العروي مُجرِّبا الرواية البوليسيّة

العروي مُجرِّبا الرواية البوليسيّة

تنزاح رواية "غيلة" لعبد العروي بكتابته السردية إلى تجريب شكلٍ مُتجدّدٍ ذي منحى بوليسيّ، إذ يخرج بهذا النزوع المغاير عن مدار رباعيته الروائية الشبيهة بمتوالية، بالنظر إلى المشترك التخييلي والذاتي والفكري الذي يجمع بينها: الغربة 1971، اليتيم 1979، الفريق 1986، أوراق 1989.

تتشظّى الرواية 20 فصلا، ولا يتمّ الإفصاح عن الجريمة الغامضة إلا في الفصل الثالث، حيث تموت سارة أو فرانسيس دفرن ويعرب بيان الإعلان عن تورط شاب مغربي يدعى نعمان بن عزيز السراج. هذا الأخير يفوّض مسألة متابعة التحقيق إلى الصحافي كميل كامل، وأمّا التحقيق العملي فتقوده العميدة كلودين لاروز ومساعداها جاك برطولي وروبير لافال.

نفرز من البداية خيطين حكائيين يفتلان بازدواجية حبل الشبكة الروائية، هما خيط الحكاية الأوّلية وخيط الحكاية الطارئة:

الخيط الحكائي الأوّل، قصيرٌ يضطلعُ به الراوي وهو الأستاذ القادم إلى البيضاء من أجل مهمة دامت ثلاثة أيام.

الخيط الثاني، مطوّلٌ ومُجملهُ الحوادث التي رُويت للسارد وهي تفاصيل مسهبة واسترجاعات حول شخصيات تجمعها مصادفات وفق حمولة ميتافيزيقة عبر حوارات تتعلّق بمساراتها التاريخية.

ستعمل التحريات على تقصّي وجوه العلاقة بين نعمان وسارة ذات الاسمين من أصول أرجنتينيّة، كاشفة عن توتّر سيرته بأسرته خلال إقامته الدراسية في فرنسا، بل إنّ والده الموقوف عن العمل، عزيز السراج، على صلة بسارة هو الآخر، كما سيفضي مجرى المصادفة إلى متاهة اشتباكات بإقحام شخصية ليو لوكوك، صاحب المعهد الدولي للمباحث، وهي شخصية سبق لها الاستقرار في المغرب كأستاذ سابق للغة الفرنسية، فنتلمّس من خلال متابعة الصحافي كميل كامل وصديقته فرضيات التأويل التي تذهب بمنطق الاستدلال والتمحيص إلى أقصاه، مضيئا لارتباط موت سارة ذات الاسمين بموت جنين كرملي، وقبلهما موت الصحافية المغربية عائشة أمغران. مع ذلك يتعثر مسار التحقيق وتخيب آمال الراوي/ الأستاذ في معرفة الحقيقة الكاملة وراء موت عائشة أمغران، إثر وفاة عزيز السراج الذي كان يمتلك البيانات الدامغة، وبذا يتبخّر إمكان تحقّق العدالة في هذا الملف الشائك، في بلد يتبجّح بالديمقراطية والمساواة والحرية.

تحضر موضوعة الغرب كبؤرة لالتقاء وافتراق التجربة التخييلية المؤسسة على تتبع مسارات الشخصيات

تجنح الرواية إلى تكسير البنية البوليسية التقليدية من خلال مسار تحقيق يفضي إلى الغموض، مما قد يشكل خذلانا لترقب القارئ المأخوذ بفتنة الحكي وتشويق التحرّي الذي يوهم بتفكيك لغز الجريمة.

يمكن أن نضع عنوانا دقيقا يراه الكاتب ثاقبا وبالغ الإيحائية، هو لرواية كونراد الشهيرة، "تحت أعين الغرب"، لاشتراكهما في رصد جيل من المهاجرين في أوروبا، ويعالج هذا العنوان أشكال الاغتراب والتناقضات الصارخة لهؤلاء الهاربين من الاضطهاد السياسي والاجتماعي، ممثّلا لذلك بوضعية اللحظة الحضارية المفارقة بين الغرب والعالم الثالث، إذ تحضر موضوعة الغرب كبؤرة لالتقاء وافتراق التجربة التخييلية المؤسسة على تتبع مسارات الشخصيات لصوغ الرموز العاكسة لمظاهر التناقض في المجتمع المغربي/ المشرقي، من خلال العلاقة الجدلية بين السلطة وتأثيرها على مستوى السلوك الاجتماعي والسياسي.

