العراق... العلاقة المأزومة مع الدولة

هوة سحيقة بين الحكام والمحكومين

AP
AP
خلال تشييع مقاتل من "كتائب حزب الله" قتل بغارة أميركية، بغداد في 26 ديسمبر 2023

العراق... العلاقة المأزومة مع الدولة

يتشابه الكيان السياسي العراقي مع ذلك الكائن المسخ في رواية "فرانكشتاين" لماري شيلي. فالعراق لم يكن يوما نتاج عقد اجتماعي، وإنما نتاج إرادة خارجية فرضت وجودها، وبقيت عبارة عن تجمع مكونات طائفية وعرقية وليس الشعب بأكمله. ولذلك، حتى يومنا هذا، عندما نريد مناقشة مشكلة تأسيس الدولة العراقية نعود إلى مذكرة الملك فيصل الأول، التي نقلها عبد الكريم الآزري في كتابه "مشكلة الحكم في العراق"، ويقول فيها: "في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد تكتلات بشرية خيالية، خالية من أي فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة، سماعون للسوء ميالون للفوضى، مستعدون دائما للانتفاض على أي حكومة كانت. فنحن نرى، والحالة هذه، أن نشكل من هذا التكتل شعبا نهذبه، وندربه، ونعلمه، ومن يعلم صعوبة تشكيل وتكوين شعب في مثل هذه الظروف يجب أن يعلم أيضا عظم الجهود التي يجب صرفها لإتمام هذا التكوين وهذا التشكيل...".

المفارقة أن أكثر من مئة عام على تأسيس الكيان السياسي في العراق، ومشاكل التأسيس لم تنته بعد. فالدولة العراقية، كما يصفها المفكر الراحل فالح عبد الجبار، ظاهرة يافعة تعود إلى عشرينات القرن العشرين، أي إنها نتاج الحكم الاستعماري، وتفتقر إلى العمق التاريخي والمؤسسات المتجذرة؛ وهي دولة إقليمية، أي وحدة جغرافية لا تضم شعبا (أمة) يبحث عن كيان الدولة، بل هي دولة تبحث عن كيان أمة. ويعتقد عبد الجبار في مقدمة كتابه "كتاب الدولة: اللوياثان الجديد": "المجتمع الممزق على أساس الهويات دون الهوية الوطنية، المحترب مع نفسه لن ينتج دولة. وكما قلت مرارا العراق بحاجة إلى أن يتصالح مع نفسه أولا. بخلافه لن تكون ثمة دولة".

منذ تأسيس الدولة في عشرينات القرن الماضي بقيت الفكرة الوطنية خجولة في مقابل الطروحات الأيديولوجية التي تريد تذويبها لصالح شعاراتها الرئيسة. وهذا ما فعلته الشعارات الماركسية، التي كانت تدعو للأممية، وتخون من يحصر فكرة الأولوية في الأوطان، وليس في مبادئ الحزب الذي تقوده دولة كبرى مثل الاتحاد السوفياتي سابقا.

لعل المعضلة الأكبر أن القيادات السياسية التي تصدت للحكم بعد تغيير النظام في 2003 لم تكن تحمل مشروع إعادة بناء الدولة

والتقاطع بين الأيديولوجيات وفكرة الوطنية هو محصلة طبيعية لتراكمات شعارات تتبناها النظرية القومية، التي روجت لها النخبة الحاكمة في العراق منذ ستينات القرن الماضي، ومعضلة النظرية القومية تكمن في أنها نظرية ثقافوية في الأمة العربية أكثر منها نظرية في الدولة الوطنية، وبمعنى آخر- كما يراها محمد جمال باروت- هي ليست نظرية في الدولة-الأمة بقدر ما هي على وجه الدقة والتحديد نظرية تفصل بشكل تام بين الأمة والدولة.
لم تتجاوز النخب السياسية التي تحكمنا اليوم محنة العراقيين مع أولوية الأيديولوجيات على هويتهم ومصلحتهم الوطنية، فالإسلامويون الذين لهم الغلبة في الحكم والسيطرة على السلطة رسخوا هذه المحنة، وبدلا من أن يكون مشروعهم بناء هوية وطنية والدفاع عنها وترسيخها، بات مشروعهم الأول تغييبها تماما، وتغليب مصلحة المحاور الإقليمية بمشاريعها الطائفية، التي تريد ربط مصير بلدان المنطقة بمحاور الصراع التي لا تنتج إلا الحروب والفقر والعوز. 
ولعل المعضلة الأكبر، أن القيادات السياسية التي تصدت للحكم بعد تغيير النظام في 2003، لم تكن تحمل مشروع إعادة بناء الدولة، وترميم علاقتها مع المجتمع، ولا حتى التفكير في الموضوع، وإنما جاءت بفكرة الاستحواذ على السلطة وتحويل مؤسسات الدولة واقتصادها إلى إقطاعيات تابعة للزعامات السياسية.

