بغداد وإقليم كردستان... هل تصلح "المحكمة الاتحادية" ما أفسدته التوافقات السياسية

مسؤولية مزدوجة عن سوء العلاقات بين الجانبين

AFP
AFP
أشخاص يسيرون في سوق قريبة من قلعة أربيل، عاصمة إقليم كردستان، في 16 مايو 2023

بغداد وإقليم كردستان... هل تصلح "المحكمة الاتحادية" ما أفسدته التوافقات السياسية

منذ دخول المحكمة الاتحادية العليا فيصلا في الخلافات بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان، بدأت تتكشف عورات التوافقات السياسية التي تحكم هذه العلاقة بين الطرفين، حتى باتت تعلو على النصوص الدستورية. ولطالما كانت حكومتا بغداد وإقليم كردستان والقوى السياسية التي تمثل الطرفين، لا تريد الاعتراف بأن حل المشاكل عن طريق الاتفاقات هو بمثابة مسكن الآلام لمريض مصاب بالسرطان. ولذلك تأتي قرارات المحكمة الاتحادية لتذكر الأطراف السياسية في بغداد وكردستان بأن اتفاقاتها تراكم الأزمات بدلا من حلها.

قرار المحكمة الاتحادية الأخير بشأن إلزام الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم بدفع رواتب موظفي إقليم كردستان، وإلزام حكومة الإقليم بتسليم جميع إيراداته النفطية وغير النفطية إلى الحكومة الاتحادية (خزينة الدولة)، حسم أهم ملفات التوتر بين الطرفين، ولطالما تم توظيفه لتوجيه الاتهام إلى حكومة بغداد بأن سياسة قطع الرواتب تهدف إلى "تجويع الإقليم". في حين كانت الحكومة الاتحادية دائما ما تربط ملف الرواتب بعدم تسليم الواردات النفطية إلى المؤسسات المالية الاتحادية. وبين هذا السجال وتبادل الاتهامات، كان الضحية هو مواطن إقليم كردستان الذي دفعه تأخير الرواتب إلى رفع الشكوى للمحكمة الاتحادية.

الدستور يوظف للاحتجاج وليس للاحتكام، وأصبح "كلمة حق يُراد بها باطل"

غياب الدستور وحضور الاتفاقات

في كل مناسبة أو أزمة بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان العراق، تحضر بقوة مفردة "الاحتكام إلى الدستور". ولكنها حاضرة في خطابات السياسيين فقط، وليس لإيجاد حل للأزمات، وواقع الحال أن الدستور يوظف للاحتجاج وليس للاحتكام، وأصبح "كلمة حق يُراد بها باطل". إذ لطالما كانت العلاقة المأزومة بين حكومتي بغداد وأربيل من جانب، والقيادات السياسية الكردية والعربية من جانب آخر، هي المِعوَل الذي يهدم مبدأ عُلوية الدستور.

AFP
رئيس الوزراء محمد شياع السوداني (في الوسط) يرأس اجتماعا لكبار المسؤولين في الحكومةوالقوات المسلحة العراقية (على اليمين) والتحالف الدولي لمحاربة "داعش" في 27 يناير

ولم تكن النصوص الدستورية هي التي تحكم العلاقة بين حكومة بغداد وإقليم كردستان، وإنما كانت التوافقات والاتفاقات السياسية هي التي تحدد طبيعة العلاقة بينهما. إذ إن الخلاف بين نوري المالكي رئيس الوزراء السابق في ولايته الثانية ومسعود برزاني رئيس الإقليم السابق، لم يكن خلافا دستوريا، وإنما كان بشأن قناعة الساسة الكرد بعدم تطبيق بنود "اتفاق أربيل" الذي شُكلت على أساسه الحكومة في 2010 وتم في ضوئه منح المالكي الولاية الثانية لرئاسة الوزراء. 
وقد تصاعدت وتيرة الخلافات في ولاية رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي وبلغت ذروتها بإجراء استفتاء على استقلال كردستان في الخامس والعشرين من سبتمبر/أيلول 2017. والخلاف هذه المرة أيضا لم يكن خلافا دستوريا، وإنما كان مرده عدم التزام حكومة الإقليم بالاتفاق الذي عقده رئيس الحكومة السابق عادل عبد المهدي، (الذي كان وزيرا للنفط آنذاك)، في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2014، والذي اتفق فيه على أن تسلم حكومة الإقليم 150 ألف برميل يوميا للحكومة الاتحادية، مقابل إرسال الأخيرة 500 مليون دولار إلى الإقليم. إذن الخلاف في جميع محطاته لم يكن بشأن الالتزام ببنود الدستور من عدمه.

