"المجلة" على "خطوط التماس" جنوب لبنان

البيئة المسيحية طاردة لـ "حزب الله"، كذلك حاصبيا ذات الغالبية الدرزية

أ ف ب
أ ف ب
إصلاح خطوط الكهرباء في بلدة علما الشعب بعد غارة اسرائيلية في 17 ابريل

"المجلة" على "خطوط التماس" جنوب لبنان

لا تحظى الحرب الدائرة في الجنوب اللبناني، منذ 7 أشهر، بتغطية إعلامية منصفة، رغم عدد ضحاياها غير القليل، وفداحة خسائرها على الصعيدين الإنساني والاقتصادي. وترجع الأسباب إلى عوامل كثيرة، منها الحرب على غزة، ومنها سياسة التعتيم الإعلامية التي يفرضها "حزب الله" في نقل الوقائع الميدانية.

وفي زمن الحرب، يُمنع على الصحافيين الدخول إلى منطقة جنوب نهر الليطاني الذي يبعد مجراه عن أقرب نقطة حدودية نحو 20 كيلومترا عند "بوابة فاطمة"، إلا بعد التنسيق مع ثلاث جهات: الجيش اللبناني، وقوات الطوارئ الدولية (اليونيفيل)، و"حزب الله"، حفاظا على أرواحهم بالدرجة الأولى، و"حرصا على نقل الصورة الصحيحة عن الحرب الدائرة في المنطقة". ثانيا، وهذا ما يشترطه الحزب وحده.

وللحصول على إذن العبور يتم التواصل أولا مع الجيش الذي يبلغ الجهتين الأخريين، أما من يملك علاقات جيدة مع "الحزب"، فيتواصل مباشرة مع "الرابط" أي مسؤول المنطقة، الذي يرسم له خريطة شفهية للتجول، تتضمن المسالك والمعابر الآمنة البعيدة عن مرمى النيران الإسرائيلية، وخريطة أخرى أمنية، تتضمن توصيات أو أوامر بعدم توسيع عدسة الكاميرا أثناء تصوير مشاهد الدمار والأضرار، أو أخذ التصريحات من السكان بشكل عشوائي.

أُسقط منذ الأيام الأولى للحرب، الشرط الأول للتنسيق، بعد مقتل ثلاثة صحافيين (عصام عبد الله، وفرح عمر، وربيع المعماري)، باستهدافات مباشرة اتهمت بها إسرائيل، وتحت أنظار الجهات الثلاث. أما الشرط الثاني، فلا يزال ساري المفعول، بل بات أكثر حزما مع اشتداد الحرب وتوسع رقعتها، فمن خلاله يمكن لـ"الحزب" إخضاع محتوى الخبر والصورة لرؤيته الأمنية والسياسية، والتحكم في المعلومات والوقائع التي يتم نشرها عن الأوضاع في المنطقة.

لتلافي هذه الدوامة، قررنا زيارة المنطقة بصفاتنا الأهلية. الشابان اللذان يرافقانني أبلغا الجندي على حاجز الجيش، والذي لم يلتفت إلي، إنهما يقصدان المنطقة لتفقد منزليهما، وبعد توصيات لطيفة بالحذر الشديد وتمنيات السلامة وإشارة من يده، دخلناها رافعين علامات النصر المعنوي.

تجاوزنا نقطة قوات الطوارئ بسلام أيضا، وتابعنا صعودا في طريق مقفرة وموحشة لندرة سالكيها. السيارة تنهب الأرض نهبا حرفيا، وهدير طائرات الاستطلاع يصم الآذان ودوي الانفجارات يتردد في الأرجاء، أولى محطاتنا كانت كفر كلا المواجهة لمستعمرة المطلة الإسرائيلية، الطريق إليها كان سالكا لكن غير آمن، لذلك دخلناها تسللا من جهة بلدة دير ميماس، محتمين بأشجار الزيتون التي أمنت لنا غطاء نفسيا على الأقل، مقابل الطريق الرئيس المكشوف بشكل سافر للطائرات الإسرائيلية. تجولنا في أحيائها الخلفية، لم نعثر على أحد لنجري معه حديثا، والعدد المحدود ممن بقي من سكانها، يعيش صدمة ما بعد الغارة، التي طالتها فجرا، وخلفت قتيلين حزبيين ودمارا إضافيا.

