلكين.

إقرأ أيضا: تيدروس غيبرييسوس وفولكر تورك عبر "المجلة": آن أوان التوقف عن وضع الثروة قبل الصحة

تحتل "كوكا كولا" مراتب متقدمة كأحد أكبر المسببين بالتلوث البلاستيكي في العالم، مع ذلك، ترعى أهم المبادرات البيئية الدولية، وعلى رأسها مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغيير المناخ (COP). كما أنها الراعي الرسمي لدورة الألعاب الأولمبية التي ستنظم بعد أشهر قليلة في العاصمة الفرنسية باريس، والتي يروج لها كأكثر دورة بيئية في التاريخ.

رافقت مسار تحول عبوات "كوكا كولا" و"بيبسي" تداعيات وخيمة على البيئة دفعت كليهما خلال العقدين الأخيرين إلى مسرح تنافس "أخضر"، ودعاوى، وتعددت المبادرات والتعهدات والاستثمارات البيئية

يبعد متحف "عالم كوكا كولا" 15 دقيقة سيرا على الأقدام من المقر الرئيسي للشركة في أتلانتا. تعتبر تكلفة الدخول إلى المتحف منخفضة نسبيا (21 دولارا) مقارنة بسعر تذاكر الدخول إلى المتاحف في أميركا، وينصح السياح بزيارة هذا المتحف المصنف ضمن 10 وجهات جذابة في المدينة.

"الخلطة السرية"

يوجد في المتحف " القبو السري" الشهير حيث أخفي "لغز" الشركة المتمثل في "خلطتها السرية" التي تحولت إلى أسطورة. تقدم المضيفة معلومات مقتضبة عن هذه الخلطة: "توصل الدكتور جون أس. بمبرتون إلى اكتشاف وصفة مشروب "كوكا كولا" عام 1886، ومنذ ذلك الحين، ظلت سرية ولم تتم مشاركتها إلا ضمن مجموعة صغيرة من الأشخاص. الخلطة مكتوبة على قطعة من الورق ومحفوظة في القبو الخاص بالمتحف".

وتوجد في المتحف مجموعة واسعة من المعروضات، من بينها تاريخ تطور تصاميم زجاجات وعبوات المشروب الشهير منذ إطلاقه. واحتفلت الشركة عام 2015 بمئوية "الزجاجة الأولى"، وخصصت في المتحف مساحة عرض عملية صنع الزجاجات، وعمل الآلات المتطورة التي تقوم بتعبئة عبوات "كوكا كولا" وتغليفها ووضع الملصقات عليها.

Shutterstock
معرض عالم "كوكا كولا" في أتلانتا، مجمع بمساحة تبلغ نحو 81000 متر مربع، مخصص للسياح ويستقبل مليون زائر في كل سنة

قد يكون المتحف هو المساحة الوحيدة التي لا تطرح فيها زجاجات أو عبوات "كوكا كولا" كمعضلة مناخية كبرى، خصوصا أن الزيارة تعيدك إلى التاريخ البعيد للشركة، خلال مرحلة التوزيع التي كانت تقوم على فرض سنت أو سنتين على المستهلك عند شراء زجاجة "كوكا كولا"، تسترجع عند إعادتها إلى البائع.

رافقت مسار تحول عبوات "كوكا كولا" و"بيبسي" تداعيات وخيمة على البيئة جرّت كليهما خلال العقدين الأخيرين الى مسرح تنافس "أخضر"، ودعاوى، وتعددت المبادرات والتعهدات والاستثمارات من الشركتين لتأكيد انخراطهما في خطط الاستدامة مع ارتفاع أعداد المستهلكين الذين يميلون إلى شراء منتجات صديقة للبيئة، وأصدرت الشركتان عشرات تقارير الاستدامة والحوكمة البيئية والاجتماعية.