روابط الصداقة هي التي تحكم علاقة الحكومة الاتحادية بإقليم كردستان وليس التشريعات والقوانين

حاول عادل عبد المهدي تجاوز التوتر في العلاقة بين حكومتي كردستان وبغداد بعد أزمة الاستفتاء بكسب ود الكرد من خلال تحديد اتفاق جديد في موازنة 2019. ينص هذا الاتفاق على التزام حكومة إقليم كردستان بتصدير ما لا يقل عن 250 ألف برميل يوميا من النفط المنتج من حقولها، على أن تسلم الإيرادات النفطية للخزينة العامة للدولة. في المقابل تلتزم الحكومة الاتحادية بدفع مستحقات إقليم كردستان بما فيها تعويضات موظفي الإقليم ويستقطع مبلغ الضرر من حصة الإقليم في حال عدم تسليمه للحصة المقررة من النفط. لكن حكومة الإقليم لم تلتزم لحد الآن، بهذا الاتفاق. أما حكومة بغداد فإنها مستمرة في دفع الرواتب ومستحقات الإقليم، ويبدو أن علاقات الصداقة التي تربط عبد المهدي بالقيادات الكردية مبرر لغض الطرف عن عدم محاسبة حكومة الإقليم حتى وإنْ لم تلتزم بالاتفاق الذي حددته بنود الموازنة. فروابط الصداقة هي التي تحكم علاقة الحكومة الاتحادية بالإقليم وليس التشريعات والقوانين النافذة.
وبقي هذا الاتفاق ضمن موازنة الحكومة الاتحادية لسنة 2021 في حكومة مصطفى الكاظمي. لكن في بداية تسلم حكومة محمد شياع السوداني وتحديدا بداية عام 2023، قررت المحكمة الاتحادية عدم دستورية القرارات الصادرة من قبل مجلس الوزراء عامي 2021 و2022 بشأن تحويل الأموال لإقليم كردستان.

EPA
مقاتلون من "البيشمركة" بالقرب من صورة مسعود بارزاني في أطراف مدينة كركوك، العراق، في 3 سبتمبر 2023

مسعود بارزاني زعيم "الحزب الديمقراطي الكردستاني"، وهو مَن حدد مبادئ التحالف مع قوى "الإطار التنسيقي" لتشكيل حكومة السوداني وفق الشراكة والتوازن والتوافق، لم يتردد في وصف هذا القرار للمحكمة الاتحادية بأنه "موقف عدواني ضد إقليم كردستان". مع أن البارزاني يعلم جيدا أن كل اتفاقاته السياسية التي يدخل فيها للمشاركة في الحكومة لم تكن ضمن الدستور، ولذلك هو يُحاجج بالاتفاقات على حساب النصوص الدستورية، ولعل هذا ما يؤكده نقده لقرار المحكمة، بأنه "ضد العملية السياسية وضد الحكومة العراقية وضد برنامج ائتلاف إدارة الدولة".
ربما يكون تصريح البارزاني مبررا بذريعة التوافق على تشكيل الحكومة وفق اشتراطات محددة، ولكن الأكثر غرابة هو رد زعيم ميليشيا "عصائب أهل الحق" قيس الخزعلي على تصريح البارزاني شريكه في "تحالف إدارة الدولة"، الذي يعتقد فيه أن "السبيل الوحيد لاستقرار العملية السياسية، والحفاظ على الحقوق، هو الالتزام بسقف الدستور"، وأن من يضمن الحقوق هو الدستور! وهذا دليلٌ على أن الاتفاقات السياسية كانت حاضرة بقوة في مبادئ الشراكة والتوازن والتوافق، وأن احترام الأطر الدستورية كانت غائبة في النقاشات والحوارات.
بيد أن حكومة السوداني، عادت مرة أخرى إلى التوافقات لحل مشكلة رواتب موظفي الإقليم، ولم تعد إلى الدستور، ففي سبتمبر/أيلول الماضي قرر مجلس الوزراء العراقي إقراض حكومة إقليم كردستان العراق مبلغا قدره 2.1 تريليون دينار (1.6 مليار دولار) للسنة المالية 2023 بهدف توفير السيولة المالية لحكومة الإقليم، وتمكينها من دفع رواتب الموظفين. يتم دفعها على ثلاث دفعات متساوية (700 مليار دينار لكل دفعة). 
وهذا الاتفاق أصبح بحكم الملغى بعد قرار المحكمة الاتحادية الأخير، وربما يكون اختبارا لمصداقية الحكومة والقوى السياسية في الالتزام بقرارات المحكمة الاتحادية. والبحث عن حلول نهائية لأزمة رواتب موظفي إقليم كردستان وإنهاء الخلاف بشأن الواردات النفطية وغير النفطية، وعودة العلاقة بين الإقليم والحكومة الاتحادية باعتبارها علاقة بين إقليم داخل دولة، وليس علاقة هجينة بين الفيدرالية والكونفدرالية.

