"أسرلة" القدس... هدم ذاتي "في متناول الجميع"

قليل من الفلسطينيين وكثير من الأرض

أكسل رانغل غارسيا/المجلة
أكسل رانغل غارسيا/المجلة

"أسرلة" القدس... هدم ذاتي "في متناول الجميع"

القدس الشرقية المحتلة - منذ بدء الاحتلال الإسرائيلي عام 1967 للقدس الشرقية، دأبت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على تنفيذ سياسة "الأسرلة" والتهويد، وتغيير الطابع الديموغرافي للمدينة، إذ امتدت حدود القدس الإدارية (الشرقية والغربية) إلى أكثر من 70 كيلومترا (كانت حوالي 54 كيلومترا عام 1948)، بعد أن ضمت إسرائيل مناطق عدة في الضفة الغربية المحتلة لحدود المدينة، وبنَت جدارا قضم أرضا فلسطينية، وأنشأت ما لا يقل عن 12 مستوطنة، وأصدرت أوامر هدم، أو هدمت بالفعل، الآلاف من الوحدات السكنية في الأحياء الفلسطينية.

وهدمت جرافات الجيش الإسرائيلي عشرات الأبنية الأثرية العربية بعد السيطرة على البلدة القديمة واحتلالها في حرب 1967، بل إن وزارة السياحة الإسرائيلية كانت توزع على السائحين عند بوابات البلدة القديمة خارطة (حصلت "المجلة" على نسخة منها) تظهر على نحو خاطئ 57 موقعا دينيا فقط، وصنفتها على أنها 50 موقعا لليهود، وستة للمسيحيين، وواحدا فقط، وهو الحرم الشريف، للمسلمين، بيد أن الرقم الحقيقي المثبت هو أكثر من 700 موقع ديني وأثري وتراثي للأديان الثلاثة. وبالفعل سحبت الوزارة تلك الخريطة من التداول منذ حوالي عشر سنوات، بعد أن أدركت ذلك الخطأ الفادح، أو بالأحرى بعد أن اكتشفه حقوقيون إسرائيليون وفلسطينيون.

الهدف الإسرائيلي غير المعلن هو تحديد وجود الفلسطينيين في القدس في منطقة صغيرة للغاية تبلغ مساحتها اليوم حوالي 11 في المئة من المساحة الإجمالية للمدينة وامتدادها الإداري، عن طريق عدم إصدار تراخيص بناء جديدة لهم على أرضهم. فالسماح ببناء عدد كبير جدا من المنازل الجديدة في الأحياء العربية يعني عددا كبيرا جدا من السكان العرب في المدينة.

صورة للخارطة القديمة للمواقع الدينية والتراثية في القدس، والتي سحبتها وزارة السياحة الإسرائيليلة منذ حوالي عشر سنوات

وحدد التخطيط العمراني للبلدية و"ضوابط" البناء الرسمية أجزاء عدة من القدس القديمة لتصبح أماكن عامة وحدائق، فضلا عن رسوم فلكية تعجيزية للسواد الأعظم من الفلسطينيين في المدينة، تقدر بعشرات الآلاف من الدولارات في حال الموافقة على إلحاق جزء ما في أحيائهم بالبنية التحتية الأصلية، لمده بالكهرباء وشبكات الصرف الصحي والمياه، وهو ما أسفر عن أزمة مزدوجة: نقص حاد في الوحدات السكنية، وارتفاع باهظ في أسعار الإيجارات.

واضطر عدد كبير من الفلسطينيين، مع تسارع النمو السكاني في صفوفهم، إلى بناء طوابق سكنية وتوسعة منازلهم في محيط أرضهم دون ترخيص. فلم تسن السلطات الإسرائيلية لهم نظاما بديلا لتطوير أحيائهم وتخطيطها عمرانيا، للوفاء باحتياجات أسرهم. وبات عشرات الآلاف من الفلسطينيين مهددين بهدم منازلهم اليوم.

