صوتشين ينقل المتنبي إلى التركيّة في "أغنية الإنسان"

ترجمة 125 قصيدة من الديوان

 Axel Rangel Garcia
Axel Rangel Garcia

صوتشين ينقل المتنبي إلى التركيّة في "أغنية الإنسان"

للمرة الأولى سوف يتاح لقراء التركية الاطلاع على تجربة الشاعر العربي الأشهر، بل الأعظم في نظر الكثيرين، أبي الطيب المتنبي، بصورة جديدة تختلف كل الاختلاف عن صورته النمطية المستقرة عندهم، في مختارات صدرت حديثا عن "دار إفرست للنشر" تحت عنوان "أغنية الإنسان"، بتوقيع المترجم التركي الشهير البروفسور محمد حقي صوتشين.

يخبرنا صوتشين في مقدمة المختارات أن علاقته بهذا الشاعر العربي المتفرد، لم تكن تختلف عن علاقة أي مثقف أو دارس تركي يرى في المتنبي محض مدّعٍ للنبوة، أو شاعر بلاط، لكنه حين زار سوريا قبل كارثة العام 2011، وتحديدا مدينة معرة النعمان، للمشاركة في إحياء ذكرى الشاعر أبي العلاء المعري، دهش من فتى في الثالثة عشرة من عمره يستظهر قصائد للمتنبي عن ظهر قلب، أضيف إلى ذلك استماعه إلى قصائد مغناة من أشعار "مالئ الدنيا وشاغل الناس"، ومعارضات لقصائده من شعراء عديدين. وربما خُيِّل إليه لحظتها أن المتنبي سرق الأضواء من أبي العلاء في احتفاليته، فبدأ يعيد النظر منذ تلك اللحظة بصورة الشاعر النمطية المنتقلة إليه من أساتذته الجامعيين.

شغف مبكر

يقول صوتشين إن شغفه بالأدب العربي القديم يعود إلى وقت مبكر من دراسته قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة أنقرة، فهو لا يزال يحتفظ بمحاولات ترجمة وهو طالب في سنته الجامعية الثالثة، لمعلقة امرئ القيس إلى اللغة التركية، كما صرح في احتفالية اليوم العالمي للشعر. ولكن سجل ترجماته لكتب التراث العربي يشير إلى تأخر إقدامه على هذه المغامرة، فقد سبقت ترجماته لـ"طوق الحمامة" لابن حزم عام 2018، و"المعلقات السبع" عام 2020، و"حيّ بن يقظان" لابن طفيل عام 2021، و"كتاب الأصنام" لابن الكلبي عام 2023، ترجمات كثيفة لشعراء معاصرين منهم: محمود درويش، نزار قباني، أدونيس، وجبران خليل جبران وغيرهم، هذا عدا ما نشره في الدوريات التركية لمعظم شعراء الحداثة العرب.

 قدم صوتشين للترجمة بمقدمة ضافية شرح فيها طبيعة الحياة الأدبية في عصر المتنبي والأحداث الكبرى التي شهدتها المنطقة

ربما أغراه نجاح ترجمته "المعلقات السبع" إلى التركية، إذ عُدَّ هذا الكتاب الصادر عن دار "قرمزي كيدي"، واحدا من أهم الإصدارات الأدبية خلال العام، وربما هو تحدي الترجمة عن لغة قديمة، وأيا تكن الأسباب، فقد قادته تجربة "المعلقات" إلى شعراء آخرين من أمثال أبي العلاء، وأبي نواس، وبطبيعة الحال المتنبي، الذين نشر قصائد لهم في مجلة "فارليك" التركية العريقة.

اختار صوتشين 125 قصيدة من ديوان المتنبي، وقدم لها بمقدمة ضافية شرح فيها للقارئ التركي طبيعة الحياة الأدبية في عصر المتنبي، والأحداث الكبرى التي شهدتها المنطقة التي كان يتحرك فيها، كحركة القرامطة، وثورة الزنج، واستطرد في الحديث عن أسفار المتنبي ومغامراته، وعلاقاته مع النخب الشعرية واللغوية في قصر سيف الدولة الحمداني في حلب. وأسهب في الحديث عن شعرية المتنبي في الأدب العربي، وتأثره بالشعر الذي سبقه وتأثيره في الأجيال التي تلته.