AFP
خلال تشييع مقاتل من "كتائب حزب الله" قتل بغارة بطائرة من دون طيار، بغداد في 21 نوفمبر 2023

في أيام معارضة النظام السابق لم تكن خطابات وشعارات قوى الإسلام السياسي الشيعي تخلو من توظيف الآيات القرآنية التي تركز على موضوع الدولة، ولذلك تستحضر في خطابها السياسي الأدعية الواردة من المرويات الشيعية، في "دعاء الافتتاح": "اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة". وتردد الزعامات السياسية الكردية مظلوميتها التاريخية من الدولة الدكتاتورية الشمولية وسياسة الأنظمة القمعية، وترفع دائما شعارات الدولة الديمقراطية التي تضمن حقوقها القومية. وأما القوى السياسية السنية فقد كانت دائما توحي بأنها تملك موروثا تاريخيا يرتبط بقوة بكيان الدولة وإدارتها.
لكن ذلك المخيال بالدولة في أيام المعارضة، لم يتجسد على أرض الواقع في أيام الحكم. وتحوّل التفكير من بناء الدولة التي كان المعارضون يحلمون بها، إلى العمل على تدمير كل ما يتعلق بحكم القانون والمؤسسات! وباتوا يتصارعون كل يوم لفرض سيطرتهم على مواردها. وبدلا من أن يغادروا فكرة مظلوميتهم من الدولة، باتوا يعملون على إدامة فكرة المظلومية من خلال تغليفها بنظرية المؤامرة! ولذلك- كما يقول المفكر المغربي عبد الله العروي- فإن "الدولة بقيت سرا محجوبا عنهم. كيف يفهمونها، كيف ينظرونها وهم لا يعاينونها ولا يلمسونها".

منذ تأسيس الدولة في العراق، لم تكن في يوم من الأيام دولة مواطنة، ولن تكون اليوم في ظل حكم الأوليغارشيات

عدوى العلاقة المأزمة بين الطبقة الحاكمة والدولة، انتقلت إلى العلاقة بين المجتمع والدولة. وكيف لا تنتقل وهي امتداد تاريخي لتأزم علاقتنا مع الأنظمة السياسية التسلطية والشمولية، التي كانت تختزل الدولة  بشخص الحاكم أو الحزب، ولذلك جعلتنا نكره وننفر من كل المؤسسات والقوانين ونعدها تصب لخدمة الطبقة الحاكمة وتسلطها، بحيث أصبحنا مصابين بانفصام الشخصية، فنحن في العلن نخضع لما يفرضه نظام الحكم، ولكننا في الخفاء نلعن كل ما يتعلق بالأوامر والنواهي التي تصدرها الدولة. كنا ولا زلنا نعتقد أن حزمة القوانين والتشريعات التي تصدر من الدولة هدفها ليس تنظيم شؤون حياتنا اليومية، ولكنها إجراءات من قبل الطبقة الحاكمة لإخضاعنا وإجبارنا.

مغذّيات التوتر

وبدلا من أن تتجاوز قوى السلطة تلك الأزمة، عملت على ترسيخها، واستبدلت مفهوم الدولة المتعالي عن التناقضات الاجتماعية، إلى حكم بعنوان الطوائف والقوميات. وبدلا من ترسيخ مفاهيم "الشعب"، "الأمة"، "المجتمع"، استبدلتها بمفهوم يقسم المجتمع إلى مكونات طائفية وعرقية. ولم يبق في هذا الخواء العدمي سوى روابط لما قبل الدولة، وهي القبائل والأسر والطوائف، والإثنيات القديمة.
منذ تأسيس الدولة في العراق، لم تكن في يوم من الأيام دولة مواطنة، ولن تكون اليوم في ظل حكم الأوليغارشيات التي تسيطر على النظام وتعتاش بطريقة طفيلية على موارد الدولة، وكانت، ولا تزال، أبرز أخطاء الأحزاب والقوى التي حكمت العراق هي توسيع الهوة بين الحكام والمحكومين، وجعل المحكومين غير قادرين على التمييز بين حقدهم وكراهيتهم على الطبقة الحاكمة وبين تمردهم على الدولة.
ويعيد السياسيون بسذاجة، إنتاج مغذّيات التوتر في العلاقة مع الدولة، في الوقت الذي صدعوا فيه رؤوسنا بخطاباتهم عن مشروع بناء الدولة أو إعادة بنائها! لكن أحاديثهم تلك لا تتعدى سوى الخطابات واللقاءات التلفزيونية في أيام الانتخابات، وبعد هذا يعودون إلى الحديث عن حق المكون الطائفي، وأن هذا المنصب استحقاق لهذا المكون القومي، ويكون الحديث عن العرف السياسي باعتباره مقدسا وخطا أحمر لا يمكن تجاوزه.

