محمد الماغوط... خارج سرب شعراء المذاهب الأدبيّة

شاعر متمرّد سخّر المسرح والمقالة لنقد السلطة والمجتمع

محمد الماغوط

محمد الماغوط... خارج سرب شعراء المذاهب الأدبيّة

مرّ 18 عاما على رحيل الشاعر السوري الكبير محمد الماغوط في 3 أبريل/نيسان 2006، وتسعون عاما على ولادته (من مواليد 1934).

إنّه الماغوط، الظاهرة الاستثنائيّة في الشعر العربي، والمتعدّد في كتاباته، شاعر، مسرحي، صحافي، تلتئم كل أصواته هذه، في شعر ينبض بالحزن والظلم والسخرية، والرومنطيقيّة والعفويّة، والوعي السياسي (انتسب إلى الحزب القومي السوري الاجتماعي من دون أن يقرأ أهدافه ونتاجه، وسُجن مرات عدة لهذا الانتساب).

بنى نفسه بنفسه. تلقّى تعليمه الأوّل في "الكتّاب"، وكان عبارة عن مكان تحت الشجرة يجتمع عندها أبناء الفلاحين مع الفقيه، ليعلّمهم القراءة والكتابة. ثمّ انكبّ يقرأ من شعر النهضويّين والروّاد كجبران خليل جبران وفوزي المعلوف وخليل مطران، وكذلك ترجمات رمبو، وبودلير وما تيسّر له من كتّاب أجانب. كلّ ذلك عاشه بطفولة بائسة.

لكن أثناء سجنه، قرأ كثيرا ما توفّر له من كتب. وعندما تمّت الوحدة بين سوريا ومصر الناصريّة، كان مطلوبا فهَرَبَ إلى بيروت، والتقى يوسف الخال وانضمّ إلى جماعة "مجلة شعر"، وبدأ مشواره بنشر أوّل مجموعة شعرية، "حزن في ضوء القمر" (عن مجلة شِعر)، ثمّ تتالت دواوينه، "غرفة بملايين الجدران"، "الفرح ليس مهنتي"، "سأخون وطني"، و"سياف الزهور". في مجمل هذه القصائد، برز أسلوبه الحي، المتفجّر، الطالع من القهر والتمرّد. وما يختلج في نفسه، من مشاعر قويّة، لا شعارات فيها، كتلك التي راجت، من سورياليّة وقصيدة نثر ومتأثّرين بسوزان برنار، واستلّوا منها بعض العناوين التي لم تنطبق على شعرهم، لتسجيل ريادة في هذا المضمار، في سباقات الحداثة. أما محمد الماغوط فلم يعِر هذه "الحداثة" اهتماما، ولا اقتباسا، بل كان يسخر من مروّجيها، ومن تحديداتهم، وفلسفاتهم، ونظريّاتهم: فهو خارج السرب، وخارج المتبنّين أفكارا "منقولة"، ومواقف "طليعيّة"، في تناول القصيدة الحديثة، مثل "اغتصاب اللغة"، واجتثاث التراث، ونظريات التجاوز؛ فهو سوريالي بالطبيعة، وهو متجاوز بالنص. والجديد الذي طرحه من دون ادّعاءات، ولا سباق مع أحد. كأنّه يسابق نفسه، ويحفر في داخله ما تراكم من تجارب الحياة، وما تكدّس من معاناة، على امتداد طفولته وشبابه. حتى آخر نفس. فبينما كان معه مَن اعتنقوا "السورياليّة" يحفظون بعض دروسها، ومبادئها، ويمارسونها خلال "خميس شِعر". كالتنويم المغناطيسي الموروث من بيانات اندره بريتون وبقايا الدادائية، وقصّ الجرائد وجمعها وجعلها قصائد.

في مجمل هذه القصائد، برز أسلوبه الحي، المتفجّر، الطالع من القهر والتمرّد

كان الماغوط الساخر والساحر يضحك ملء رئتيه من هذه الترّهات التي تخلّى عنها السورياليّون لاحقا. وعندما كان يقرأ أو يسمع ما يُشبه من شعارات كتدمير اللغة، وخلْق لغة جديدة، كان يعود إلى ذاته، وإلى العالم، وإلى تجاربه الحيّة، القويّة، والشرسة بمعاناتها، ويكتب قصيدته التي تتفجر من أحاسيسه.