يوم أسود... آخر

من كفر كلا توجهنا نحو الخيام، التي كانت تشهد يوما آخر أسود من أيام الحرب، القصف على أحيائها ووديانها وتلالها، لم يهدأ منذ البارحة، والغارات ليلا استهدفت مواطنا في سيارته، فوُجد جثة هامدة في الصباح. لم تكن بلدة الخيام يوما بعيدة كما بدت اليوم، ولم يكن الوصول إليها يحتاج إلى هذا الحجم من المجهود النفسي والعصبي الذي بذلناه. طوال الطريق لم نلتقِ بسيارة مدنية واحدة ولم نلمح خيال عابرٍ، كنا وحدنا ثلاثة مدنيين في سيارة صغيرة لا ترفع علما أبيض أو إشارة تدل على حيادها، وفوقها تتبختر كل أنواع الطائرات الإسرائيلية، وتقذف حممها بكل الاتجاهات.

من كفر كلا توجهنا نحو الخيام، التي كانت تشهد يوما آخر أسود من أيام الحرب، القصف على أحيائها ووديانها وتلالها، لم يهدأ منذ البارحة، والغارات ليلا استهدفت مواطنا في سيارته، فوُجد جثة هامدة في الصباح

عدنا أدراجنا من جهة جديدة: مرجعيون ثم القليعة ثم برج الملوك، ثلاث بلدات مسيحية غير مواجهة، لم تشهد اعتداءات منذ اندلاع الحرب، رغم ذلك سجلت نزوحا محدودا بسبب توقف الأعمال وإغلاق المدارس والمؤسسات، كما استقبلت مهجرين من القرى المجاورة.

