من خلال قصائده... هكذا رأى بدر بن عبد المحسن شعره وهذا ما ميّزه

خمس سمات صنعت مكانته الشعرية

الأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن

من خلال قصائده... هكذا رأى بدر بن عبد المحسن شعره وهذا ما ميّزه

كانت مشاعر الحب الغامر التي عبّر عنها السعوديون في وداع الأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن صورة استثنائية في الاجماع على تقدير موهبة شعرية نادرة، والاعتزاز بأعماله العابرة للأجيال. فتبادلت جماهير البدر العزاء مرددة مقاطع من قصائده، كأنها تؤكد أن حياة شعره ستكون أطول من حياته.

أسعى في هذا المقال إلى البدء في أداء قسطي من الواجب الذي أدعو إليه تجاه تراث بدر بن عبد المحسن الفني، محاولا فهم ما ميّز تجربته الشعرية عمن سبقوه، أو عاصروه، من الشعراء السعوديين الذين حظي كثير منهم بالنجاح، لكن بقي بدر حالة استثنائية جديرة بالتأمل العميق، والدراسة الجادة، متناولا إرثه الشعري في خمس سمات ميّزت تجربته الشعرية.

أدى تعلقي بشعر بدر بن عبد المحسن، وكثرة اعتيادي عليه، وترديده، إلى أن يتراكم في ذهني وكأنه كتلة واحدة، أو شيء كليّ تتعذر تجزئته، دون عناية مني بالتحقيب الزمني، أو التعريف بمراحل شعره. هذا التعلق، وذلك الاعتياد، مسؤولان نسبيا عن هذا، لكنني أقدّر أن عاملين آخرين لعبا دورا في هذا، أولهما طبيعة قصيدته المتجددة عبر الرواية والغناء، فكم قصيدة قديمة له صارت أغنية جديدة، أو برزت عبر التداول في شبكات التواصل الاجتماعي بعد سنوات طويلة من نشرها. والعامل الثاني، أن البدر نفسه شريك في هذه المسؤولية، فهو شاعر يعيد كتابة قصيدته، ويطوّر نصه، وستجد عددا من قصائده المنشورة، والمغناة، بأكثر من تعديل في كل مرة. لذلك فإنني اقترح التعامل مع شعر البدر بوصفه تكوينا إجماليا دون انشغال بالتمرحل الزمني لتجربته الشعرية، لا لصعوبة ذلك فحسب، بل أيضا لقلة فائدته، نظرا إلى طبيعة تجربته الشعرية المتسمة بالتنوع في الأغراض والأساليب، والمزج بين التقليدي والحديث، والاجتهاد في الابتكار، والعناية بالخيال عنصرا رئيسا، في عموم التجربة.

أدى تعلقي بشعر بدر بن عبد المحسن، وكثرة اعتيادي عليه، وترديده، إلى أن يتراكم في ذهني وكأنه كتلة واحدة

انجذبت منذ طفولتي الى قراءة الشعر وسماع الغناء، ومن الواضح ان هذا الانجذاب تفسير منطقي للتعرف الى شعر بدر. ما زلت أتذكّر تدويني شعره في دفاتري، ومراجعته، وظل هذا سلوكا مصاحبا لي حتى اليوم، مع استمراري في نشر مقاطع من شعره على حساباتي في شبكات التواصل الاجتماعي. وعلى الرغم من اهتمامي المبكّر بقراءة الشعر وحفظه والكتابة عنه، إلا أن علاقتي بشعر بدر بن عبد المحسن ظلت مختلفة، ليس باعتبار شعره الأفضل أو الأجمل، فالقمة في الشعر ليست مدببة، وتتسع لكل نص جميل، غير أن قصيدته ظلت أقرب إلي من كل قصيدة، ربما لأني أجد فيها تعبيرا عما في خاطري، وبلغة خير مما أحسن، وربما لأنها قصيدة تجمع من وجوه التميز الفني ما لم يتوفر لغيرها في حدود اطلاعي، أو لأن في تجربته الشعرية من التنوع ما جعلها أكثر رحابة من التجارب الأخرى التي توفر لي الاطلاع عليها.