لهذا بالذات كأنّه الشاعر الوحيد الذي لا نعرف بمَنْ تأثّر. فجوّه منه كوّنه. يمكن أن نقول إنّ جبران تأثّر بطريقه نيتشه لا بأفكاره وأسلوبه، وأن نقول إنّ أُنسي الحاج تأثّر بأنطونان أرطو، أو فيليب سوبو، وإن أدونيس تأثّر في بدايته بنزار قباني وسعيد عقل ثمّ سان جون بيرس، ثمّ بصوفيّة النفري، وأن نقول إنّ سعيد عقل تأثّر بالرمزيّة أو ببول فاليري، وأن إلياس أبو شبكة تأثّر ببودلير، لكن لا يحضر في أذهاننا بمَنْ تأثّر الماغوط. فهو فريد من نوعه. كأنّما تأثّراته ذابت في كتاباته، أو انصهرت فيها. بل يمكن أن نقول إنّه تأثّر بالحياة، بتشرّده، وغضبه، وسخريّته، وفقره، و... فهي الوحيدة التي يمكن أن نتكلم عنها. فإذا قرأت نصوصه الشعريّة، من أوّل كتاب، "حزن في ضوء القمر"، إلى آخر كتاب، "البدوي الأحمر"، تنساق بمرونة إيقاعاته، تصدمك قوّة تعبيره، تسحرك "بدائيته" في القصيدة، تغمرك بداهاته القريبة والحميمية، وتبرق أمامك جدّته، وخروجه على المألوف. تقرأ الماغوط كأنّك تقرأ الشعر للمرة الأولى ولا يزول أثره فيك، لأنّه طالع من حياته، من جسمه، من خطاه في الشارع، في صوته الأجش، في تراكيبه القريبة على غربتها، وغربتها على أليفها، وتمرّده الصارخ هنا والصامت هناك، الهاتف بالمرارة والضيق وربّما الهزيمة المدوّية التي واجه بها ما يحيط به وما رافقه في حياته.

هذا "البدوي الأحمر"، تعرف أنه موهوب من تلقائه، وشاعر قبل أن يكتب الشعر، وساخر قبل أن يسخر وينتقل إلى المسرح، ليكون فضاء لوعيه السياسي، ومواجهته الظلم والقهر والاستعباد والطغيان. مسرحه هو المسرح الذي يفضح ما يفضح في المجتمع العربي، بأبّهة وبلا تزيين، ولا افتعال: إنه منزله الذي يمارس فيه نقده القوي لما يحيط به، سواء في بلده سوريا أم في العالم العربي. بهذا الأسلوب الفاضح بلا ماكياج، أو ترميز مفتعل، سخريّته تصفع هنا، وتضحك هناك من ألمها، لتجعل من أعماله مع دريد لحام، مثل "ضيعة تشرين"، و"كأسك يا وطن"... منحى جديدا في الكوميديا العربيّة السوداء، الكاشفة الدالّة الصارخة. بل إنّه افتتح، على الرغم من بعض السهولة، نمطا من المسرح الشعبي، الذي بقدر ما يضحك من السخرية، يصيب نقده عمق الواقع اليومي والسياسي والاجتماعي.

فالماغوط وجد في المسرح النقدي والساخر ضالّته، كأنّه شخصية من تلك الشخصيات التي يصنعها، وإنه في ذلك كان الصوت الوحيد الذي يتجرّأ على السلطة، والوحيد الذي ارتجل غضبه على الخشبة من خلال الشخصيات التي رسمها. ولهذا دأب بعض "الغيارى" على نشر النميمة والوشاية، باعتباره يمسّ "مقدّسات" الحكم وهيبته وشراسته، فضحك بلا تهريج، ساخرا بلا ادّعاء، كأنه يضحك بين أعداد الجمهور، وينتقد بأفواههم، في نصوص شعبية لا تقع لا في الشعبويّة ولا في التجارة، لأنّها منبثقة من صلب المجتمع وصوته ومعاناته.

لكن الماغوط لم يكتفِ بالمسرح أو القصيدة بل كتب في الصحافة، وأهم ما كتَبه في نثره المطواع نشر في مجلة "المستقبل" التي كانت تصدر في باريس، بعنوان "أليس في بلاد العجائب"، وباتت صفحته الأسبوعيّة من أكثر الصفحات قراءة في العالم العربي. كأنّه زاد توزيع المجلة وزادت هي شهرته العربيّة. كانت حدثا في المجلة، صبَّ فيها السخرية (العنوان يوحي بذلك) بل من عجائب الناس والأنظمة بإيقاع من أظهر أنه تأثّر بهم، إضافة إلى شِعره.

ضحك بلا تهريج، ساخرا بلا ادّعاء، كأنه يضحك بين أعداد الجمهور وينتقد بأفواههم

وهنا نقول إنّ نثره هذا أظهر جدَّته في الكتابة، بلا مراوغة أو بلاغيّة. نثر يشبه كلامه لكن مصوغ بلغة متنوّعة، وجريئة وسهلة، بلا تعقيد، أو نمطيّة. نثر ليس بلاغيّا ولا متفنّنا ولا مُتفزلكا. ولا لاعبا في مجال اللغة، والنحت، بل يمكن اعتباره أنّه فتحَ في كتابه المقال الساخر، الشرس بنعومة، بكشفه واقع المجتمع، وأشكال قمعه، والسلطة بممارساتها التي تُضحك بقدر ما تُبكي. هنا الضحكة سوداء، وهناك السخرية الجارحة.

غاب محمد الماغوط عام 2006 ولمّا أزل أتذكّر ضحكته، ومشيته، وغضبه، وطيبته ووفاءه لبيروت من خلال كتاباته العديدة، فهو يعتبِر أنّ بيروت حضنته مثل كتّابها وشعرائها وفي شوارعها ومقاهيها ومنازلها.

آخر لقاء جمعني به كان عندما زرته في منزله بدمشق، وهو قاعد في سريره، بكلّ حيويّته، وظرافته وسخريّته التي لم تفارقه حتى رحيله.

font change

مقالات ذات صلة