اف ب
انقاض منزل استهدفته غارة اسرائيلية في بلدة المنصوري في 17 ابريل

يقول سكانها إن إسرائيل تستهدف القرى الشيعية لأنها تحوي مراكز وتجمعات وأهدافا متحركة لـ"حزب الله"، أما قرانا فليست ضمن دائرة الاستهداف، لأننا لا نسمح لعناصره باستباحتها، كذلك تفعل قرى أخرى ذات هويات طائفية متنوعة وبيئات غير حاضنة.
بعد حادثة "رميش" (إفشال الأهالي محاولة "حزب الله" إطلاق صواريخ من البلدة)، أدرك "الحزب" أن البيئة المسيحية طاردة له، كذلك حاصبيا ذات الغالبية الدرزية التي تحمي نفسها وسكانها يلوحون بتكرار حادثة "شويا" (إشكال بين الأهالي والحزب لإطلاقه صواريخ على مزارع شبعا من أراضيها). سكان منطقة العرقوب ذات الغالبية السنية أقل سيطرة على مناطقهم بسبب الحيرة العاطفية التي أوقعهم فيها "طوفان الأقصى"، فهم مستعدون لفتح جبهة مساندة لغزة لكن ليس تحت راية "حزب الله"، والأخير استغل هذا التناقض، فحول المنطقة إلى غرفة عمليات.
عموما، يتحسب سكان جنوب لبنان لتصعيد بدأت تظهر ملامحه بعد الرد الإيراني على إسرائيل ليل 13- 14 أبريل/نيسان والرد الإسرائيلي على إيران فجر 19 منه، ويعتقدون أنه سيُترجم على أرضهم، وستكون شرارته الأولى القرار 1701 الذي تطالب إسرائيل بتنفيذه بينما يتهمها "حزب الله" باختراقه، ويقولون إن الحرب الحقيقية لم تبدأ بعد وإن منطقة جنوب نهر الليطاني على موعد مع أيام أشد سوادا.
نعود مجددا إلى كفر كلا لنأخذ منها خط سير القرى الشيعية حتى نواحي عيترون، والعبور دائما من الخطوط الخلفية الأبعد والأكثر أمانا. الحضور اللطيف لجنود الطوارئ، يرطب الأجواء المشحونة بالتوتر والخوف، هم دائما مبتسمون، يرحبون بالقادمين الغرباء ويبادرون إلى التحية والتحذير من الاقتراب من خطوط الخطر، وعلى الصعيد المحلي ما زالوا يقدمون الكثير من الخدمات للسكان، ويتابعون مشاريع كانوا قد نفذوها مع البلديات مثل مشاريع الطاقة والزراعة وتربية النحل ورعاية الحيوانات الإنتاجية. كما يقدمون المواد الغذائية التي تفيض عن حاجاتهم للسكان، فإما يبيعونها لهم بأثمان زهيدة وإما مجانا. 
والطريق الذي يفضي من قرية إلى أخرى، يكشف عن هوية المنطقة السياسية بكل وضوح وصراحة، حيث تحتل فضاءاتها صور مؤسس "الجمهورية الإسلامية" الخميني، و"المرشد" الإيراني علي خامنئي والجنرال قاسم سليماني، إلى جانب صور أمين عام "حزب الله" حسن نصرالله، والقيادي في الحزب الذي اغتيل في دمشق عام 2008 عماد مغنية، وآخرين من "محور المقاومة". وترفرف في سماء المنطقة الأعلام الإيرانية إلى جانب أعلام الحزب الصفراء، ولولا حواجز الجيش والعلم اللبناني المتواضع الذي يرفرف فوق المتاريس، لظن العابر أنه ليس على الأراضي اللبنانية بل في إحدى المحافظات الإيرانية.


منطقة منكوبة

ليس من قبيل المبالغة إعلان هذه القرى منطقة منكوبة، فحجم الدمار فيها يتساوى مع بعض المناطق في غزة، وفيها مربعات سكنية امّحت وأحياء اندثرت ومحلات ومؤسسات تجارية سُويت بالأرض وطرقات وبنى تحتية صارت أثرا بعد عين، ومثل غزة لم تعد مكانا صالحا للعيش. 

الحركة التجارية في منطقة جنوب نهر الليطاني معدومة. كل محطات الوقود والدكاكين والبقالات والمؤسسات العامة والخاصة والمدارس أغلقت أبوابها، أما المستشفيات العاملة فيها، فتفتقر إلى نظام صحي يتناسب مع حاجاتها

وهي منطقة زراعية أساسا، مواسمها الزراعية دخلت منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي في عداد الخسارات، وأظهر المسح الذي أجرته وزارة الزراعة احتراق أكثر من 500 هكتار من أشجار الزيتون والصنوبر والملول والأشجار المثمرة والحرجية والغطاء النباتي بين شهري أكتوبر ونوفمبر/تشرين الثاني فقط. في حين أحصت الوزارة احتراق أكثر من 70 ألف شجرة زيتون، كما أظهرت فحوصات مخبرية أجرتها وزارة البيئة على عينات من التربة، وجود نسبة تلوث عالية بالذخيرة الفسفورية، في كل البلدات الحدودية من الناقورة حتى شبعا، وهو ما سيؤثر على سلامة المياه الجوفية والزراعة والرعي وتربية النحل على المدى البعيد، قد يتجاوز العقدين من الزمان. 
الحركة التجارية في منطقة جنوب نهر الليطاني معدومة. كل محطات الوقود والدكاكين والبقالات والمؤسسات العامة والخاصة والمدارس أغلقت أبوابها، أما المستشفيات العاملة فيها، فتفتقر إلى نظام صحي يتناسب مع حاجاتها وكثافتها السكانية في أيام السلم، فكيف في الحرب؟!