غياب الجانب الشخصي

لكل شاعر تجربته الشعرية، وفي كل تجربة نصوص مفتاحية تمثّل مدخلا مناسبا، وثمة أكثر من نص لبدر بن عبد المحسن يمثل مفاتيح لتجربته في رأيي. وبصرف النظر عن تقييمها فنيا، فإنها نصوص تشرح كيف يرى البدر تجربته، واقترح في هذا المقام "بس أحلم" لتعريف قصيدته:

صحيح اني انسى الحوادث والملامح والاسامي

لما اكتب عن غرامي

شعر أبعد ما يكون عن مجرد جرح دامي

يمكن أقرب للجنون من تفاصيل الحكاية

***

عندي هموم القصيدة .. غامضة صعبة عنيدة

وانت عاشق للوضوح .. ودك بسري أبوح .. وانا آخر همي ابوح

.. اعبر الشارع معي في الرصيف الثاني قهوة .. فيها أربع طاولات

وحدة اجلس فيها وحدي .. وحدة للي يجي بعدي .. وحدة لأغلى حرف عندي

.. أما آخر وحدة دايم للي فات .. من شجون وذكريات

زحمة لكن .. كل من القهوة ربعي .. كلهم دمي ودمعي

ليه ما تجلس مكاني؟ .. وهذا شوفي .. وهذا سمعي

اطلب أقلام ودفاتر .. وحاول اكتب عن شعور

لا هو ظلما ولا هو نور .. قلب ما بين السطور

***

وانا اكتب اغنية مثل "الرسايل" كنت أكذب .. والخيال العذب كذب

كنت لازم اخفي سري وما أقول .. إن هالمرة قصيدي هو خيالات الحقول

تطرد اسراب الطيور .. عن حقيقة عن شعور .. ما هو في ذهب السنابل .. إنما تحت الجذور

كسّروا العشاق بابي .. قطّعوا لحمي ثيابي

وخلّعوا الادراج .. طاحت مزهرياتي الجميلة

شقّقوا جفني كتابي .. وسألوا وين الجديلة؟ ودمعة العين الكحيلة؟

ما لقوا في بيتي إلا ...

وما لقوا في صدري إلا ...

وما لقوا في قلبي إلا أمنياتي المستحيلة .. وإني أحلم .. بس أحلم!

ثمة أكثر من نص لبدر بن عبد المحسن يمثل مفاتيح لتجربته في رأيي، فهو يشرح كيف يرى البدر تجربته

هذا نص يفصل فيه البدر بوضوح نادر شعره عن حياته، وكأنه يقول إن القصيدة بالنسبة إليه عمل إبداعي، لا يوثق الأحداث، ولا يشرح موقفه حيالها. عمل إبداعي لا يحاكي تجربته الإنسانية، بل يستفيد منها في بناء عالم موازٍ. بناءٌ للخيال وغوص في المشاعر، فأولويته إنتاج هذا العالم، وهو غير مهتم ولا معنيّ برواية تجاربه الشخصية، ولا تسجيل مشاهداته. أعتقد ان هذا مدخل فهم تجربة البدر، والاقتراح المناسب لقراءة نصه، وتحليله وفهمه. وفي الوقت نفسه أحد أبرز ملامح اختلاف قصيدته.

إدراكه موقع قصيدته

مما يضرّ بالمبدعين، ارتباكهم في تحديد مواقعهم، وفهم أحجام مواهبهم، بما يورطهم في شرك المغالاة والمبالغات المتطرفة، إلا أن شاعرنا يدرك حجم موهبته، وموقع قصيدته الرائدة، وهو أمر مسؤول، ضمن عوامل أخرى، عما حققه في مشواره الشعري من تميّز، ويمكن التحقق من ذلك في أكثر من نص من نصوصه، منها "شاعر":

