"الحزب الحاكم" في كردستان العراق "يقلب الطاولة"

قد يشهد الإقليم أزمة سياسية حادة خلال الأسابيع القادمة

أ ف ب
أ ف ب
الرئيس السابق لإقليم كردستان العراق مسعود البرزاني يدلي بصوته في الانتخابات التشريعية في 30 سبتمبر 2018 في أربيل

"الحزب الحاكم" في كردستان العراق "يقلب الطاولة"

بإعلان "الحزب الديمقراطي الكردستاني" مقاطعته للانتخابات البرلمانية المقبلة في إقليم كردستان العراق، المزمع إجراؤها في العاشر من يونيو/حزيران المقبل، فإن كردستان قد تشهد أزمة سياسية حادة خلال الأسابيع القادمة، تؤثر على مفاصل الحياة العامة داخلها. وقد تمتد إلى باقي أنحاء العراق. فـ"الديمقراطي الكردستاني" حزب حاكم في الإقليم منذ عقود، وهو أقدم الأحزاب الكردية العراقية وأكثرها جماهيرية. وكتلته البرلمانية، مع بعض حلفائه السياسيين الأصغر حجما، كانت على الدوام أكثر من نصف مجموع مقاعد البرلمان المحلي، طوال أكثر من ثلاثة عقود، هي عمر التجربة السياسية البرلمانية للإقليم. كذلك لأن الكردستاني يسيطر عمليا على مفاصل سياسية واقتصادية وأمنية هامة للغاية في مناطق نفوذه، في محافظتي أربيل ودهوك، والمناطق الكردية من محافظة نينوى "الموصل".

بالإضافة لكل ذلك، فإن الكردستاني هو أحد مؤسسي النظام السياسي الجديد في العراق، وشريك أساسي في التحالف الحاكم له منذ العام 2003، ومؤثر على توازناته الداخلية، السياسية والأهلية.

واجهة قضائية وأساس سياسي

حسب بيان المقاطعة الصادر عن "الديمقراطي الكردستاني"، فإن القرارات المتتالية التي أصدرتها المحكمة الاتحادية بشأن آلية إجراء الانتخابات في إقليم كردستان دفعته لذلك. لأنها تجاوزت اختصاصها ومواضيع وأماكن ولايتها القضائية، وتاليا الدستور الذي أطر له ذلك تفصيلا، وفق البيان.

فالحزب أشار إلى إلغاء المحكمة الاتحادية فقرة "إقليم كردستان دائرة انتخابية واحدة" من قانون الانتخابات في الإقليم، محولة إياه إلى أربع دوائر، معتبرا القرار تجاوزا للدستور العراقي، الذي يعطي "الرفعة والأولوية" للقوانين الصادرة في الإقليم في حال اعتراضها مع نظيرتها الاتحادية/المركزية. كذلك ألغت المحكمة الاتحادية الحصة البرلمانية المخصصة لأبناء القوميتين التركمانية والآشورية/الكلدانية (11 مقعدا من أصل 111 مقعدا)، ما اعتبره "الديمقراطي الكردستاني" منافيا للمادة 117 من الدستور، التي تضمن الحقوق الإدارية والسياسية والثقافية لأبناء القوميات الأخرى في العراق، من غير القوميتين الأساسيتين، العرب والكرد. وإلى جانب ذلك، فإن "الديمقراطي الكردستاني" عبر عن رفضه لقرار المحكمة الاتحادية بـ"إقصاء السلطة القضائية في الإقليم عن البت في الطعون الانتخابية التي جاءت في قانون انتخاب برلمان كردستان وإناطة هذه الصلاحية إلى هيئة قضائية تتبع (مجلس القضاء الأعلى) الاتحادي"، مصنفة إياه كتجاوز خطير على السلطة القضائية في الإقليم.

"الديمقراطي" أشار إلى تجاوز المحكمة لسلطتها القضائية في الفصل بين المنازعات إلى العمل والإقرار في الحيزين التشريعي والتنفيذي، مذكرا بقراراتها في إلغاء قانون النفط والغاز في إقليم كردستان، والذي أُقر حسب المادة 110 من الدستور، ورفعها ليد المفوضية العليا للانتخابات والاستفتاء في الإقليم عن تنظيم الانتخابات، مضيفا أن هذه "الخروقات" من المحكمة الاتحادية دفعت أطرافا أخرى في العراق والإقليم لأن تتصرف وتحدد آليات تنظيم الانتخابات من خارج المؤسسات الدستورية للإقليم، في إشارة ضمنية للمفوضية العراقية المستقلة للانتخابات.

