إسرائيل و"حزب الله"... الانتقال الخطر بين مرحلتين

البقاء تحت سقف الحرب

أ ب
أ ب
مروحية عسكرية إسرائيلية خلال تمرين يحاكي إخلاء الجرحى في شمال إسرائيل بالقرب من الحدود مع لبنان، 20 فبراير

إسرائيل و"حزب الله"... الانتقال الخطر بين مرحلتين

طوال خمسة أشهر من الحرب في قطاع عزة لم تتحول المواجهات بين "حزب الله" وإسرائيل على الحدود اللبنانية الإسرائيلية إلى حرب واسعة، فهل هذا كاف للقول إن هذه المواجهات ستبقى في المرحلة المقبلة كما كانت منذ 8 أكتوبر/تشرين الأول، متحركة ضمن ضوابط، أي تحت سقف الحرب؟

في الواقع، ما زالت الأرجحية الغالبة لعدم تحول المواجهات بين الجانبين إلى حرب واسعة، رغم تصاعد وتيرتها خلال الأسبوعين الماضيين. وهذا لا يعني استبعاد فرضية تدحرج الجبهة إلى حرب شاملة، لكن ذلك إذا حصل فسيكون نتيجة "خطأ" من أحد طرفيها، وما عدا ذلك فهي ستستمر متفاوتة التصعيد على وقع التهويل المتبادل ورفع السقوف بانتظار لحظة المفاوضات غير المباشرة بين الحزب وإسرائيل برعاية أميركية للتوصل إلى ترتيب جديد بين الطرفين لن يختلف بخطوطه الأمنية العريضة عما كان قبل الثامن من أكتوبر.

لكن وإن وقع "خطأ" من هذا النوع وأدى إلى توسع العمليات القتالية على طرفي الحدود، فإن ذلك لن يتطور إلى حرب مفتوحة كما يحصل في قطاع غزة منذ خمسة أشهر، لأن أهداف طرفي المواجهة ضد بعضهما البعض لا تشبه أهداف كل من "حماس" وإسرائيل ضد بعضهما البعض. وللتحديد أكثر، فإن إسرائيل لا تضع نصب أعينها، أقله في الوقت الراهن، القضاء على "حزب الله"، كما هي الحال مع "حماس". بغض النظر عن قدرتها على تحقيق ذلك، وإن كانت بلا أدنى شك قادرة على توجيه ضربات قوية وقاسمة إلى خصومها بفعل تفوقها العسكري والتكنولوجي والدعم الأميركي المقدم لها، في ظل عدم وجود طرف دولي مناوئ لأميركا قادر على موازنة قوتها في المنطقة، رغم كل الكلام عن تقدم روسيا والصين في الشرق الأوسط.

استبق "حزب الله" قرب التوصل إلى هدنة في غزة بتصعيد نوعية هجماته ضد إسرائيل

حتى التسريبات الأميركية عن أن إسرائيل تخطط لغزو بري للبنان أواخر الربيع المقبل، هي في توقيتها ومؤداها تؤكد استبعاد فرضية الحرب الشاملة بين الطرفين وليس العكس. إذ إنها تأتي في لحظة تقدم الوساطة المصرية– القطرية– الأميركية لإبرام اتفاق هدنة بين إسرائيل و"حماس" قبل شهر رمضان، والذي انضم رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي إلى المبشرين به على غرار الرئيس الأميركي جو بايدن! وقد ظهر منذ بدء هذه الوساطة تناقض بين إسرائيل و"حزب الله" بشأن كيفية "إدارة" الجبهة بعد الهدنة. إذ لوحت إسرائيل بأن هدنة غزة لن تنسحب- أو ليس بالضرورة أن تنسحب- على جبهة جنوب لبنان كما حصل خلال الهدنة السابقة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بينما أبدى "حزب الله" إصرارا على الربط بين الجبهتين في الحرب كما في الهدنة.

أ ف ب
صورة ملتقطة من الجانب الإسرائيلي للحدود تظهر الدخان يتصاعد من بلدة بليدا اللبنانية إثر غارة إسرائيلية، 29 فبراير