ومنذ عام 2009 تحاول كل شركة إبراز تفوقها في تصنيع جيل جديد من العبوات الصديقة للبيئة، وتقليل أو إلغاء الاعتماد على النفط والتعويل على الطاقة المتجددة، وتطوير زجاجات وعبوات صديقة للبيئة، مصنوعة من المواد النباتية، بالإضافة إلى اقرار سياسات لترشيد استخدام المياه.

تتهم الشركتان بالـ"الغسيل الأخضر"، وهي قضية صارت رائجة في أميركا والعالم، ويليها إقامة دعاوى قضائية كشكل من أشكال الضغط المتزايد المفروض على الشركات في ظل أزمة المناخ

ورفعت ولاية نيويورك منذ 4 أشهر (نوفمبر/تشرين الثاني 2023) شكوى ضد شركة "بيبسي كو"، وذلك بعد مسح قامت به الولاية للنفايات البلاستيكية التي جمعت من نهر "بافالو" الذي كان أحد أكثر الأنهار تلوثا في أميركا. وكشف المسح أن 17 في المئة من النفايات تحمل العلامة التجارية المميزة لشركة "بيبسي كو".

وضع المسح الشركة في مرمى المدعي العام الذي اتهمها بـ"التلوث البلاستيكي" واعتبر أنه نتج عن ذلك عرقلة جهود الولاية في التقدم المحرز لتنظيف النهر وضفافه. وتقول الولاية إن المواد البلاستيكية الدقيقة والثانوية الناتجة عن إتلاف العبوات البلاستيكية لشركة "بيبسي كو" أضرت بالسكان وبالحياة البرية، بما يمس بحقوق سكان مدينة "بافالو" في الحصول على حياة بيئية سليمة.

Shutterstock
عبوات بلاستيكية في مكب لإعادة تدوير النفايات البلاستيكية، في مدينة تولوز

شركة "بيبسي كو" متهمة بالتلوث، والأهم من ذلك أنها متهمة بتقديم بيانات مضللة عن قابلية حل المواد البلاستيكية المستخدمة في عبواتها لإعادة التدوير بشكل لانهائي. كما أنها متهمة بالادلاء ببيانات تعطي انطباعا مضللا عن تقدمها نحو تقليص مساهمتها في إنتاج البلاستيك. 

4 آلاف عبوة في الثانية

تسببت هذه الشكوى في جدل واسع وتساؤلات حول حقيقة التقدم المحقق من قبل الشركتين في مسار التغليف المستدام، وعن مدى قابلية عبواتهما "الصديقة للبيئة" لإعادة التدوير، وجديتهما في تعهداتهما والتزامهما بخفض إنتاج البلاستيك. نتيجة لذلك، تُتهم الشركتان بالـ"غرين واشينغ" أو الغسيل الأخضر، وهي تهمة أصبحت رائجة في أميركا والعالم يليها توجه إلى دعاوى قضائية كشكل من أشكال الضغط المتزايد المفروض على الشركات في ظل أزمة المناخ. 

هناك أيضا إشكال آخر يتعلق بتسبب التلوث البلاستيكي في معضلة "نفايات" حقيقية داخل الولايات المتحدة، إذ لا يجري تدوير أكثر من 24 في المئة من المخلفات البلاستيكية المساهمة فيه بشكل أساسي عدة شركات. ووفق وكالة "بلومبورغ"، تنتج شركات المشروبات في الولايات المتحدة نحو 100 مليار عبوة بلاستيكية سنويا مصنوعة من مادة "البولي إيثيلين تيريفثالات" (PET).

إقرأ أيضا: الصحة والمناخ ... الارتباط الأبدي

تنتج شركة "كوكا كولا" مثلا 4000 عبوة في الثانية، مع ما يعنيه إنتاج هذا الكم الهائل من البلاستيك من بصمة كربونية، ما يعادل التلوث المناخي الناتج عن واحدة من أقذر محطات توليد الطاقة التي تعمل بالفحم الحجري بحسب "بلومبرغ".

