"اللعب بالنار" بين إسرائيل و"حزب الله"... ما الجديد؟

كل منهما يختبر الآخر

خلال تشييع القيادي في "حزب الله" علي دبس الذي قتل في غارة إسرائيلية، النبطية جنوبي لبنان في 16 فبراير

"اللعب بالنار" بين إسرائيل و"حزب الله"... ما الجديد؟

شهدت المواجهات بين "حزب الله" وإسرائيل منذ 8 أكتوبر/تشرين الأول الماضي تحولات عدة، بين تفاوت حدّة القصف، وتنوع تكتيكات العمليات وأسلحتها ومدياتها، فضلا عن الهدنة التي استمرت نحو أسبوع ابتداء من 24 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بالتزامن مع توقف القتال بين "حماس" وإسرائيل في قطاع غزة. لكن خطاب الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله، الثلاثاء 13 فبراير/شباط الجاري، شكل محطة مفصلية جديدة في سياق الحرب، لأنه يعكس المتغيرات التي طرأت على المقاربة الإسرائيلية للجبهة الشمالية، في ظل الاستعداد الأكبر في تل أبيب لـ"الارتقاء" بالعمليات ضد "حزب الله" بغية الضغط عليه ودفعه إلى التنازل والقبول بالحد الأقصى من المطالب الإسرائيلية التي ينقلها إليه الموفدون الغربيون، وذلك تحت وطأة الضغط الداخلي على حكومة بنيامين نتنياهو في ما يخص عودة مستوطني الشمال إلى منازلهم.

بالتالي فإن خطاب نصرالله ذاك لا يجب أن يؤخذ في مضمونه وحسب، بل في توقيته أيضا، على ما بين مضمونه وتوقيته من تداخل وثيق. فمن ناحية المضمون شهد خطاب 13 فبراير أعلى درجة من التصعيد من قبل نصرالله قياسا إلى كل خطاباته منذ بدء الحرب. فهو أكد أن أي توسعة للحرب من جانب إسرائيل ستقابلها توسعة لها من جانب الحزب، كما رفض كل العروض الدولية المقدمة له للتوصل إلى "اتفاق" بينه وبين تل أبيب، وحث الحكومة اللبنانية على التشدد في مفاوضاتها مع الوسطاء الغربيين وصولا إلى المطالبة بإدخال تعديلات على القرار 1701، في تناقض مع موقف حليفه رئيس البرلمان نبيه بري الذي يدعو إلى الالتزام بهذا القرار في رد على ما يعتبره خروجا عليه في مقترحات الوساطات الدولية، وآخرها المقترح الفرنسي.

وعليه فإن تجديد نصرالله تأكيده الربط بين جبهتي غزة ولبنان يأخذ هذه المرة معنى مغايرا لأنه مرتبط باستعداد أكبر لدى الحزب لمواجهة التصعيد الإسرائيلي بتصعيد مقابل، على وقع التهديدات الإسرائيلية المتزايدة بتكثيف الهجمات ضد "حزب الله" لخلق "واقع جديد" على الحدود الشمالية. أي إن نصرالله يهدف من وراء تصعيده إلى أن يظهر لتل أبيب أن "حزب الله" لا يخشى توسع المواجهات وأنه مستعد لكل السيناريوهات بما في ذلك سيناريو "الحرب الشاملة".

إبداء "حزب الله" استعداده للتصعيد بالتوازي مع مفاوضات الهدنة يهدف إلى الضغط على إسرائيل لتكرار سيناريو الهدنة السابقة بحيث يشمل وقف إطلاق النار في غزة وقفا لإطلاق النار على الحدود اللبنانية الإسرائيلية

بيد أنّ فهم مضمون خطاب نصرالله لا يستقيم من دون ربطه بالتطور الرئيس في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة الآن والمتمثل في المفاوضات الجارية بوساطة مصرية وقطرية وبدفع أميركي للتوصل إلى اتفاق تهدئة جديد بين "حماس" وإسرائيل. فـ"حزب الله" ومن ورائه إيران يريدان وقفا لإطلاق النار في غزة بأسرع وقت ممكن في ظل الضغط العسكري الإسرائيلي المتزايد على حركة "حماس" والذي يهدد بتقويض المزيد من قدراتها، خصوصا في ظل التلويح الإسرائيلي بالهجوم على رفح والذي يمثل تحديا عسكريا جديا لـ"حماس" وإن كان لا يخلو من مخاطرة إسرائيلية لناحية تحدي الرأي العام العالمي الذي ينقلب ضدها بسبب الحصيلة الهائلة من الضحايا المدنيين الفلسطينيين والتي ستكون مرشحة للارتفاع بأرقام جنونية في حال شن حملة واسعة في رفح المكتظة بالنازحين الفلسطينيين. كذلك فإن التهدئة تفسح المجال لإيران لالتقاط أنفاسها وإعادة ترتيب أوراقها الإقليمية بعد أن بلغت احتكاكاتها مع واشنطن مرحلة شديدة الخطورة في أعقاب هجوم الفصائل الشيعية في العراق على "البرج 22" في قاعدة التنف الأميركية.