إيران تتعامل مع "الديمقراطي الكردستاني" بالنفس الطويل، لأن الأخير أكثر رسوخا في مناطق نفوذه

مراقبون ومقربون من "الحزب الديمقراطي الكردستاني" أكدوا أن القرار السياسي الاستثنائي الذي اتخذه الحزب، وإن كان يستند إلى واجهة تفسيرية تتعلق بقرارات المحكمة الاتحادية، لكنه بالأساس اتخذ هذه الخطوة للانقلاب على الحصار الذي يُفرض عليه، والذي يأتي على شكل ضغوط سياسية وأمنية واقتصادية، تراكمت طوال الشهور الماضية، من قِبل إيران والقوى السياسية والفصائل العراقية المسلحة المقربة منها، بغية إخضاعه سياسيا وأمنيا، وإخراجه من استقلاليته عن محور إيران، كتيار سياسي عراقي استثنائي في ذلك الاتجاه.

رويترز
رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس وزراء إقليم كردستان مسرور البرزاني في بغداد في 4 أبريل 2023

وحسب الرأي الأعم، فإن الضغوط على "الديمقراطي الكردستاني" بدأت بعد ظهور نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية التي جرت أواخر عام 2021، واندراج الحزب في التحالف الثلاثي، مع كل من التيار الصدري (الشيعي)، وحزب "تقدم" (السُني)، ومحاولة هذا التحالف الفائز بالانتخابات إزاحة حلفاء إيران العراقيين من سُدة الحُكم وقتئذ، وتفكيك التمدد الإيراني المسلح ضمن العراق.
وردا على ذلك، صارت إيران والقوى العراقية التابعة لها تخطط للضغط على هذه القوى استراتيجيا، فنجحت في دفع التيار الصدري لتقديم استقالة نوابه من البرلمان ومقاطعة كل العملية السياسية، وأقالت زعيم حزب "تقدم" محمد الحلبوسي من رئاسة البرلمان، فيما غدت تتعامل مع "الديمقراطي الكردستاني" بالنفس الطويل، لأن الأخير أكثر رسوخا في مناطق نفوذه، ولخصوصية إقليم كردستان وتمايزه السياسي عن باقي مناطق العراق.

أجواء عام 1996

استُخدمت الكثير من الآليات في الضغط على "الديمقراطي الكردستاني"، كانت الأولى عبر منع الحكومة التي يترأسها في كردستان من تصدير النفط المستخرج في مناطقه إلى الخارج، ووضع عراقيل شديدة أمام حصوله على حصته من الميزانية المركزية، وتاليا خلق أزمة اقتصادية خانقة في مناطقه، ما تسبب في "نقمة" وضغوط شعبية على الحكومة التي يترأسها والمؤسسات الرديفة التي يُشرف عليها، وتراجعا في مستويات التنمية والخدمات العامة المُقدمة من قِبلها.
إلى جانب ذلك، تضاعفت الهجمات العسكرية على مناطق نفوذ الحزب، بعضها يُشن من فصائل مقربة من إيران على القواعد العسكرية والمنشآت الأميركية في هذه المناطق، وعلى قواعد ومراكز قوات البيشمركة بين فينة وأخرى، تحت يافطة "المقاومة الإسلامية في العراق"، وبحجة إخراج القوات الأميركية من العراق. وهجمات عسكرية مباشرة شنتها إيران، إما على مخيمات اللاجئين الأكراد الإيرانيين في الإقليم، وإما على منازل رجال أعمال أكراد، بدعوى احتوائها على مراكز لجهاز الموساد الإسرائيلي. ومع الأمرين، عرقلة وعدم تنفيذ لكل الاتفاقات التي بين هذا الحزب وباقي الأحزاب السياسية العراقية، ضمن إطار "إدارة الدولة" الحاكم راهنا. فاتفاق سنجار لم يُنفذ، وكامل البنود المتوافق عليها قُبيل تشكيل هذه الحكومة في الإطار الحاكم لم تُنفذ، إذ لم يُسهل صرف حصة الإقليم من الميزانية العامة و"قانون النفط والغاز الاتحادي" لم يُقدم إلى البرلمان، وبقيت هذه القوى تستخدم سلطة المحكمة الاتحادية للتضييق على "الحزب الديمقراطي".

"الديمقراطي الكردستاني" يهدد بالتصعيد، وليس الخروج من البرلمان والحكومة المركزية فحسب

مجموع تلك الضغوط الإيرانية، المستندة والمستفيدة في بُعد منها إلى شقاق سياسي كردي داخلي واضح الملامح، بين الحزبين الرئيسيين في الإقليم، "الديمقراطي"، و"الاتحاد الوطني الكردستاني"، اللذين تجاوزا فعليا أسس ومرحلة الاتفاق الاستراتيجي الذي كان بينهما عام 2005، ومع عدم حصول "الديمقراطي الكردستاني" على دعم واضح وموازٍ من أي محور إقليمي أو قوة دولية ذات نفوذ في العراق قادرة على خلق حمائية واضحة للحزب ومناطق نفوذه ونزعاته الأيديولوجية ومصالح المرتبطين به ضمن الإقليم، قد يدفعه لاتخاذ قرارات استثنائية وغير متوقعة، بغية كسر هذه الحلقة الضاغطة عليه.