وهذا أمر كانت له انعكاسات ميدانية، إذ استبق "حزب الله" قرب التوصل إلى هدنة في غزة بتصعيد نوعية هجماته ضد إسرائيل قبل نحو أسبوعين، من خلال قصف صفد في العمق الإسرائيلي بصواريخ دقيقة، ما استدعى ردا إسرائيليا قاسيا في العمق اللبناني أودى بحياة 11 مدنيا، فضلا عن عدد من مقاتلي الحزب. وثم وعندما أسقط "حزب الله" طائرة مسيرة إسرائيلية في 26 فبراير/شباط المنصرم قصفت إسرائيل هدفا له في بعلبك في عمق 100 كيلومتر عن الحدود.
لقد حاول "حزب الله" القول إنه مستعد لأي سيناريو قد تذهب إليه إسرائيل بما في ذلك توسيع عملياتها ضد لبنان بالتزامن مع الهدنة في غزة. أي إنه حاول تأكيد قدرته على إلحاق الأذى بإسرائيل في حال بادرت إلى تكثيف عملياتها ضده، وهو ما يندرج في إطار تثبيت معادلات الردع بين الطرفين والذي كان المحرك الرئيس لوتيرة المواجهات بينهما منذ 8 أكتوبر، باعتبار أن التصعيد من قبل أي طرف كان يقابل بتصعيد أقوى منه وهكذا. مع الأخذ في الاعتبار أن دينامية الاغتيالات التي اتبعتها إسرائيل ضدّ كوادر الحزب، أظهرت رجحان ميزان القوة إلى مصلحتها، بالرغم من أن "حزب الله" أظهر في المقابل قدرته على إدخال أسلحة نوعية في المعركة تحسب لها إسرائيل حسابا جديا، وهي تعمل على تطوير نظام القبة الحديدية لمواجهة تهديدات الصواريخ الإيرانية الدقيقة التي بحوزة الحزب.
وهنا يمكن استعادة "البلبلة" التي أثارها الصاروخ الذي أصاب صفد في 14 فبراير، إذ صدرت تقارير من الداخل الإيراني تتحدث عن أن إطلاقه كان ارتجاليا من قبل الحزب ولم يصدر عن أمر أو تنسيق مع إيران، بينما قيل إن هذا الهجوم كان ردا على عملية تفجير أنابيب الغاز في طهران في اليوم نفسه، والتي اتهمت طهران تل أبيب بالوقوف وراءها. وبغض النظر عن صحة هذه الرواية أو تلك، فهذا يضيء على الحضور الإيراني في جبهة الجنوب، وهو حضور كابح للحرب الواسعة لألف حساب وحساب.

"حزب الله" لا يستطيع أن يؤمن هدف إسرائيل بعودة مستوطنيها دون "صورة نصر"

لكن قبل ذلك وبعده تبقى ورقة المستوطنين النازحين من شمال إسرائيل الورقة الأقوى راهنا بيد "حزب الله"، تماما كما هي الحال بالنسبة لورقة الأسرى الإسرائيليين بالنسبة لـ"حماس" بعدما تضررت بقوة قدراتها العسكرية. فما يهم إسرائيل راهنا هو عودة مستوطنيها إلى منازلهم بعد خمسة أشهر على الحرب، وبالتالي لا يمكن القفز فوق هذا الهدف الإسرائيلي الأساسي والذهاب نحو تصورات لمفاوضات واسعة بين "حزب الله" اللبناني وصولا إلى تطبيق القرار 1701، كما لو أنه يمكن الشروع بمفاوضات من هذا النوع والمستوطنون الإسرائيليون لم يعودوا إلى مستوطناتهم بعد. لكن السؤال هنا: كيف يمكن التوصل إلى "تفاهم" بين "حزب الله" وإسرائيل يتيح عودة مستوطنيها إلى منازلهم، فيما تمثل عودتهم من دون مقابل للحزب انتكاسة معنوية وسياسية له. فـ"حزب الله" بحاجة هو الآخر للخروج من هذه المعركة بـ"صورة نصر" لم يحققها حتى الآن، وهناك محاذير كثيرة لمحاولة تحقيقها عسكريا في ظل عدم الرغبة الإيرانية في توسيع الحرب، بينما سيكون هذا الأمر متعذرا على الحزب في ظل سقف المواجهات الراهن.

رويترز
مقاتل من "حزب الله" يقف أمام مدفعية مضادة للدبابات في جرود عرسال، على الحدود السورية اللبنانية، 29 يوليو 2017

وإذا كانت إسرائيل لا تضع أهدافا كبرى ضد "حزب الله" في المرحلة الحالية، وهو ما يشكل أحد الكوابح الرئيسة لعدم اندفاعها نحو حرب شاملة ضد الحزب - أي إن إحجامها عن هذه الحرب له أسباب ذاتية إسرائيلية وليس مرده وحسب إلى الضعط الأميركي على تل أبيب لعدم توسيع الحرب - فإن "حزب الله" لا يستطيع أن يؤمن هدف إسرائيل بعودة مستوطنيها من دون مقابل كبير بل و"استراتيجي". فـ"حزب الله" لا تناسبه عودة الأوضاع على جانبي الحدود كما كانت قبل الثامن من أكتوبر دون أن يكون قد حقق مكسبا من وراء ذلك.