خطاب متلفز لنصرالله في الضاحية الجنوبية لبيروت في 16 فبراير

كما أن إبداء "حزب الله" استعداده للتصعيد بالتوازي مع مفاوضات الهدنة يهدف إلى الضغط على إسرائيل لتكرار سيناريو الهدنة السابقة بحيث يشمل وقف إطلاق النار في غزة وقفا لإطلاق النار على الحدود اللبنانية الإسرائيلية، وذلك بخلاف ما توحي به إسرائيل بأن أي هدنة في قطاع غزة لن تنسحب بالضرورة على الجبهة الشمالية، بل إن مثل هذه الهدنة سيفسح المجال للجيش الإسرائيلي للتركيز أكثر على المواجهة مع "حزب الله".
ولذلك فإن تصعيد نصرالله الأخير يحمل هدفا مزدوجا، فمن ناحية هو يريد الضغط على إسرائيل في سياق المفاوضات مع "حماس" على قاعدة أن عدم التوصل لوقف إطلاق للنار في غزة سيبقي الجبهة على الحدود اللبنانية الإسرائيلية مشتعلة، وهو ما يعني إبقاء ملف مستوطني الشمال عامل ضغط على حكومة نتنياهو بوصفه الورقة الأقوى بيد "حزب الله" راهنا، خصوصا مع تهديد نصرالله بإجبار مليوني إسرائيلي للاحتماء بالملاجئ وليس مئة ألف وحسب، وهو العدد الحالي لنازحي الشمال. ومن ناحية ثانية فإن نصرالله يريد ثني تل أبيب عن التفكير في الفصل بين جبهتي غزة ولبنان في حال تم التوصل إلى اتفاق تهدئة في غزة، وذلك من خلال التلويح بالتكلفة العالية التي ستدفعها إسرائيل في حال وسعت هجومها على لبنان بعد التوصل إلى هدنة في قطاع غزة. وبالموازاة فإن نصرالله يرمي من خلال رفع سقف تهديداته إلى الضغط على الوسطاء الدوليين للأخذ بالحد الأقصى لشروطه.

هجوم "حزب الله" على صفد يعكس استعدادا من قبله للتصعيد واستخدام أسحلة نوعية جديدة في المواجهة في رده على أي تصعيد إسرائيلي

وفي السياق عينه، فإن نصرالله ومن ورائه إيران يريدان الضغط على الولايات المتحدة التي لا ترغب في توسعة الحرب لممارسة مزيد من الضغوط على إسرائيل للقبول بصفقة جديدة مع "حماس"، وردعها بالتوازي عن شن هجوم واسع على لبنان. وهو ما أوحى به كلام وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان خلال زيارته الأخيرة إلى بيروت بتحميله أميركا وبريطانيا مسؤولية استمرار الحرب من خلال مواصلة تقديم الدعم السياسي والعسكري لإسرائيل، وهو كلام ردده لاحقا رئيس كتلة "حزب الله" البرلمانية النائب محمد رعد، ثم نصرالله نفسه في خطابه الجمعة 16 فبراير، إذ قال إن "كل قطرة دم تسفك هي مسؤولية الإدارة الاميركية".
والجدير ذكره أن التصعيد الكلامي لنصرالله الثلاثاء أعقبه بعد نحو ساعة ونصف تصعيد ميداني من قبل "حزب الله" الذي قصف مواقع عدة في شمال إسرائيل وصولا إلى صفد على بعد 15 كيلومترا من الحدود، ما أسفر عن سقوط مجندة إسرائيلية و7 جرحى آخرين. مع الإشارة إلى أن الحزب استخدم في هجومه هذا صواريخ دقيقة لم تعترضها القبة الحديدية الإسرائيلية، في وقت ذكرت صحيفة "يسرائيل هيوم" أن "الجيش سيستخدم قريبا منظومات اعتراض صواريخ جديدة، بإمكانها تحييد قسم كبير من تهديد القذائف الصاروخية والصواريخ الدقيقة التي بحوزة حزب الله". إلا أن الأهم أن هجوم الحزب على صفد يعكس استعدادا من قبله للتصعيد واستخدام أسحلة نوعية جديدة في المواجهة في رده على أي تصعيد إسرائيلي، وإن كان لن يبادر إلى توسعة الحرب. وهو ما أكده نصرالله في خطابه الجمعة من خلال القول إن "حزب الله لديه صواريخ تسمح له بضرب أهداف من كريات شمونة إلى إيلات".