الخسائر بالأرقام

يبلغ عدد ضحايا الحرب ما مجموعه 1324 قتيلا وجريحا: عدد القتلى 365 شخصا على الأقل، 241 منهم من "حزب الله"، و70 مدنيا، مقابل 10 جنود إسرائيليين و8 مستوطنين. 
في المرحلة الأولى كانت قواعد الاشباك محصورة بكيلومترين على الجانبين، ثم توسعت إلى خمسة ثم سبعة، ثم سقطت الخطوط الحمراء باغتيال القيادي في "حماس" صالح العاروري بغارة على الضاحية الجنوبية لبيروت في يناير/كانون الثاني الماضي، وصارت الغارات التي تستهدف منطقة شمال نهر الليطاني إضافة إلى مناطق البقاع، على بعد نحو 100 كيلومتر عن الحدود اللبنانية الإسرائيلية، روتينا يوميا.

 أ ف ب
اعمدة الدخان تتصاعد من بلدة مجدل زون بعد غارة اسرائيلية في 21 ابريل

دمرت الحرب أكثر من 10 آلاف وحدة سكنية من الناقورة حتى شبعا، وطاول القصف 90 قرية ومدينة حتى الآن، بخسائر مباشرة تزيد عن مليار دولار، أما الخسائر غير المباشرة فلم تُحص بعد.
اضطر أكثر من 100 ألف مواطن للنزوح، قسم منهم نزح إلى قرى ضمن جنوب النهر، والقسم الأكبر نزح إلى شماله، وعدد قليل جدا انتشر في باقي المناطق اللبنانية، سكن 5 في المئة منهم في مراكز إيواء في صور والنبطية في جنوب لبنان، ومن تبقى لجأ إلى منازل الأقارب والأصدقاء أو إلى بيوت مستأجرة. 

القرى الخلفية


في الأشهر الأولى للحرب، كان من الممكن أن نلاحظ في بعض القرى الخلفية مثل الطيبة والقنطرة في قضاء مرجعيون، تفاصيل حياة تستمر رغم المعارك القريبة، لكنها شيئا فشيئا بدأت تفرغ من سكانها، إلى أن تضاءلت الحركة فيها إلى أدنى مستوياتها، خصوصا في الشهرين الأخيرين. ويقول سكانها إن "حزب الله" طلب منهم المغادرة لأن بقاءهم عبء على تحركاته، حيث إن المناطق الخالية تسهل عمليات الكر والفر.
رغم هذه المحاذير بقي عدد لا بأس به من السكان، خاصة أصحاب البيوت البعيدة عن خطوط التماس، وأغلبهم من كبار السن الذين يرفضون المغادرة في كل الحروب ومن النحالين ومربي الماشية وبعض المزارعين. وفي طريقنا رصدنا محطة وقود وصيدلية ودكاكين ما زالت تؤمن للباقين في قراهم متطلبات حياتهم، في ظروف شديدة الصعوبة. 
من القنطرة ننزل نحو وادي الحجير، الذي لا يغامر بعبوره أحد في هذه الأيام، إلا اضطرارا، ترافقنا طائرة استطلاع إسرائيلية وعدد من العقبان، وكلها مجتمعة، كانت تحلق على علو منخفض بحثا عن فرائسها، عبرنا المسافة الأكثر خطورة في وقت قياسي، ونزلنا قرب مشتل زراعي لأخذ استراحة، تأتي سيدة وتعزمنا على القهوة، نتحدث قليلا عن الحرب، وكثيرا عن زراعة الورد، ونتمنى النجاة للبلاد وللناس، الناس بتجرد، الذين ليس لهم أي صفة أو اسم آخر، تحمّلني شتلة قرنفل ونغادر.
كان الوضع على طريق العودة بحاجة إلى فيروز لتغني لنا: "حكينا سوا الخبرية وعطيوني مزهرية وقالولي هيدي هدية من الناس الناطرين".

font change

مقالات ذات صلة