تلتبس المادة الروائية في "غيلة" حدّ اعتبارها لعبة ذهنية، وتتداخل انطلاقا من علائق الشخصيات، بالنظر إلى مكانتها الاجتماعية وعرقيتها وخلفيتها الثقافية، إذ يتأرجح انتماؤها إلى حقلين، سياسي وفنّي، راصدة على نحو عامّ تجربة الجيل الأفّاقي من منظور ما يسميه عبد الكبير الخطيبي بالجرح القدري بين الشرق والغرب، و على نحو خاصّ السلطة وما تفعله بالإنسان من جهة، ثمّ العدالة المحلوم بها واللامدركة أبدا من جهة ثانية، وفق ما توجزه الكلمة الممهورة لغلاف الرواية، وبذا تتسلّل إلى المنطقة المظلمة، المنسية أو المقصيّة من الذاكرة المغربية، لمساءلة تاريخنا الملتبس بالنظر إلى الطمس الذي يحفل به.

تراهن الرواية في تجريبها على الشكل البوليسي، ليس من زاوية تكريس أدب بوليسي شبه غائب في المتن السردي المغربي والعربي، وإنما بطموح الاشتغال على تقنية تعبيرية مغايرة -أو استراتيجيتُها أن يكون موضوعُها موظِّفا لمحكيٍّ بوليسي بالأحرى-، ففضلا عن إعلانها المسبق لقالبها البوليسي، لا تفتأ تُذكّرنا بهذا النزوع داخل متنها السردي، إذ تتقافز شظايا النوع في أكثر من مرة على طول فراسخ الحكي، من قبيل: قرأت قصة بوليسية/ حاول أن يستدرجه بقراءة رواية بوليسية/ حمل معه مجموعة من الروايات البوليسية/ التماسك سمة الرواية البوليسية/ لا فرق بين ما تنشره الصحف وما يتخيله كتاب الرواية البوليسية/ بداية كل قصة بوليسية مصادفة يتبعها تماسك بلا خلل..

على غرار ذلك، تلفتنا العتبات النصية لكل فصل، بإدراج الرواية لمقولات وشذرات موازية على سبيل الإضاءة، يمكن حصر انتمائها في حقلين، حقل تربوي وحقل روائي.

  قلّما تضحك روايات العروي، وهذه الصرامة المطلقة التي تدمغها، تتناقض وروح اللعب الذي يحرّر الكتابة من ثقل وعيها المأسوي

يهيمن على نص "غيلة" الهاجس الجمالي، فبالإضافة إلى عنايتها بمعماريتها وتقنيتها المتماسكة، تنسج علاقة جدلية بين الواقعي والتخييلي. يعضّد هذا المنحى، وعيُها الفني المأخوذ بآفاق التجريب، مع التأكيد أنّ آليات الكتابة تشتغل داخل النسق الشكلي من أجل تقديم الموضوع الذي تحاول صوغه بشكل بوليسي، وهذه العناصر تجعل من كل نصوص العروي مرايا مخادعة لشيء آخر، فهي تبدو ممحورة في الذات دون أن تنحصر في الذاتي وحده، كما تبدو نصوصا أخلاقية دون أن تكون كذلك، وهكذا تنطرح الكتابة أولا، كإشكالية للتجنيس الأدبي، وثانيا، تستهدف تهجين النوع الخطابي لتوليد مشروع الكتابة الروائي، وثالثا، تستهدف خلق مسافة جمالية قائمة على الإيهام بالواقعي.

ومن صميم التجربة السردية في نص "غيلة" ومنجز العروي الروائي ككل، أن نخلص إلى ملاحظة جوهريّة، مستعيرين مقولة كولن ويلسون: "لقد جرت كتابة الروايات الجادة في معظم الأشكال ولكن المشكلة تتمثل في أن الرواية سقطت أسيرة جدّيتها".

قلّما تضحك روايات العروي، وهذه الصرامة المطلقة التي تدمغها، تتناقض وروح اللعب الذي يحرّر الكتابة من ثقل وعيها المأسوي، ونبرتها العابسة.

font change