جولة التصعيد الأخيرة بين "حزب الله" وإسرائيل كانت بمثابة اختبار متبادل بينهما لمدى استعداد كل منهما للتصعيد ضد الآخر

وفي المقابل، فإن رد تل أبيب على هجوم الحزب ذاك لم يتأخر وعكس هو الآخر استعدادا إسرائيليا لتصعيد العمليات العسكرية في الجبهة الشمالية، إذ شملت الهجمات الإسرائيلية بدءا من الأربعاء مناطق عدة في جنوب لبنان وصولا إلى عمق 25 كيلومترا. وهو ما أدى إلى سقوط 7 مقاتلين من "حزب الله" بحلول الخميس بينهم القيادي في "قوة الرضوان" علي دبس، فضلا عن سقوط 7 مدنيين من عائلة واحدة نتيجة الهجوم على المبنى الذي كان يقيم فيه دبس مع اثنين من معاونيه. ثم أعلن الحزب صباح الجمعة عن سقوط مقاتلَين آخرَين له، كما أعلنت "حركة أمل" التي يرأسها رئيس البرلمان نبيه بري عن سقوط ثلاثة من مقاتليها، فضلا عن مقتل ثلاثة مدنيين من جراء القصف الإسرائيلي ليل الخميس. ولا شك في أن ارتفاع حصيلة القتلى من المدنيين يشكل عامل ضغط إضافيا على "حزب الله" الذي كان أمينه العام قد وضع بداية الحرب معادلة "مدني مقابل مدني"، وهو قال في خطابه الجمعة إن "إسرائيل ستدفع ثمن دماء المدنيين دماء وليس مواقع"، وهو ما ينذر بتصعيد إضافي بين الطرفين.

AFP
مقاتلون من "حزب الله" خلال تشييع القيادي دبس في 16 فبراير

بيد أن هذه الجولة من التصعيد بين الجانبين لم تخرج عن "السقوف المضبوطة" وإن شهدت ارتقاء نوعيا في المواجهات، وذلك بخلاف ما كانت بعض وسائل الاعلام الإسرائيلية قد أشارت إليه لناحية أن الجيش الإسرائيلي ينتظر ذريعة لشن هجوم واسع على "حزب الله". وبالتالي فإن جولة التصعيد الأخيرة بين الحزب وإسرائيل كانت بمثابة اختبار متبادل بينهما لمدى استعداد كل منهما للتصعيد ضد الآخر. أي إنها أعادت التأكيد على أن كلا الطرفين يتجنب الحرب الشاملة ويحاول تثبيت معادلات ردع تحول دون مبادرة الطرف الآخر إلى الذهاب باتجاهها. 
وفي الغضون تواصل إسرائيل حرب الاغتيالات ضد كوادر "حزب الله" ما يضعه في موقف صعب ومعقد يبدو أنه عاجز حتى الآن عن التعامل معه، سواء لناحية حماية كوادره أو الرد على عمليات الاغتيال التي تستهدفهم على نحو يردع تل أبيب عن مواصلة هجماتها ضدهم.
أخيرا، تجدر الإشارة إلى أن دخول "حركة أمل" على خط المواجهات منذ أكثر من أسبوع وإعلانها سقوط المزيد من مقاتليها يمثل معطى جديدا في المشهد جنوبي لبنان، لا من الناحية العسكرية إذ أعلنت "أمل" بلسانها عن محدودية قدراتها، بل لناحية ملاقاة "حزب الله" في محاولته لتعبئة جمهوره على ما ظهر في خطاب نصرالله الأخير، باعتبار أن انضمام "أمل" إلى المعركة يوحد المشهد الشيعي جنوبا، وهو ما يمثل ضرورة سياسية وميدانية لـ"حزب الله" لمواجهة سيناريوهات التصعيد وصولا ربما إلى الحرب الشاملة، وإن كانت لا تزال مستبعدة حتى الآن. لكن الأكيد أن "حزب الله" مضطر راهنا إلى التصعيد، وهو ما يؤكده قول نصرالله الجمعة: "أمامنا خياران إما المقاومة أو الاستسلام، والأول أقل كلفة...".

font change

مقالات ذات صلة