لا يمكن اختصار القدس أو تصويرها كمشكلة عقارية، أو في إطار فلسطيني- إسرائيلي ضيق، فما يحدث فيها يتردد أصداؤه حول العالم 

وإذا ما أقدم الفلسطيني من سكان القدس على مغادرتها إلى مناطق خارج حدودها الإدارية، ولو بأمتار قليلة، للعثور على سكن بأسعار مناسبة، فقد تُسحب إقامته ويفقد هويته المقدسية لأنه يجب أن يثبت أن المدينة "مركز حياته"، وفقا للقوانين الإسرائيلية ذات الصلة. وهناك بالفعل آلاف المقدسيين الذين سُحب منهم حق الإقامة في القدس منذ بدء احتلالها وتغيير معالمها، بسبب تلك الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية، فضلا عن التضييقات الإسرائيلية.

في متناول الجميع

لعل هدم المنازل والملحقات "المخالفة" هو أكثر ما يؤرق فلسطينيي القدس، ليس بسبب ما يتركه من أثر نفسي بالغ وطويل الأمد فحسب، بل أيضا بسبب الكلفة التي تصل إلى أكثر من 30 ألف دولار أميركي، إذا باشرت البلدية عملية الهدم، وهذا ما حدث مؤخرا مع المقدسي فخري أبو دياب، الذي اصطحبني لمشاهدة أنقاض منزله في حي سلوان، بعد أن هدمته البلدية بالكامل في فبراير/شباط لمخالفته قواعد البناء الإسرائيلية.

ولم يُخير أبو دياب بين الهدم الرسمي والهدم الذاتي، فالبلدية عادة ما تترك للمخالفين وفقا للقوانين الإسرائيلية خيار "هدم في متناول الجميع"، كما يقول أبو دياب ساخرا، أي يتكفل الفلسطيني بإجراءات الهدم بنفسه، كي يوفر الكثير من المصاريف في ظل أزمة اقتصادية خانقة، وهو بمثابة "تحطيم لمستقبله ومستقبل أسرته".

اللافت أن سياسة الهدم انتقائية وعشوائية، كما يصفها أبو دياب. فقد تُرك بيته وملحقاته الإضافية منذ صدور أمر محكمة بهدمه عام 2010، عندما بدأ في دفع مخالفات على أمل أن يتصالح مع البلدية، إذ دفع مبلغا إجماليا يقدر بنحو 85 ألف دولار كضرائب ورسوم خدمات تفرضها البلدية، وأتعاب محامين، للتكيف مع الواقع.

وتبدأ الأزمة في أغلب الأحيان بمجرد الانتهاء من البناء، فلا يُخالف من يُقدم على توسعة منزله أثناء عملية البناء، بل بعد أن ينتهي منه، إذ تبدأ دورة الملاحقة القانونية والمخالفات المالية، فيؤجل الفلسطيني الهدم لسنوات خلال فترة بقائه وعائلته في منزلهم، وكأنه "يشتري الوقت"، كما يقول أبو دياب، إلى أن يصدر قرار نهائي، ويكون وقتها مخيرا بين أمرين: أن يصبح مدينا بفاتورة الهدم الرسمية، وما يترتب عليها من إجراءات حكومية ومصرفية حتى تسوية الدين الهائل، إن استطاع، أو أن يهدم منزله بنفسه توفيرا للنفقات الباهظة.

ويقع منزل أبو دياب في حي البستان القريب من المسجد الأقصى، من الناحية الجنوبية، والذي تريد البلدية، في إطار خطتها العمرانية للبلدة القديمة، أن تحوله إلى حديقة تحمل اسم "الملك داود"، للحفاظ على المكانة التاريخية للموقع بحسب الرواية الرسمية الإسرائيلية التي تقول إن الحي الفلسطيني هو موقع "حديقة الملك داود اليهودية الأثرية".

ويقول أبو دياب، الذي ولد في المنزل ذاته عام 1962، أي قبل خمسة أعوام من بدء احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، إنه لم يستطع الحصول على إذن بالبناء من البلدية لتوسعة المنزل عندما تقدم بطلب للمرة الأولى عام 1987، رغم أن أرضه والمنزل الرئيس مسجلان كأملاك شخصية له ولعائلته.