حبيبتي من هو غيرك قد عشق فكرة؟

طيف وخيال ونحول يكسر الخاطر

ما حذّرك عاذلك من غيّه وسحره

ما قال قلبه خراب وموسمه باير

لا برّ في دفتره .. لا شهد في حبره

لا ضي في غربته متبعثر وحاير

كني سمعتك، وكل العين منتثرة

دمع، صرختي ما بين السيف والحافر

لا تذبحونه ألم وإن طال به عمره

فاق بخياله جمال الماضي والحاضر

ولا طعنتوه خلوا شبر في صدره

يلقى به العشق وقت يقيم ويسافر

الكوكب اللي تقول الناس يا صغره

من كثر ما هو بعيد وشوفهم قاصر

لا تحسدونه خذا من خبزكم كسرة

للجوع وأعطى شباب القلب والناظر

اللي قليله قليل فاض من كثره

واللي كثيره قليل الجوهر النادر

أصابعه وإن حسبتوا كلها عشرة

وأصابعه وإن حسبتوا مالها آخر

في كل أرضٍ حفر وديانها ظفره

وفي كل صخرٍ بياض عظامها نافر

كلما انجرح شعّ نزفه واشتعل فكره

وكلما بكى، كل دمعةٍ تولد بشاعر !

(واس)
الأمير بدر بن عبد المحسن خلال إحيائه أمسية شعرية في القصيم

هذا نص قد يراه غيري غزليا، فيما أراه في الفخر. هنا شاعرٌ يعرّف بنفسه، وقيمته، وفي هذا النص -وأمثاله من شعر البدر- ما يبرر مستوى الجرأة في التجديد والابتكار النابع من ثقته المرتفعة في إمكاناته، وإدراكه العميق لحجم موهبته الاستثنائية. وهذا النص مثال يمكن أن أقترح غيره بما يعزز فهم تصوره لطبيعة قصيدته، ومكانتها. خلاصة هذه السمة إذن وعيه الذي أظنه نادرا بحجم موهبته. ولهذا السمة شواهد أخرى في شعره؛ منها:

لا شاري عقد ولا مهدي سوار

لا تلحقي نفسك هموم وحسايف

تريثي يا قرة العين .. مقدار

ما تشرب عروق القصيد الوصايف

لا من قدحت الشعر شبيت لك نار

نارٍ على روس الهضاب النوايف

يطرب لها الساري ويسري بها الطار

وتزهر بها عقب المحول الشفايف

باهديك انا عمر ولا كل الأعمار

يفنى القلم قبله وتفنى الصحايف

قصيدة تولد ورا باب وجدار

سر الضلوع المرهفات النحايف

والى أصبحت طارت على متن الأسفار

وغنت بها قبل النفود الصحايف

غيبي وشيبي واتركي كل ما صار

يبقى جمالك في قصيدي طرايف

وخلي الكواكب من سنا نورك تغار

ولا تلحقي نفسك هموم وحسايف

***

أتذكّر في عين الشمس طفل خجول

شالته في هدبها وقت لين اشتعل

أعجب الناس وهجه بالجدل والفضول

ما دروا عن جمال الجرح لين اندمل

والله إني كتبته في العطش والذبول

لين غصنه تعدّل بالورق واعتدل

والله إني كتبته لين قال الجهول

"والله إني كتبته" وانتشى واحتفل!

***

إن ما جمعت النور من كل وقّاد

وطوّقت بنجوم المجرة بناني

ونثرت روح الورد في مدحك مداد

ما أقول أنا هام القصايد مكاني

...

يا سيدي والله ما أشوف الأنداد

أنا وحيد الشعر ما خلق ثاني

شاعر المناسبات: الصنعة الشعرية

رغم أن المعتاد، في حدود ملاحظتي، انخفاض المستوى الفني في قصيدة المناسبة، وهو أمر موضوعي لأنها قصيدة تأتي على سبيل التكليف من الشاعر لنفسه، أو من غيره له، إلا أن بعضا، أو كثيرا، من قصائد البدر في المناسبات، صارت من القصائد المميزة فنيا، ومن تلك النصوص "عز الوطن" التي كتبت لإحياء العرض العسكري في افتتاح مهرجان "الجنادرية"، فالمهرجان الذي تكّون على ضفاف سباق الهجن التقليدي، شهد إضافات متلاحقة منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي، ومنها إضافة أوبريت الافتتاح منذ دورته السادسة، والذي سبقته إرهاصات، كان من بينها أول عمل معدّ للمهرجان في الدورة الخامسة من لحن طلال مداح وأدائه.