التحالف الذي قام على أساس المظلومية الشيعية-الكرُدية بات يفتقد للأرضية التي يقف عليها

الشخصنة السياسية لا المؤسسات

علاقات المجاملات الشخصية بين الطبقة السياسية الحاكمة في بغداد وأربيل، لا تزال تعمل بواقع تاريخي محكوم بعلاقات المعارضة أكثر من كونه محكوما بواقع التحولات والتوازنات السياسية بعد 2003. حيث إن التحالف الذي قام على أساس المظلومية الشيعية- الكرُدية بات يفتقد للأرضية التي يقف عليها، فالشيعة لم يعودوا مظلومين من قبل السلطة، بل باتوا أصحاب السلطة الحقيقيين. والكرُد بتعاملهم مع الشيعة وفق منطق التغالب جعلهم متحالفين مع أحزاب سياسية شيعية فشلت في إدارة الحكم، وبات فسادها يملأ البلاد. ومن ثم فَقَدَ الكرُد ثقة الشيعة وباتوا متهمين، من قبلهم، بنهب ثروات البلاد، ويرونهم دولة مستقلة وليسوا شركاء في الوطن. ولذلك نجد جيلا كاملا في الجنوب لا يعنيه بقاء كردستان ضمن حدود العراق من عدمه، فضلا عن جيل سابق لا يحتفظ بذكريات عن الكرُد إلا ذكريات "حرب برزان" أو "حروب العصاة" كما يسمونها. وفي الطرف الكرُدي، هناك جيل كامل لا يرتبط بأي علاقة مع العراق العربي، إذ حتى اللغة العربية التي تشكل رابطا للتواصل، نجدها غائبة عن الغالبية العظمى من جيل الثمانينات والتسعينات الذين لا يجيدونها، وهذا ما دفعهم إلى الاقتناع بعدم وجود أي رابطة تربطهم بالعراق.

بات في العراق نظام سياسي عنوانه الدستوري "فيدرالي"، وواقعه دولة داخل دولة

إن الشخصنة والتخادم السياسي بين طبقة سياسية تسلمت مقاليد السلطة في بغداد وجعلت العراق في صدارة الدول الأكثر فسادا وفشلا، وبين الإقطاعيات السياسية في كردستان، هما العاملان الرئيسان في رسم ملامح العلاقة بين كردستان وبغداد. وأصبح الواقع السياسي محكوما بعدم جدية السياسيين الكرد في حلحلة جميع القضايا العالقة مع بغداد؛ لأن حلها يعني فقدان عنوان لتهديد قومي يستهدف الكرد، وهو التهديد الذي يبرر هيمنة حكم العوائل السياسية في كردستان. كما أن القيادات السياسية في بغداد لا ترغب، أو ليس لديها القدرة على بناء دولة مؤسسات تكون فيصلا في حل الخلافات بين حكومتَي أربيل وبغداد.

AFP
عمال يستمعون للسوداني خلال حفل إعادة افتتاح مصفاة نفط الشمال في بيجي شمالي بغداد، في 23 فبراير

ومن ثم، بات لدينا نظام سياسي عنوانه الدستوري "فيدرالي"، وواقعه دولة داخل دولة. فتحالف السياسيين الكرُد والشيعة لم يتوسع خارج إطار المنطقة الخضراء وحكومة أربيل، ولم يتطور على المستوى الجماهيري. ومن ثم فشل في خلق نظام سياسي قادر على توفير بيئة صحية للاندماج الاجتماعي وتشكيل هوية وطنية. وفي النتيجة فشل التحالف على أساس المظلومية ومنطق المعارضة في بناء دولة- أمة.

font change

مقالات ذات صلة