سارتر في غزّة

سارتر في غزّة

إذا عدنا إلى الأخبار والمقالات التي نشرت عن زيارة جان بول سارتر إلى مصر وغزة وإسرائيل عام 1967، فإن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: هل كان الفيلسوف الفرنسي الشهير الذي وصف بـ"نبي الحرّية" حرّا وهو يصرّح بآرائه التي قالها أثناء الزيارة وبعدها؟

فحين نعود إلى الصحف التي نشرت عن زيارة سارتر تلك، ومعه سيمون دو بوفوار، نقرأ الكثير من التفاصيل حول أيّامه في مصر وإسرائيل، لكننا لا نجد أي معلومات عن زيارته غزة باستثناء الإشارة إلى ما قاله عن مخيمات اللاجئين في المدينة التي كانت تديرها السلطة المصرية وتعبيره عن استيائه لأوضاعهم الاجتماعية إضافة إلى مطالبته بالسماح لهم بالعودة إلى بلداتهم، أو إلى "إسرائيل"، حسب ما نقلت جريدة "لوموند" الفرنسية، عن "رويترز"، قوله في 30 مارس/ آذار من العام نفسه. وقيل وقتذاك إنّه تهرّب من التقاط بعض الصور له في غزّة لكي لا يحسب أنه يدعم جهة ما، خاصة تلك الصورة التي أتلفها بعدما التقطت له وهو يفتح لفافة قدمها البه طفل، كان فيها علم المقاومة الفلسطينية، حسب ما تذكر الصحافية عايدة الشريف التي رافقته وسجلت انطباعها في كتابها "شاهدة ربع قرن".

وكانت "لوموند" قد نشرت في يوم 15 مارس/ آذار 1967 خبرا بعنوان "السيد جان بول سارتر يشيد بالرئيس عبد الناصر في القاهرة"، حيث اكتشف "أن الاشتراكية المصرية لم تكن وهما، وأن عبد الناصر كان زعيما حكيما وبعيد النظر".

في العودة إلى أرشيف الجريدة نفسها، سنجد أنها كانت قد نشرت في 21 يناير/ كانون الثاني 1966 خبرا عن قرب تلك الزيارة من خلال مقابلة أجراها علي السمان مراسل "الأهرام" في باريس مع سارتر الذي أعلن أنه سيزور مصر "من أجل التواصل مع المثقفين المصريين والتحاور معهم". وأنه يعتزم بشكل خاص معالجة المشكلة الفلسطينية وزيارة مخيمات اللاجئين في غزة قبل مواصلة رحلته إلى إسرائيل. وأضاف أن رحلته الإعلامية ستتم بروح "الحياد الصارم"، استعدادا لتخصيص عدد من مجلة "الأزمنة الحديثة" حول "الصراع اليهودي العربي"، يكشف فيه "الأطروحتين المتناقضتين" للطرفين، من أجل إتاحة "الفرصة للفرنسيين والأوروبيين للحصول على معلومات موضوعية".

وقّع سارتر عريضة مؤيدة لإسرائيل حين أعلن شارل ديغول حظر بيع الأسلحة لها إلا أن سارتر ندم بعد ذلك

ولمناسبة زيارته مصر، احتفي به بشكل كبير في الصحف المصرية، فسنلاحظ إذا عدنا إلى أرشيف المجلات الثقافية المصرية أنها خصصت بعض أعدادها للحديث عن حياة سارتر وأدبه وفكره ومواقفه السياسية مع نشر صورته على غلفها مثل مجلة "الطليعة"، ومجلة "الفكر المعاصر" التي رأس تحريرها زكي نجيب محمود، إضافة إلى مقالات قليلة عن سيمون دو بوفوار. كما نشرت المجلات الأخرى مثل "الهلال" و"المجلة" حوارات ومقالات مماثلة.