من الرومانسية المفرطة التفكير بأن في مخيلة الطبقة الحاكمة مساحة لفكرة الدولة

حتى الآن لا تريد الطبقة السياسية الحاكمة مغادرة تفكيرها الذي يعادي الدولة، ويريد تدمير بقاياها الشكلية، وكأنما هناك ثأر قديم بينها وبين الدولة! وبدلا من الشروع في ترميم ما تبقى من مؤسسات وإعادة ربطها بالدولة، عملت الطبقة السياسية وفق خطين متوازيين: الأول تدمير بنيوي لكل رمزيات مؤسسات الدولة التي تعبر عن هيبة الدولة وكيانها وتعاليها عن الصراعات المجتمعية، ولعل المؤسسة العسكرية من أهم المؤسسات التي تعرضت لهذا التخريب المتعمد. والثاني، إنشاء كيانات موازية للدولة، إذ بدلا من أن يحكمنا الدستور والقوانين، بات يحكمنا التوافق بين الزعامات السياسية، وبدلا من أن تحتكر الدولة السلاح، بات لدينا الكثير من العناوين السياسية والعسكرية التي تحمل السلاح خارج سيطرة الدولة وتريد أن تخضع الدولة والمجتمع لسطوة سلاحها المنفلت.

AFP
رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني يرأس اجتماعا لقيادات من الجيش العراقي والتحالف الدولي لمحاربة "داعش"، في 27 يناير

ومن الرومانسية المفرطة التفكير بأن في مخيلة هذه الطبقة الحاكمة مساحة لفكرة الدولة ومفهومها؛ لأنها تعتقد أن نهاية سطوتها ونفوذها السياسي هي في قوة الدولة، وهي امتداد لموروث ثقافي واجتماعي لا يؤمن بمشروع الدولة، ولذلك لم يعد من المستغرب أن نجد في العراق أن من أسسوا أركان النظام السياسي وكتبوا الدستور، يعلنون في كل يوم تمردهم على النظام، ولا يحترمون الدستور الذي لم يعد حاكما وإنما أصبح وسيلة للاحتجاج السياسي عند التخاصم.
الطبقة السياسية الحاكمة في العراق تؤبد عداءها للدولة، كونها تتعارض مع انتمائها القومي والطائفي، فالكرد وعلى الرغم من أنهم شركاء في تأسيس النظام السياسي في العراق بعد 2003، فهم يعتقدون أن بقاءهم ضمن خريطة العراق هو لضمان مصالحهم وليس هدفه شراكة حقيقية في الوطن، ومشروعهم الأكبر هو دولة قومية منفصلة عن الدولة العراقية، وهذا هو الركن الأساسي في أزمة التفكير السياسي الكردي إزاء الدولة في العراق. والكثير من قوى الإسلام السياسي الشيعي يعتقد أن الانتماء المذهبي أكبر من أن يتم حصره في حدود الدولة العراقية، فالعقيدة أكبر وأهم من تلك الحدود المصطنعة. وهذه القوى لا تجد حرجا في التماهي مع "الجمهورية الإسلامية" في إيران، وتبرر تدخلاتها باعتبارها راعية لتجربة الحكم السياسي الشيعي! والكثير من الزعامات والقوى السياسية السنية يعتقد أن الانتماء الجغرافي العربي يبيح لها تقبل التدخلات الإقليمية ودورها في تقريب وجهات النظر بين الفرقاء السنة عندما تشتد الخلافات السياسية بينهم.
وما دام من يحكموننا يعبرون في سلوكهم السياسي عن بغض للدولة ويفكرون في دولة تختلف عن الدولة بمفهومها المعاصر، ويتخيلون أن ديمومة حكمهم ونفوذهم هي في بقاء العمل خارج الدولة، فسنبقى بعيدين كل البعد عن حلم العيش في ظل الدولة.

font change

مقالات ذات صلة