الله الأول وعزك يالوطن ثاني

لاهل الجزيرة سلام وللملك طاعة

هو شاعر محترف لا يعتمد على الإلهام، والموهبة فحسب، وإنما يضيف إليهما حرفية الصانع المقتدر على مواكبة المناسبة بنص ابداعي لا يقلّ عن بقية نتاجه

و"هام السحب" التي أنشأها لمناسبة افتتاح استاد الملك فهد الدولي في الرياض في عام 1988، ولحنها محمد عبده وغناها، فصارت الاغنية الوطنية الأشهر. وقل مثل ذلك، وخيرا منه، عن نصوصه لأوبريت "الجنادرية"؛ الذي كتبه اربع مرات، ليكون بذلك أكثر شاعر يؤلف الأوبريت. ففي افتتاح المهرجان عام 1992م، قدّم أوبريت "وقفة حق"، من لحن محمد شفيق، وأداء طلال مداح ومحمد عبده، الذي اختار البدر أن يخصصه للغزو العراقي للكويت، ثم أوبريت "فارس التوحيد" في عام 1999 المخصص لمناسبة مرور مئة عام على استرداد الملك عبد العزيز الرياض، وأوبريت "وطن الشموس" في عام 2009، وأوبريت "أئمة وملوك" في عام 2018. وكذلك في قصيدته لمناسبة العارض الصحي للملك فهد بن عبد العزيز -رحمه الله- "سلامتك يا شمس الأرض وقمرها" التي لحنها محمد عبده وغنّاها راشد الماجد، ونظيرتها للأمير سلطان بن عبد العزيز -رحمه الله- "الليل هوّد" التي لحنها محمد عبده وغناها.

صفوة هذه الملاحظة إدراك درجة الاحترافية التي بلغها البدر، فهو شاعر محترف لا يعتمد على الإلهام، والموهبة فحسب، وإنما يضيف إليهما حرفية الصانع المقتدر على مواكبة المناسبة بنص ابداعي لا يقلّ عن بقية نتاجه الذي لا يرتبط بالمناسبات.

الخيال: الشعر صورة

يتكوّن النص الأدبي من أربعة عناصر؛ هي الفكرة، والأسلوب، والخيال، والعاطفة، فمن طبيعة النص الأدبي شمول العناصر الأربعة، إلا ان أحدها يصبح عنصرا قائدا، باختلاف المبدع، واختلاف النص، وفي رأيي أن العنصر القائد في عموم قصائد بدر بن عبد المحسن هو الخيال، ولذلك ربما قال في الحوار المتقدمة الإشارة إليه أن القصيدة صورة فوتوغرافية، وإن كان لي أن أضيف فإن قصيدته كذلك لوحة، ومشهد سينمائي. وهنا أستعرض بعض النماذج التي تدعم رأيي، داعيا إلى تأمل بناءه المركّب للصور الموحية:

يطيح جفن الليل واهز كتفه

نجمٍ يشع وباقي الليل مطفي

واحاكي الجدران عن وصف غرفة

ما تشبه الجدران ويطول وصفي

وتملني الجدران واظهر لشرفة

تحت السماء واسكر الباب خلفي

***

في الليالي الوضح .. وفي العتيم الصبح

لاح لي وجه الرياض .. في مرايا السحب

كفها فلة جديلة من حروف .. وقصة الحناء طويلة في الكفوف

من نده عطر الرفوف .. لين صحّاه في ثيابك يا ألف ليلة .. وفي الهبوب

انثنينا يا هبوب النعاس .. والحلم

ألف غصن من اليباس فزّ لأجلك وانثنى

اكسري الأوهام كأس .. والمواجع فم

وإن عشقتيني أنا .. ما أبي من الناس ناس

***

على الغدير .. كانت سماء .. ويرمي الظماء وجهي عليه

على الغدير .. وجهي وسماء .. لين ارتمى وجهك عليه

على الغدير .. وجهي ووجهك والسماء ..

من يسبق يملأ يديه .. يشرب ملامح صاحبه !