شروح المتنبي

لا يغفل مترجمنا المراجع العديدة التي شرحت قصائد المتنبي، كشرح الواحدي، وشرح أبي العلاء المعري المسمى بـ"معجز أحمد"، وشرح أبي البقاء العكبري المسمى "التبيان في شرح الديوان"، وشرح ناصيف اليازجي، المسمى "العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب". وقد وصف شرح الواحدي بأنه "أكاديمي"، في الوقت الذي يرى في شرح أبي العلاء شرحا "شاعريا"، وفي شرح العكبري مقاربة موسوعية.

يؤمن صوتشين بأن المتنبي واحد من أعظم "حداثيي" عصره، فقد غيّر مجرى الأنواع الشعرية السائدة في زمنه، مثل الفخر والرثاء والنسيب، وأضفى أبعادا وجودية يقوم من خلالها بإعادة تكوين ذاته، وينظر إلى الموت نظرة تهكم وسخرية تعكس عبثية العلاقة بين الحياة والموت، الأمر الذي لا نراه في الرثاء الذي سبقه. ويلفت نظر صوتشين البعد السينمائي التصويري لرثائه جدّته في وقت لم يكن هنالك سينما، حيث وصف حالة الجدّة وهي تتسلم رسالة من حفيدها، فتتفحصها بعيون فضولية كأنها ترى غربانا عُصما في سطور الرسالة وحروفها، فتقبّل حبر الرسالة الذي يلطخ محجري عينيها وأسنانها بلونه الأسود.

وكأن صوتشين يقدم دفاعا عن المتنبي أمام محكمة الجمهور التركي، فيسهب في توضيح تفاصيل العلاقة التي ربطت بين سيف الدولة والمتنبي من جهة، والمتنبي ونخبة المثقفين في قصر سيف الدولة، وقصصهم المعروفة التي ترمي إلى الحطّ من شأنه أمام سيف الدولة من جهة أخرى. كما يستطرد في الحديث عن أسفاره إلى بلاط كافور الإخشيدي في مصر، ثم إلى بلاط البويهيين في إيران الحالية، وما جرى له في هذه الأسفار التي كان يثار حولها الكثير من الجدال واللغط والأحكام المسبقة.

تأثيرات على الإيرانيين والترك

ولا ينسى أن ينوّه في مقدمته إلى أن معرفة الإيرانيين بالمتنبي تتجاوز بما لا يقاس معرفة الأتراك له، فقد أصبح جزءا من التراث الثقافي للشعراء الذين اتبعوا التقاليد الأدبية الفارسية. ويذكِّر بمعلومات أوردها الباحث الإيراني علي أصغر محمد هاني حول وجود 100 رسالة أكاديمية، و20 كتابا، و60 مقالا يقارَن فيها المتنبي بالشعراء الإيرانيين. وثمة باحثون يتحدثون عن تأثير المتنبي على سعدي الشيرازي، مدعّمين حديثهم باستشهادات لافتة، ومن ذلك طريقة سعدي البارعة في صياغة الأمثال التي جرت على ألسن العامة كما هي الحال مع المتنبي.

وفي ما يخص الأدب التركي، يرى صوتشين أن تأثير المتنبي على بعض الشعراء واضح، مثل الشاعر نفعي الذي يشبه نفسه بالأنبياء في بعض قصائده، إضافة إلى وجود تأثيرات ما على الشاعر باقي. وفي حديث سابق يذكر مترجمنا أنه دعي مع زميله الألماني شتيفان فايدنر إلى مركز الملك عبد العزيز العالمي (إثراء)، لمناسبة اليوم العالمي للشعر، للحديث عن تأثير المتنبي على الشعر خارج العالم العربي، حيث قرأ نماذج من قصائد الشاعر نفعي بترجمته إلى اللغة العربية، عندها همس البعض قائلين: "نعم، هذا صوت المتنبي".

وبحكم معرفته العميقة بالشعر العربي المعاصر، يرصد صوتشين بحذاقة تأثيرات المتنبي على الشعراء العرب، وعلى وجه الخصوص شعراء مدرسة الإحياء، وأمل دنقل، وعبد الوهاب البياتي، وأدونيس، والجواهري، وخليل حاوي، وعمر أبي ريشة، والأخطل الصغير.