الأجواء السياسية صارت مشابهة لما كانت عليه في صيف 1996 في إقليم كردستان. وقتئذ، وبعد عامين من الحرب الأهلية بين الحزبين الرئيسيين، تراجع نفوذ "الحزب الديمقراطي الكردستاني" ليكون في محافظة دهوك فحسب، وحصل "الاتحاد الوطني الكردستاني" على مساندة واضحة من إيران، ولم تتدخل الولايات المتحدة ميدانيا استجابة لطلبات "الديمقراطي"، فلجأ هذا الأخير لتحالف عسكري مؤقت مع نظام الرئيس السابق صدام حسين، والحصول على مساعدة عسكرية منه، لإخراج "الاتحاد الوطني" من محافظة أربيل، والعودة إلى "اللعبة السياسية" في العراق بقوة، وهو ما حصل.

عواقب غير متوقعة

تواصلت "المجلة" مع عدد من المقربين وأصحاب القرار ضمن القوى السياسية الكردية والعراقية، وقد أجمعوا على أن قرار "الديمقراطي الكردستاني" قد يشكل تحولا في السكينة السياسية الراهنة في العراق، وذلك على أربع مستويات.

أ ف ب
بائع متجول قرب ملصقات انتخابية في أربيل في 26 سبتمبر 2018

ففي بيانه "المُقاطع" للانتخابات القادمة، وجه "الديمقراطي الكردستاني" نداءه إلى القوى السياسية العراقية المركزية (الشيعية)، محملا إياها مسؤولية ما يجري، ومُهددا بإمكانية التصعيد، وليس الخروج من البرلمان والحكومة المركزية فحسب، بل مقاطعة العملية السياسية في البلاد برمتها: "نضع أطراف تحالف إدارة الدولة أمام مسؤولياتهم الوطنية في تطبيق الدستور وجميع بنود الاتفاق السياسي والإداري الخاصة بتشكيل الحكومة الحالية برئاسة السيد محمد شياع السوداني. وبعکسە لا يمكننا الاستمرار في العملية السياسية".
صحيح أن بعض هذه القوى وجهت طلبات ودعوات للديمقراطي للتراجع عن قرار المقاطعة، مثل حزب الدعوة وتيار الحكمة، إلا أن "الديمقراطي" يتطلع لإعادة التوازن للشراكة مع هذه القوى، التي تبددت واختلت لصالح الأخيرة بحدة خلال السنوات الماضية، حتى صارت ترسم ملامح السياسات الاستراتيجية للعراق دون أي اعتبار لحساسيات وحسابات "الحزب الديمقراطي"، الذي يعتبر نفسه مؤسسا للنظام السياسي في العراق، والجهة الحامية للتوافقية ضمن هذا النظام، ليس بين القوى السياسية المؤسسة فحسب، بل بين المكونات الأهلية الثلاثة الرئيسة في العراق، الشيعة والسُنة والأكراد، وانسحاب "الديمقراطي" من العملية السياسية، ومعه كتلة شعبية كردية كبيرة، قد يهز كل هذه العملية السياسية وأساسها التوافقي.

يمكن لـ"الديمقراطي" إعاقة عمل عدد من المؤسسات عبر آليات مشابهة من المقاطعة والعصيان المدني

هذا الأمر الذي قد يجر تحركات موازية من التيار الصدري والقوى السياسية السُنية التي كانت ضمن التحالف الثلاثي. فزيارة زعيم التيار مُقتدى الصدر للمرجع الديني الأعلى لطائفة الشيعة السيد علي السيستاني، جاءت بُعيد قرار "الديمقراطي" بيوم واحد، والقوى السُنية كانت الأكثر تحفظا في دعوة "الديمقراطي" للعدول عن رأيه، ما يُشير إلى تطلعها للمزيد من التصعيد المضبوط.
المستوى الثالث يتعلق بإمكانية إجراء الانتخابات أساسا في الكثير من مناطق الإقليم في حال استمرار مقاطعة "الديمقراطي". فالكثير من مناطق الإقليم تحت هيمنته السياسية والإدارية والشعبية تماما، ويمكن له تنظيم احتجاجات شعبية وأنواع من المناهضة التي قد تعيق إجراء العملية الانتخابية. كذلك يمكن لـ"الديمقراطي" إعاقة عمل عدد من المؤسسات عبر آليات مشابهة من المقاطعة والعصيان المدني وغير ذلك، في حال وصول التصعيد إلى مستويات أكبر من المواجهة.
أخيرا، فإن إقليم كردستان تأسس منذ عقود على شراكة بين الحزبين الرئيسيين، "الاتحاد الوطني"، و"الديمقراطي الكردستاني"، وهي شراكة كانت تعبر بمضمونها الأوسع عن توازن إقليمي دقيق محيط بالعراق، وفي مراحل لاحقة عن توازن بين الولايات المتحدة وبعض القوى الإقليمية. حسب ذلك، فإن مقاطعة "الديمقراطي" وخروجه من التمثيل البرلماني ومؤسسات الحُكم، قد يخل بذلك التوازن، وتاليا قد يجر اندفاعا إقليميا، وربما دوليا، لاسترجاع ذلك التوازن.

font change

مقالات ذات صلة