***

شدوا الرحايل .. للمدى المجروح

بعض السوالف ألم .. والابتسامة نوح

تناثروا عج وهبوب رياح .. حبات لولو كنهم .. وكن الرمال وشاح

***

شعاع يدخل الغرفة.. بعد العصر

يزحف فوق سجادة.. ويطلع فوق هالكرسي

ويمكن يلمس وسادة.. ولحظة ما لمحته خاف .. تراجع .. طاح من الكرسي..

وركض قبل النهار يمسي.. ورجع للشمس كالعادة !

***

الشمس طاحت وبردت.. ورمّد الشفق في حجر الارض

من يشتهي يدوس باقدامه على هالرماد كله؟

يا عابر على المدى .. من السراب الى الندى.. قلبي سقط فوق التراب شله..

او لا تدوس القلب خله .. كل يوم له شمس

وانا مالي سوى قلبي !

انا .. من بكى لين الثرى بله..  بالدمع.. ويوم اكتفى .. صد وعصر ظله ..

ومسح بردنه وجنته.. ثم ابتسم لين حسدوه الناس

***

تالي نهار وعاتق الشمس مذبوح

والوقت لو تدرين للوقت ذبّاح

كن السماء صوت من الذعر مبحوح

والليل خيل سود للضي تجتاح

وسحايب فوق الشفق كنّها قروح

على جبينٍ ما شكى كثر ما طاح

لاذت عصافير المساء في ذرى الدوح

وتنفّس سراج الوهن بين الألواح

التنوع: شعراء في شاعر

أحد أبرز ملامح مُنتَج بدر بن عبد المحسن الشعري تنوعه اللافت، وهو تنوعٌ يميّزه في تقديري عن معظم مجايليه، وهو فارقٌ رئيس عن الأجيال اللاحقة له، وفي رأيي أنه تنوعٌ نابعٌ من عوامل عدة منها ثقافته، وتعدد أغراض شعره، وجرأته في التجريب، غير أن أهم تلك العوامل إخلاصه لنصه، ولذلك يستخدم الأسلوب الملائم للقصيدة، دون أن يتقيد بأسلوب ثابت في بناء النص، أو المفردات المستخدمة، أو الصور، بما يحافظ به على اتساق نصه مع الغرض منه، ويمكن ملاحظة ذلك في تمايز نصوصه في أمثلة عدة، أختار منها هذه المقاطع:

الليل هوّد واكهف النجم لغياب

قضى الحديث وودعونا المسايير

احدٍ قفل من دون هوجاسه الباب

واحدٍ غدت جدران بيته تفاكير

يا ساكن الهوجاس ممساك ما طاب

راحت مجاهيمٍ وجتنا مغاتير

لا والله الا ضامنا بُعد الأحباب

والشوق ظالم لا تعدّى المحاذير

***

أرفض المسافة .. والسور .. والباب والحارس

آه أنا الجالس .. ورا ظهر النهار

ينفض غبار .. ذكرى

أرفض يكون الانتظار .. بكرا

***

السهر وقدةٍ تصلى الجروح

والهوى ما بكت عين الجريح

في الجمر دلةٍ صفراء تفوح

وانا قلبي على الشكوى شحيح

اقشر العشق عشقٍ ما يبوح

لين يفنى عتب أو يستريح

اقضب الليل تكفى لا يروح

ما دام لي بالصدر عرقٍ يصيح

***

أعلّق عيوني على نجمة

محبوسةٍ في غرفةٍ ظلما

مقفولٍ عنها باب .. ولها حارس كذّاب

دايم يشيل كتاب .. يقراه وهو أعمى

أعلق في سمعي رعد غيمة

وأشرب ذكر ديمة .. طاحت في بطن اليم

أغمض عيوني عليّ وأحلم

 تنوعٌ شعره نابعٌ من عوامل عدة منها ثقافته، وتعدد أغراض شعره، وجرأته في التجريب، غير أن أهم تلك العوامل إخلاصه لنصه

