أي إنه رغم إدراك هؤلاء أن أية ترتيبات لدولة فلسطينية سوف تكون توسيعا لانسحاب إسرائيلي آخر كما حصل في غزة عام 2005، وستكون الدويلة الفلسطينية مرتعا للفساد السلطوي الفلسطيني أولا، ووكيلة لإسرائيل لإدارة السيطرة على فلسطين التاريخية ثانيا، بحيث ستكون هذه "الدولة" جزءا من سيرورة استعمارية كولونيالية ولن تكون دولة مستقلة وطبيعية.
وبحسب دائرة المعارف البريطانية (بريتانيكا)، فإن "المحمية الاستعمارية هي العلاقة بين دولتين تمارس إحداهما بعض السيطرة الحاسمة على الأخرى. قد تختلف درجة السيطرة من الوضع الذي تضمن فيه الدولة الحامية سلامة الطرف الآخر وتحميه (...) وفي العصر الحديث، تم إنشاء غالبية المحميات بموجب معاهدة تتنازل بموجبها الدولة الأضعف عن إدارة جميع علاقاتها الدولية الأكثر أهمية.. وتحدد المعاهدة وضع الدولة المحمية في المجتمع الدولي، مع إشارة خاصة إلى سلطاتها في وضع المعاهدات وحقها في التمثيل الدبلوماسي والقنصلي. ويشكل حق الدولة الحامية في التدخل في جميع الشؤون الخارجية (للمحمية الاستعمارية) نقض مؤكد للسيادة من جانب الدولة الأضعف".
ومع استمرار الحرب في غزة والمعاناة الإنسانية المهولة، هناك ارتفاع جدي في الاهتمام بالقضية الفلسطينية بما في ذلك في إمكانيات الحل السياسي. وتعود إلى الواجهة تصريحات حول ترتيبات "ما بعد الحرب"، أهمها استمرار التصريحات المتطرفة لرئيس الوزراء الإسرائيلي وأعضاء حكومته وجوهرها معارضة إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل والتمسك بخيارات تعني جوهريا أن إسرائيل مصممة على السيطرة الفعلية على فلسطين التاريخية وتهويدها.
استقلال منقوص
قد يختلف هؤلاء في مدى المساحة المحددة للفلسطينيين أو لأية سلطة تمثلهم في سياق تصورهم هذا، إلا أنهم متفقون على أن أية سيطرة فلسطينية أو سلطة تمثل الفلسطينيين لا يمكنها أن تصل إلى الاستقلال التام ويجب أن تقبل بما هو دون الاستقلال الوطني من جهة، وعليها أن تكون مستعدة للمساهمة في الحفاظ على أمن إسرائيل والإسرائيليين، على الأقل كما تفعل ذلك الأجهزة الأمنية لسلطة رام الله، من الجهة الأخرى.
تكلل الموقف الرسمي الإسرائيلي في تصويت الكنيست (21/ 2/ 2024) بأغلبية 99 عضوا من أصل 120 عضوا في الكنيست، على تصريح خاص لنتنياهو يفيد بأن إسرائيل "ستواصل معارضتها للاعتراف الأحادي بالدولة الفلسطينية. وأن مثل هذا الاعتراف، بعد مجزرة 7 أكتوبر/تشرين الأول، من شأنه أن يعطي مكافأة هائلة للإرهاب، مكافأة لا مثيل لها، ويمنع أي تسوية سلمية في المستقبل".
أتى تصريح نتنياهو والتصويت عليه في الكنيست في سياق التصدي لتصريحات جوهرها دعم إقامة دولة فلسطينية في سياق تسوية مستقبلية مع إسرائيل. وأتت هذه التصريحات والدعوات من جهات عدة وبمضامين مختلفة رغم أنها جوهريا تتحدث عن دعم تسوية إسرائيلية- فلسطينية في سياق ما يعرف بـ"حل الدولتين".
السفير رياض منصور (وسط)، المراقب الدائم لدولة فلسطين لدى الأمم المتحدة، خلال مؤتمر صحفي مع فلسطينيين قُتل أو أصيب أفراد من عائلاتهم في غزة
من نافلة القول إن التصريحات الدولية والقرارات الأممية والرباعية– الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا والأمم المتحدة- كما قرارات القمم العربية في هذا الشأن لم تثبت جديتها، بمعنى أنه فيما يتعدى التصريحات المؤيدة لإقامة دولة فلسطينية لم تقم بجهد جدي يستحق الإشارة لأجل إجبار إسرائيل على الرضوخ للقرارات الدولية، ولا يبدو أن هذه القوى جدية الآن أكثر من الماضي في التعامل مع "إقامة دولة فلسطينية"، وخصوصا أن القوى العالمية الفاعلة وعلى رأسها الولايات المتحدة تدرك أن إسرائيل تقوم في حربها ضد غزة بتنفيذ جرائم حرب غير مسبوقة ضد الفلسطينيين، وبالتأكيد تدرك مساعي اليمين الجديد والفاشي في إسرائيل لتنفيذ تطهير عرقي "والعودة" إلى الاستيطان في غزة والسيطرة عليها بشكل مباشر، أو نصف مباشر، من خلال تمكين حكم ذاتي فلسطيني متعاون معها ويسهل عليها مهمة متابعة خطواتها العقابية والرادعة ضد مقاومة الفلسطينيين لاحتلالها إجمالا ولخطواتها العينية لبسط سطوتها وسيطرتها، بشكل مشابه لما يحدث في الضفة الغربية وبمساعدة السلطة الفلسطينية في رام الله.
نداء فلسطين
تصريحات الرئيس الأميركي وبعض القيادات الأوروبية والأممية والعربية تأتي إجمالا من باب التعويض عن فشلها الواضح في منع الجرائم الإسرائيلية في غزة والتطهير العرقي والتقتيل بحق الغزيين، لكنها كذلك، وفي بعض الحالات، تأتي في سياق تكتيكات سياسية تتعلق بالحسابات السياسية الداخلية مثل إعادة الانتخاب وفي سبيل تليين مواقف الناخبين المنتقدين للحرب ودعم إسرائيل، في حالة بايدن مثلا.
وبالتأكيد لا يوجد أي جديد في مواقف القيادات الفلسطينية في رام الله، فهي التي وعدت الفلسطينيين بالدولة والحل، وهي من تبرر عموم تجاوزاتها وانتهاكاتها وتقصيراتها، الداخلية والخارجية، بحجة أن كل ذلك مقبول في سياق إنهاء الاحتلال والحصول على دولة، لدرجة أن سلطة رام الله أصبحت فعليا "محمية استعمارية" ونظاما تابعا وداعما للاحتلال ولممارساته ضد الفلسطينيين المقاومين- كما العزل، الذين يدافعون عن حقوقهم الأساسية وأملاكهم التي تحاول إسرائيل وعصاباتها المدججة بالسلاح الاستيلاء عليها. الدلالات على فشل السلطة، ومنظمة التحرير من فوقها، واضحة وجلية، وصحيح أن جزءا مهما من تفسير هذا العجز يعود لممارسات الاحتلال، إلا أن الفشل الداخلي والتسلط العنيف على حياة الناس والفساد وتعويم حالة الفصائلية البائسة وغيرها من المظاهر الفلسطينية الداخلية، كلها مركبات في تفسير العجز الفلسطيني وتراجع المشروع الوطني وضموره بشكل كبير، قبل حرب غزة كما بعدها.