Shutterstock
تمثال المتنبي في بغداد.

وفي نهاية تقديمه يقول صوتشين: "باختصار، فإن شعر أبي الطيب المتنبي هو أغنية الإنسان على مرّ العصور، حيث تتغير الأعمار والأشخاص والقصائد، لكن الأغنية تظل دائما كما هي. فأبو الطيب المتنبي بالنسبة الى العرب هو ما يمثله دانتي أليغييري للإيطاليين، ووليام شكسبير للبريطانيين، وغوته للألمان، وفيكتور هوغو للفرنسيين"، منوها باستفادته من اختيارات أدونيس للمتنبي في "الدهر المنشد".

أسلوب المقابلة

اتبع مترجمنا أسلوب المقابلة في ترجمته، وهو أسلوب يسمح بمقارنة المقاطع المختارة المترجمة مع النص المصدر عند الضرورة. ويبدو أنه بذل جهودا كبيرة لتطويع النص العربي إلى اللغة التركية، إذ أنه أنه التزم المضمون الدلالي للأبيات، بغية ضمان قراءة القصائد كنص شعري باللغة التركية. ولهذا الغرض حاول إعادة بناء عناصر الإيقاع الرئيسة التي استخدمها المتنبي بأدوات إيقاعية مماثلة أو مشابهة في اللغة التركية من خلال تفعيل الإيقاع الداخلي للنص التركي مع العناصر الدلالية والشكلية في الترجمة، لكنه لم يفرط في اختيار القوافي للحيلولة دون أن يصبح الصوت الشعري رتيبا حتى لا يمل قارئ الشعر الذي تعوّدت أذنه على قصيدة معاصرة حرّة في اللغة التركية.

مختارات المتنبي بالتركية حدث ثقافي مميز يستحق الاحتفاء، في ظل أجواء مكفهرة تتعلق بصورة العربي في وعي شريحة من الأتراك

ويرى الدكتور علي بن تميم، رئيس مركز أبوظبي للغة العربية، أن أهمية الترجمة التي يقدّمها البروفسور صوتشين تأتي من ناحيتين: "أولاهما أنها اختارت شاعرا فذّا ملأ الدنيا وشغل الناس. فقد شكّل أبو الطّيّب حالة خاصة في تاريخ الشعرية العربية، فدارت حوله حركة نقدية واسعة لا تزال تلقي علينا بظلالها إلى يوم الناس هذا. ولعلّ أبا الطيّب أن يكون أكثر شعراء العربية دراسة ونقدا، فضلا عما صنعته شعريته من طابع خاص منحت الشعرية العربية مسارات جديدة على صعيد الصورة الفنية والبلاغية. والناحية الثانية التي التفت صوتشين إليها بوعي وذكاء واضحين، تتمثل في تخليص أبي الطيب من السيفيّات والكافوريّات. فإذا كان كثير من دارسي أبي الطّيّب لم يتخلّصوا من أسر تلك العلاقة ولا سيما عند تناولهم شعرية المديح والهجاء، فإنّ صوتشين لم يدخر جهدا في محاولة جمع المتفرق مكانا، وانتقاء الجماليّ والإنسانيّ في شعر أبي الطيّب، ومن ثمّ استطاع أن يقدّم باقة مختارة بعناية ودقة في سبيل إمتاع قارئ الشعر الذكيّ وإقلاق سكينته، وهما السمتان اللتان تصنعان تجربة شعرية مميزة تقوم على الاختلاف وليس على الائتلاف، وعلى الإيحاء لا على الإفهام، ومن هنا تصدق عبارة نوفاليس عندما قدم الشعر بوصفه 'ذلك الشيء الذي يشفي جراح الفهم'، على مختارات الدكتور صوتشين".

لا شك في أن صدور مختارات المتنبي بالتركية هذه الأيام تحت عنوان "أغنية الإنسان"، حدث ثقافي مميز يستحق الاحتفاء، في ظل أجواء مكفهرة تتعلق بصورة العربي في وعي شريحة معينة من الأتراك، ساهمت فيها عوامل شتى لا علاقة لها بالواقع ولا بالتاريخ.   

font change


مقالات ذات صلة