ووظّف البدر هذه المهارة بشكل أوضح حيث يتعدد الأسلوب في نص واحد، ولعلّي أُمثّل لذلك بأوبريت "وقفة حق"، فلوحة العرضة في مستهله، ثم لوحة معركة الخفجي، ولوحة الملك عبد العزيز، تحفل بالمفردات والصور المنسجمة معا، والمختلفة كليا عن لوحات أخرى في النص نفسه، فلنتأمل هذه اللوحات الثلاث:

منا لابو فيصل كثر رمل النفود

وكثر النجوم وسحبها وابراجها

سلام من قلبٍ وفيّ بلا حدود

زيزوم هذي المملكة وسياجها

يا شيخنا حنا تحت أمرك جنود

وانت إمام الناس وانت سراجها

انت الذي أعطيت معنى للصمود

لا شبت الفتنة عرفت علاجها

ومنا لابو متعب مواثيق وعهود

ولا ثارت الهيجا نخوض امواجها

والله ما يفرح عدو ولا حسود

ما دام به حيٍ بخفض حجاجها

***

ليلٍ على الخفجي تشقق نهاره

 في عيوننا صبحٍ وفي عيونهم ليل

الله على اللي مبتدينا بغارة

هو ما درى اننا للملاقا مغاليل

جوكم هل التوحيد وأهل الجسارة

جوك النشاما صدق ما هي تهاويل

ومن الحرس والجيش ذقتوا المرارة

خلوا جنايزكم جذوعٍ بعد سيل

يا طالبين الحرب ما هي عيارة

نارٍ الى شبت حطبها رجاجيل

حنا عمار الخصم وحنا دماره

وحنا الى ضاقت نحل المشاكيل

***

يا ليت ابو تركي يشوف

في الحرب كيف افعالنا

الشيخ ورث له سيوف

ونعمٍ بكل ابطالنا

للحمل اركينا الكتوف

لو هي ثقيلة أحمالنا

حنا على الصاحب نروف

وقبر العدو برمالنا

***

في المقابل، وفي الأوبريت نفسه، يمكننا أن نلاحظ عصرية اللفظ، ورقة المعنى، في اللوحة الافتتاحية، ولوحة الدعوة الى السلام:

للجزيرة .. بردها وسمومها

للصحاري .. رملها وحزومها

للجبال .. اللي سقتنا غيومها

لليالي .. اللي عشقنا نجومها

للمآذن رددت .. الله أكبر .. الله أكبر

لكل من كافح في هالصحراء وعمّر

للنخيل .. للهديل .. للمواني .. والاصيل

لكل ما في المملكة وطني الجميل

***

هذي يدي .. ممدوةٍ لاجل السلام

هذي يدي .. لاجل التأخي والوئام

مديتها عبر الزمن .. مديتها وكان الثمن

أدموا يدي بأشواكهم

أدموا يدي بشراكهم

ليه الخليج مثل الشجر .. كلما عطا يرمي بحجر

هذا الخليج يا ضيوفنا مد اليدين .. بالحب شدوا كفوفنا يا الطيبين

وادعوا معي لاجل السلام

لاجل التآخي والوئام

ويمكن تكرار ذلك عبر أعماله اللاحقة في "الأوبريت"، وغيره من تجاربه الشعرية المنّوعة في انتقاء اللفظ، وانتخاب المعنى، واختيار الصورة.

إذن، وفي وداع مهندس الكلمة، فإن ما ورد أعلاه بعض ملامح ما آمل أن ينمو ليغدو مشروعا نقديّا حيال تجربة شعرية رائدة. اقتصدت هنا في الشواهد مكتفيا بقلادة تحيط بعنق التجربة، ومتطلعا إلى فرص مقبلة للتوسع في ما يستحق التوسع فيه. ويطيب لي تجديد الدعوة -لنفسي ولغيري- بمواصلة الاشتباك مع تجربته الإبداعية، عبر المراجعة النقدية الجادة، التي تتحرى إرثه الشعري وإعادة قراءته، وتعميق فهم لوحاته الفنية، وتوثيق دوره الرائد في تطوير الاغنية السعودية، ليكون هذا التعبير الأمثل عن الامتنان لواحد من أبرز المجددين في الساحة الثقافية المحلية والعربية خلال نصف القرن الأخير، وعن الاعتزاز بإسهاماته الثرية.

font change

مقالات ذات صلة