تعدّ الشخصية الروائية من أعمدة الرواية الأساسية، فهي تُمتّن البناء المعماري للعمل وتضفي عليه جمالا خاصّا وقيمة وازنة، لذلك نرى أن كثيرا من الروائيين يبذلون عناية كبيرة في بناء شخصياتهم، ونرى أن هناك شخصيات خالدة في أعمال عالمية بعضها استلهم من الطب وعلم الاجتماع والفلسفة وغيرها من العلوم والفنون الإنسانية. وهنا يكمن التحدّي الكبيرة بالنسبة إلى الكاتب، أو اختبار موهبته وتمكُّنه من صنعة الرواية، عندما ينحت شخصية يمكنها تحدّي الزمن، فتبقى في ذاكرة الأجيال.
بناء على ذلك، يمكن الحديث عن شخصية رجل الدين "مشهور" الملقب بـ "الوحش" في رواية الكاتب المصري محمد بركة الصادرة حديثا عن دار "أقلام عربية" في القاهرة، تحت عنوان "عرش على الماء". فقد بنى شخصية غير نمطية لرجل الدين، على الرغم من أن صفات رجال من هذا النوع وسلوكياتهم مكشوفة في الواقع للناس، ولم تعد خافية على كثيرين، إنما أن تجتمع كلّ أنماط السلوك في شخصية واحدة، وببراعة في البناء، لتقدّمها شاهدة على العصر، ومشاركة في صناعته أيضا، فهو أمر يحسب للمؤلف الذي ينجح خاصة في توظيفها ممثّلة لتيار ديني نما وكبر واستطاع أن يغيّر وجه المجتمع المصري خلال العقود الماضية، فغاب الدين الشعبي الذي كان روحانيّا أكثر منه متحكّما في مفاصل الحياة، ولاعبا دورا سياسيّا مهمّا في المنطقة، عدا كشف الخلافات داخل مؤسسة الأزهر، وجرّها إلى ميدان السياسة، فعندما استدعاه الرئيس "المؤمن" الذي "استطاع أن يلاعب اليهود على الشناكل"،وبوّأه أعلى المناصب ما جعله يعرف معنى السلطة، كلّفه بالمهمة المطلوبة: "يجب أن تسترد تلك المؤسسة التي تمثل نحو مليار مسلم سنّي في العالم هيبتها وتنفض عنها غبار التهميش الذي لحقها في العهد الناصري وتصبح شوكة في خاصرة السوفييت".
خان الشيخ "الوحش" قداسة رجل الدين واستغل موقعه متبوّئا قمة الهرم في المناصب الدينية الرسمية والشعبية، من أجل مصالحه وإرضاء لنزواته، وأدّى دورا سياسيا مريبا مدعوما من الخارج حينا، ومن مؤسسة الرئاسة حينا آخر، بينما يجني الأموال حتى صار صاحب ثروة كبيرة.
تبدو الرواية لقارئ أو قارئة من الجيل الشاب، ممتعة، فيها معلومات سرّدها المؤلف بسلاسة، وفيها أماكن باهرة في وصفها، وحقب من التاريخ الحديث لمصر بهويته الاجتماعية والثقافية والدينية، تطلعه على ما لا يعرفه من هذا التاريخ، منذ العهد الملكي إلى حقبة الرئيس الراحل حسني مبارك، أما لمن عاصرها أو قرأ عنها، فسوف يجد "تأريخا" لنشوء الإسلام السياسي مدعوما من الاستعمار البريطاني بداية متمثّلا بشخصية "الأشقر الغامض" ثم من الولايات المتحدة الأميركية متمثلا بالـ "الأشقر الجديد"، وتطورها لاحقا مرورا بعهد جمال عبد الناصر الذي "تحالف مع السوفييت ليضمن القوة العسكرية"، ثم "الرئيس المؤمن" الذي تحالف مع الأميركيين ليضمن الرخاء الاقتصادي، أمّا الأخير ضمن إطار الرواية فيصفه بـ "الرجل الباهت" الذي "سوف يتحالف مع عفاريت المناطق الخربة، ليضمن التصاقه بالكرسي أطول فترة ممكنة"، من دون أن يسمّي واحدا منهم غير عبد الناصر، لكنّه يشير إلى مواقف الجماعة، متمثلة بالشيخ مشهور من كل القضايا الوطنية والاجتماعية والثقافية والدينية.