لم تخصص شركات المشروبات الغازية سوى 7,9 ملايين دولار من مجموع 100 مليون دولار المعلن عنها، حتى عام 2022، وهو مبلغ يعادل أرباح الشركات مجتمعة خلال نحو ثلاث ساعات

"بلومبرغ غرين"

وكانت شركتا "كوكا كولا" و"بيبسي كو" تعهدتا ببلوغ نسبة 50 في المئة من استخدام العبوات القابلة لإعادة التدوير بحلول عام 2030، لكن النسبة لم تتجاوز حتى الآن 13,6 في المئة بالنسبة لـ"كوكا كولا" و11 في المئة بالنسبة لـ"بيبسي كو"، بحسب إحصاءات تعود الى آخر عام 2022، بما يدعم الآراء المشككة في نجاعة الخطط المعتمدة من قبل أبرز المتسببين في التلوث البلاستيكي في العالم، اللذين خاضا طيلة عقود معركة شرسة لمنع تمرير تشريعات تقيد استخدام العبوات البلاستيكية المصنوعة من "البولي إيثيلين تيريفثالات" وتدفع لاستخدام العبوة القابلة لإعادة التدوير.

عام 2019، أعلنت شركات المشروبات الغازية، على رأسها "كوكا كولا" و"بيبسي"، عن تخصيص استثمار قيمته 100 مليون دولار حتى عام 2029 لتحسين جمع وإعادة معالجة العبوات البلاستيكية، وهو استثمار بالشراكة بين جمعية المشروبات الأميركية والحكومات المحلية والصندوق العالمي للحياة البرية. جاء هذا الاستثمار بعد مرور عام على إصدار الصين (2018) قرارا يقضي بتقليص كبير في عمليات إعادة تدوير النفايات البلاستيكية القادمة من الولايات المتحدة الأميركية.

وبلغت قيمة الاعتمادات الموجهة إلى هذا الاستثمار الطموح ما يقارب نصف مليار دولار، متأتية من مستثمرين خارجيين وصناديق حكومية، بحسب وكالة الـ"أسوشييتد برس"، إلا أن هذا المشروع لم يحقق النتائج المرجوة وفقا لتحليل أجرته "بلومبرغ غرين"، أكدت فيه أن شركات المشروبات الغازية لم تخصص حتى عام 2022 سوى 7,9 ملايين دولار من مجموع الـ100 مليون دولار المعلن عنها، وهو مبلغ (أي الـ7,9 مليون دولار) يعادل أرباح هذه الشركات مجتمعة خلال ما يزيد قليلا عن 3 ساعات.

الصحة والمناخ

إن سألت أميركيا عن "كوكا كولا" و"بيبسي كو"، فقد يرد عليك بطرفتين: الأولى، أن القول إن البيسبول هي هواية الأميركي المفضلة خدعة، وإن شرب الصودا هو في الواقع هوايته المفضلة، والثانية، القول إن في الولايات المتحدة ينشط 226 حزبا، إلا أن الاستقطاب متمركز حول الحزبين الأكبرين "الديموقراطي" و"الجمهوري" تماما كحال "كوكا كولا" و"بيبسي كو". 

فبحسب مجلة "تايم" الأميركية، تستحوذ مشروبات الصودا على إنفاق هائل في الولايات المتحدة يقدر بـ65 مليار دولار، حيث تنفق العائلة الأميركية سنويا ما يقدر بنحو 850 دولارا على هذه المشروبات الغازية.

وعلى الرغم من أن صناعة الصودا تواجه تحديات على خلفية الأخطار الصحية المتزايدة والحملات الواسعة المناهضة لها بسبب مساهمتها في الإضرار بالمناخ، فإنه من المتوقع أن يستمر السوق العالمي للمشروبات الغازية في النمو خلال السنوات المقبلة ليبلغ نحو 320 مليار دولار بحلول عام 2028 بما يمثل معدل نمو سنويا قدره 4,7 في المئة بحسب مجلة "تايم".

font change

مقالات ذات صلة