وتحول منزل أبو دياب، الذي كان يؤوي ثلاث عائلات مكونة من عشرة أفراد، بينهم أربعة أطفال، إلى صالون ثقافي نظرا لموقعه الفريد وبعد أن أصبح متحدثا باسم أهالي حي سلوان المهددين بهدم منازلهم، إذ استقبل فيه سياسيين وسفراء بارزين، بينهم الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر. المفارقة أن وفدا أجنبيا رفيع المستوى ومكونا من سفراء دول غربية عدة، بينهم السفير الأميركي جاك لو، زار المنزل قبل أسبوع واحد من هدمه، للإعراب عن تضامنهم مع أهالي سلوان، ورفضهم تغيير معالم البلدة القديمة بالقدس.

ويقول أبو دياب: "أرسلت لي البلدية فاتورة جديدة بعد الهدم لدفع ضريبة المنزل للعام الجاري (2024) وقدرها حوالي 1400 دولار أميركي، على الرغم من أن المنزل كما ترى تحول إلى ركام. هل ترى تلك البناية المجاورة؟ كانت في الأصل من طابق واحد واليوم تتألف من ستة طوابق مخالفة بناها مستوطنون إسرائيليون، ومع ذلك لم تصدر البلدية أمر هدم بحقهم. هذا مثال بسيط ولكنه صارخ على الاضطهاد والعنصرية وغياب العدالة في آن معا. اليوم أصبحت لاجئا في مدينتي".

أول عملية هدم في القدس الشرقية

هناك إجماع بين المؤرخين والباحثين الإسرائيليين والفلسطينيين على أن أول عملية هدم في المناطق العربية بالبلدة القديمة منذ عام 1967 حدثت في حارة المغاربة الملاصقة للمسجد الأقصى وحائط المبكى في العاشر من يونيو/حزيران، عندما هدمت جرافات عسكرية إسرائيلية عشرات من الأبنية الأثرية في واحدة من أقدم حارات القدس.

يقول شمويل باهات، الباحث في شؤون الصهيونية، في ورقة بحثية في أرشيف "مطبعة اتحاد الكليات العبرية"، المكرس لجميع الدراسات العبرية واليهودية القديمة والحديثة، إن مسؤولين رفيعي المستوى في الحكومة الإسرائيلية آنذاك بقيادة ليفي أشكول صادقوا على أمر الهدم. 

وفي الورقة البحثية، التي حصلت "المجلة" على نسخة منها، خص الباحث الإسرائيلي بالذكر رئيس بلدية القدس تيدي كوليك، الذي اشتهر بلقب "مهندس الاحتلال" في البلدة القديمة، والجنرال عوزي ناركيس، قائد المنطقة الوسطى في الجيش الإسرائيلي خلال حرب 1967، والذي رُفعت صورته في القدس بعد احتلال المدينة. ويناقش بحثه بصورة أوسع مصير سكان الحي الذين هُجروا قسريا سواء خارج المدينة أو إلى الأردن والمغرب، بالإضافة إلى مظاهرات لليهود والعرب للتنديد بعملية الهدم.

السماح ببناء عدد كبير من المنازل الجديدة في الأحياء العربية بالقدس، يعني عددا كبيرا من السكان العرب في المدينة

وأثناء زيارتي الأخيرة للقدس، التقيت المحامي الإسرائيلي دانيال سايدمان في مكتبه، والذي اشتهر بدفاعه عن أهالي حي الشيخ جراح المهددين بالطرد من منازلهم المُستأجرة أبا عن جد، ومرافعاته أمام المحكمة العليا الإسرائيلية ضد هدم منازل الفلسطينيين، ومعارضته للاحتلال الإسرائيلي والمستوطنات، كما أنه من أوائل مؤسسي حركة "السلام الآن". يقول سايدمان، بينما كان يشير إلى نافذة مكتبه في شارع بيتار بالقدس الغربية: "خلف إشارة المرور هذه، ترى القدس الشرقية المحتلة. لا يمكن أن تنبض القدس بالحياة إذا كان نصفها محتلا، والنصف الآخر حر. هنا أحرار، هناك محتلون".

وفي 4 يوليو/تموز 1967، صدر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 2253 الذي يدعو إسرائيل إلى "إلغاء جميع التدابير المتخذة والكف فورا عن اتخاذ أي إجراء من شأنه تغيير وضع القدس". وفي تجاهل تام للقرار، صادرت إسرائيل واحتلت منذ ذلك الحين ملكية الأراضي التي كانت المملكة الأردنية تديرها والمسجلة منذ العهد العثماني في الضفة الغربية، وصنفت مئات الآلاف من الدونمات كأراض تابعة لدولة إسرائيل. وفي عام 1970، صدر قانون إسرائيلي يُمكن الإسرائيليين اليهود من المطالبة بممتلكات فقدوها في القدس القديمة قبل إنشاء إسرائيل عام 1948.