وفي كتابه "الانفجار"، نشر الصحافي محمد حسنين هيكل بعض صفحات من "محضر" لقاء سارتر بعبد الناصر يوم 9 مارس/ آذار 1967. واللافت أن الصحافي المعروف بقربه من عبد الناصر لم يشر إلى وجود شخص ثالث برفقة سارتر وسيمون دو بوفوار وهو كلود لانزمان مدير تحرير مجلة "الأزمنة الحديثة" بسبب أنه كان معروفا بانحيازه لإسرائيل. وقد تحدث لانزمان لاحقا عن هذا اللقاء في مذكراته وكيف كان يخاطبه عبد الناصر لمعرفته بانحيازه هذا. وقد وقّع سارتر تحت ضغط لانزمان عريضة مؤيدة لإسرائيل حين أعلن شارل ديغول حظر بيع الأسلحة لها إلاّ أن سارتر ندم بعد ذلك على ما قام به، فساءت علاقته بلانزمان.

في لقاء القاهرة برّر عبد الناصر إجراءاته في التأميم وردّ على تساؤلات سارتر وسيمون حول حقوق الإنسان ووضع المرأة، كما تحدث عن حال اليسار في العالم والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إذ رأى عبد الناصر أهمية إعطاء حق العودة للفلسطينيين، وأن إسرائيل "تريد التوسع وهذا يؤدّي إلى الحرب".

ما يبدو للباحث في حياة سارتر أن علاقته في المسألة اليهودية والقضية الفلسطينية شهدت الكثير من التحولات والتناقضات، ويعيد فاروق مردم بيك هذه العلاقة، في بحث له، إلى عام 1946 حيث نشر سارتر مقالته، "تأملات في المسألة اليهودية"، التي يرى فيها أن معاداة السامية هي من "تخلق اليهودي"، وهو ما تراجع عنه في ما بعد، وندم عن "عدم دراسة الأصول التاريخية والاقتصادية لمعاداة السامية". ويبقى العنصر الثابت الوحيد عند سارتر في مقاربته للصراع الإسرائيلي العربي، حسب فاروق مردم "هو محبة السامية، التي كان يُنظر إليها منذ الحرب العالمية الثانية على أنها تعويض واستثمرت في المشروع الصهيوني، أما كلّ شيء آخر، مثل تهجير الفلسطينيين، واحتلال الأراضي العربية وضمها، ومحنة اللاجئين، فهي تظهر أو تختفي تبعا للوضع".

صاحب مسرحية "الذباب" الذي نادى بالأدب الملتزم ووقف ضد النازية نجده يصبح أكثر ارتباكا إذا تعلّق الأمر بالصراع العربي الإسرائيلي

صاحب مسرحية "الذباب" الذي نادى بالأدب الملتزم ووقف ضد النازية وحرب فيتنام وكان مع استقلال الجزائر وفيدل كاسترو وغيفارا وفرانز فانون وجان جينيه الذي وصفه بالقديس، وانتصر لمختلف القضايا العادلة في العالم، نجده يصبح أكثر ارتباكا إذا تعلّق الأمر بالصراع العربي الإسرائيلي، فلا نستطيع أن نحدّد وجهته تماما، مع أن فكرة السلام شدّته كثيرا من خلال إعطاء حق تقرير المصير للفلسطينيين "الذين طردوا من أراضيهم ومنازلهم"على أساس "إعادة إسرائيل للأراضي التي احتلتها في عام 1967"وتسوية مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، مع بقاء الدولة الإسرائيلية التي كرّمته إحدى جامعاتها بشهادة دكتوراه فخرية عام 1976، فقد قال إنّه قبل التكريم لأسباب سياسية تهدف إلى "خلق رابط بين الشعب الفلسطيني وإسرائيل"، بينما كان قد رفض أي تكريم آخر، بما في ذلك عدم قبوله جائزة نوبل للآداب عام 1964 بحجة أن الجائزة سياسية وهو مستقل، ولا يريد أن يعبر عن جهة أو مؤسسة.

font change