أقصى الممكن هو العودة إلى وضع ما قبل 8 أكتوبر، أي التفاهم على قواعد اشتباك بغطاء من القرار 1701 وليس تطبيقه بحذافيره

فإذا كانت إسرائيل لا تضع أهدافا كبرى ضد "حزب الله" في المرحلة الحالية، وهو ما يشكل أحد الكوابح الرئيسة لعدم اندفاعها نحو حرب شاملة ضد الحزب- أي إن إحجامها عن مثل هذه الحرب له أسباب ذاتية إسرائيلية وليس مرده وحسب إلى الضعط الأميركي على تل أبيب لعدم توسيع الحرب– فإن "حزب الله" لا يستطيع أن يؤمّن هدف إسرائيل بعودة مستوطنيها من دون مقابل "استراتيجي". فـ"حزب الله" لا يناسبه عودة الأوضاع على جانبي الحدود كما كانت قبل الثامن من أكتوبر من دون أن يكون قد حقق مكسبا سياسيا من المواجهات العسكرية. وهذا يطرح إشكالية في سياق المفاوضات، باعتبار أن إسرائيل تريد عودة مستوطنيها بأسرع وقت ممكن- حتى لو مددت إخلاء مستوطني الشمال إلى يوليو/تموز المقبل– كمقدمة أو كشرط للبحث في القضايا الأخرى على جدول المفاوضات مع "حزب الله"، بينما يريد الأخير أن تكون هذه العودة من ضمن سلة التفاوض على النقاط الأخرى، وبالأخص نقطة الحدود البرية، إذ يسعى "حزب الله" لأن يحوّل التفاهم على النقاط الحدودية الـ13 المتنازع عليها، إلى "صورة نصر" للداخل والخارج.

أ ف ب
لبنانيون من بلدة كفرا الجنوبية يتفقدون الأضرار التي تسببت بها غارة إسرائيلية ليلية على قريتهم، 29 فبراير

هذه الإشكالية أو العقدة في المفاوضات بين الجانبين تفسر الضغط العسكري الإسرائيلي المتصاعد ضد "حزب الله" للوصول إلى واقع ميداني يدفعه إلى تليين موقفه ويتيح بالتالي عودة المستوطنين الإسرائيليين. لكن حتى الآن لا يبدو أن الحزب يتهيب هذا الضغط أو يخشاه، خصوصا أنه حصّن "بيئته" أكثر بالقياس إلى بداية الحرب- وهذه مسألة أساسية بالنسبة إليه-  كما أنه لا يواجه ضغطا داخليا يدفعه إلى التنازل جنوبا فيما كل الاستحقاقات السياسية اللبنانية مؤجلة وخارج حساباته القريبة الآن ما دام الوضع في المنطقة ملتهب.
كذلك فإن الرغبة الغربية، وبالتحديد الأميركية، لبناء مسار تفاوضي بين إسرائيل و"حزب الله" يطمئنه ويدفعه إلى المناورة إلى أقصى حد ممكن تحت سقف عدم الوصول إلى الحرب الشاملة التي يتجنبها قدر الإمكان. ولكنه يدرك في الوقت نفسه أنه سيواجه ضغطا إسرائيليا متزايدا في المرحلة المقبلة، أي إنه يستعد للدخول في مرحلة جديدة سواء كانت عسكرية أو تفاوضية، ولطالما كانت الفترة الفاصلة بين مرحلتين من هذا النوع أقسى الفترات وأصعبها. لكن حتى الآن فإن الأمور ما زالت تحت السيطرة بالنسبة لـ"حزب الله"، لكن الأهم أنه لا يستطيع التنازل مجانا، أي إنه لا يستطيع الخروج من دون "صورة نصر"، في حين أن كل الكلام عن انسحابه إلى شمال الليطاني أو تطبيق القرار 1701 هو لوضع سقوف تفاوضية أكثر من كونه كلاما واقعيا يمكن تحقيقه على الأرض. فأقصى الممكن هو العودة إلى وضع ما قبل 8 أكتوبر، أي التفاهم على قواعد اشتباك بغطاء من القرار 1701 وليس تطبيقه بحذافيره. ومقابل استحالة إعلان الحزب انسحابه من جنوب الليطاني، فهناك شكوك كبيرة في أن تكون إسرائيل مستعدة لوقف طلعاتها الجوية فوق لبنان، خصوصا أنها كانت (قبل 8 أكتوبر) وما زالت تقصف أهدافا داخل سوريا من الأجواء اللبنانية. والأرجح أنها ستكتفي بالامتناع عن قصف أهداف للحزب في لبنان في إطار أي تفاهم جديد معه. لكن عدا ذلك فإن كل التهديدات الإسرائيلية للحزب والحشد العسكري على الحدود مع لبنان، لا تخرج حتى اللحظة عن إطار الضغط عليه ودفعه إلى اتخاذ موقف أكثر ليونة من المفاوضات التي لا يزال يرفضها حتى الآن قبل وقف إطلاق النار في غزة، مع أنه سرّب إلى الإعلام خلال اليومين الماضيين أنه مستعد للتهدئة في جنوب لبنان بالتوازي مع أي تهدئة في غزة، وهو ما يشير إلى رغبته في وقف القتال، لكن كيف؟ وبأي ثمن؟

font change

مقالات ذات صلة