ومن المربك، بل من الصعب، الحصول على بيانات دقيقة لمساحة الأراضي الفلسطينية التي صادرتها إسرائيل منذ ذلك الحين بسبب أمر عسكري صدر عام 1967 يمنع الفلسطينيين من تسجيل الأراضي في المناطق المحتلة بحجة "حماية ممتلكات الغائبين"، إلا أن بيانات معهد الأبحاث التطبيقية في القدس، وهو منظمة فلسطينية مدنية، تشير إلى أن 51 في المئة من المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة، البالغ عددها نحو 176 مستوطنة (إلى عام 2023)، بُني على أراض صنفتها إسرائيل بأنها أراضي دولة و49 في المئة منها بنيت على أراض فلسطينية.

أحمد ماهر/المجلة
فخري أبو دياب يقف على أعتاب أنقاض منزله في حي سلوان بالقدس الشرقية المحتلة

ويقول كريم جبران، مدير البحث الميداني في مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة (بتسيلم) والناطق باسم المركز باللغة العربية، الذي التقيته في القدس، إن إسرائيل تخطط لإخراج منطقتين فلسطينيتين تحديدا خارج الحدود الإدارية للقدس، وهما كفر عقب ومخيم شعفاط، لأن فيهما أكثر من نصف سكان القدس من العرب البالغ إجمالي عددهم نحو 300 ألف شخص وذلك "للإخلال بالتوازن الديموغرافي للقدس. هم اليوم بالفعل خارج القدس مكانيا بعد بناء جدار الفصل العنصري".

ويضيف جبران أن السياسة الإسرائيلية في القدس تتركز منذ عام 1967 على مفهوم "كثير من الأرض لليهود، وقليل من العرب"، مشيرا إلى أن إسرائيل حولت التخطيط العمراني إلى "أداة من الأدوات السياسية التي تستخدمها في وقف التوسع الفلسطيني في القدس، لضمان عدم زيادة نسبة العرب من سكان المدينة وحصرها دوما في حدود 25 في المئة من إجمالي تعداد السكان اليوم البالغ نحو مليون نسمة".

وعند الحديث عن القدس لا يمكن تجاهل الطابع الديني للمدينة، فمن المستحيل فهم القدس دون فهم بعدها الديني. فالقدس لا يمكن اختصارها أو تصويرها كمشكلة عقارية، أو في إطار ضيق فلسطيني-إسرائيلي، فما يحدث فيها من احتجاجات وأعمال عنف وانتهاكات حقوقية وتغيير معالمها المعمارية والديموغرافية، تتردد أصداؤه بين أعداد غفيرة من اليهود والمسيحيين والمسلمين في مدن عدة حول العالم.

أطلعني سايدمان، المحامي والحقوقي الإسرائيلي، على مجسم ثلاثي الأبعاد للبلدة القديمة، استغرق تصميمه عشر سنوات، للبلدة القديمة. خصص سايدمان ثلاثة ألوان لتحديد الأماكن المقدسة فيها تحديدا: الأزرق لليهودية، البرتقالي للمسيحية، والأخضر للإسلام. وكتب سايدمان ومتخصصون آخرون، من بينهم رجال دين يهود ومسيحيون ومسلمون، ومؤرخون وعلماء آثار ومحامون، مجلدا مصاحبا للمجسم، كما أنتجوا نسخة رقمية له. ويسرد الكتاب المصاحب للمجسم تفاصيل وحكاية كل موقع أحصوه، من أصل مئات المواقع الدينية والتراثية الموثقة، داخل البلدة القديمة وخارجها.

ويقول: "القدس مدينة حكيمة جدا وهادئة لمن يأخذ هذا السياق الديني المعقد على محمل الجد. لكنها تصبح مكانا خطيرا للغاية، إذا تجاهلنا هذا السياق".

font change

مقالات ذات صلة