قرر أحدهم اجتزاء عبارة من حديث طويل أدلت به الملكة رانيا العبدالله، ليقرر بعدها كثيرون تجاهل كل حديثها والتركيز على عبارة: "لأضع نفسي مكان أم إسرائيلية، لديها طفل أُخذ رهينة"، لم يكلفوا أنفسهم عناء إلقاء نظرة سريعة على نص المقابلة، ولا حتى سماع جوابها كاملا، بضع كلمات كافية بالنسبة لهم للقيام بواجبهم على أكمل وجه، تخوين وشيطنة كل من لا يشبههم.
منذ بداية الحرب على غزة، قامت الملكة رانيا بجهود لا يمكن لعاقل إلا أن يلاحظها، فهي عدا كونها ملكة الأردن ومن أصول فلسطينية، فإنها سيدة متعلمة وتتقن التحدث مع الإعلام الأجنبي كما العربي، ومنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول قامت بعشرات اللقاءات الصحافية للإضاءة على ما يحدث في غزة وإلقاء الضوء على الجرائم التي يرتكبها الإسرائيلي بحق المدنيين الفلسطينيين، ولكن أيضا منذ السابع من أكتوبر لم تتوقف حملات "التخوين" ضدها، وإن كانت الحملة الأخيرة هي الأوضح، كون الاجتزاء كان شديد الوضوح، وشارك في الحملة بعض الإعلاميين والمثقفين العرب، ولا أظن أن أحدا منهم لم يحاول التأكد مما قالته لبرنامج "فيس ذا نيشن" مع الإعلامية مارغريت برينان على قناة "سي بي إس" في نيويورك، إلا أنهم أصروا على المشاركة في الحملة ونشر الاجتزاء وتوزيع الاتهامات.
معتز عزايزة، أو كما لقبه متابعوه "بطل غزة الخارق"، صحافي فلسطيني وُلد في مدينة غزة، درس الصحافة والإعلام، يتحدث الإنكليزية بطلاقة.
وثق عزايزة بكاميرته الجرائم التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية بحق المدنيين والأطفال في غزة، كان عين العالم في غزة أيام الحرب الأولى، تخطى عدد متابعيه على "إنستغرام" عدد متابعي رئيس الولايات المتحدة الأميركية جو بايدن.
قد يظن المرء للوهلة الأولى أن حملات التخوين والتشويه جزء من خطاب شعبوي غير مدروس، لكن لا شيء يحصل بالصدفة، ويتكرر بالصدفة
فقد معتز عائلته يوم 12 أكتوبر 2023، أي بعد بداية الحرب بأيام، كان معتز متوجها لتغطية قصف القوات الإسرائيلية على منطقة دير البلح وسط قطاع غزة، كان يؤدي عمله المعتاد في تغطية الاعتداءات الإسرائيلية بقطاع غزة وتوثيق كل الهجمات، ونقلها للعالم من خلال حسابه على "إنستغرام"، وبينما كان يقوم بالبث وصل إلى المبنى الذي كانت توجد فيه عائلته وانهار باكيا "عائلتي كلها تسكن هناك... عائلتي كلها أشلاء"، فقد عزايزة 15 فردا من أسرته جراء القصف. لم تمنعه المأساة من مواصلة عمله، والاستمرار في نقل فظاعة وبشاعة جرائم الجيش الإسرائيلي بحق الفلسطينين، ولم يشفع له الجهد الجبار والدور الرئيس الذي لعبه ليكون عين العالم على غزة، ولا فقدان عائلته، من أن تطاله حملات التخوين.
بعد 107 أيام على بداية الحرب على غزة، خلع معتز سترته الواقية وخرج من غزة، اعتذر ووعد بالعودة قريبا، 107 أيام قضاها معتز يتنقل من مكان لآخر في قطاع غزة وينقل الفظائع التي يرتكبها الإسرائيلي بحق الفلسطينيين. كان المصدر الأكثر اعتمادا للناس خارج غزة ليروا حقيقة ما يحصل هناك، توجه بكاميرته ومقاطعه على "إنستغرام" لكل العالم ليدركوا حقيقة ما يحصل هناك.
ومنذ لحظة مغادرته غزة، كما فعل كثيرون آخرون، لم تتوقف حملة "شيطنته"، حتى تكاد تظن أن معتز قضى 107 أيام بالقول إن غزة بخير وتسويق رواية الإسرائيلي أنه لا يقتل المدنيين.
رشيد الخالدي البروفيسور الفلسطيني الأميركي وأستاذ الدراسات العربية بجامعة كولومبيا، كان عرضة لحملات التخوين أيضا، وإن لم تتسع هذه الحملات كغيرها، لأسباب عديدة قد يكون أحدها أن الخالدي شخصية معروفة عند النخب أكثر منه شخصية مشهورة عند العامة.
المشترك بين هؤلاء جميعا، أنهم فلسطينيون، وكل من موقعه قام بجهود جبارة لينقل للعالم حقيقة ما يحصل في غزة، ولكن جميعهم أيضا ليسوا من مؤيدي عملية "طوفان الأقصى".
قد يظن المرء للوهلة الأولى أن حملات التخوين والتشويه جزء من خطاب شعبوي غير مدروس، يشيطن كل من لا يشبهه، الملكة رانيا عقيلة العاهل الأردني، ومعتز عزايزة الناشط الغزاوي الذي أحب غزة وكان ينقل جمالها قبل أن تضطره الحرب إلى البدء بنقل بشاعة ما يحصل، وهناك غيرهما العشرات أو المئات، ولكن لا شيء يحصل بالصدفة، ويتكرر بالصدفة.
تخوين وتكفير وشيطنة كل من لا يشبه "الجماعة" وداعميها ومموليها وسردية إعلامها في كل مكان وكل قضية عرضة لمحاولات "الاغتيال المعنوي"
وإن سألنا: هل يدرك من يقوم بشيطنتهم التأثير السلبي الذي سيتركه الأمر عند الرأي العام، وخصوصا الرأي العام الغربي؟ ماذا ستظن صبية أميركية مثلا تعرفت على فلسطين من خلال كاميرا معتز، عندما ترى أن بعضا ممن نقل معتز معاناتهم يرونه "خائنا"، لأنه مؤيد للسلطة وليس لـ"حماس"؟
الأمر ليس محصورا بمعارضي "حماس"، وليس محصورا بفلسطين، حملات تخوين وتكفير وشيطنة كل من لا يشبه "الجماعة" وداعميها ومموليها وسردية إعلامها في كل مكان وكل قضية عرضة لمحاولات "الاغتيال المعنوي"، وللأسف فقد نجحوا في أماكن كثيرة، حتى كادت تختفي الشخصيات الوطنية والأصوات الوطنية وتعتزل الشأن العام لصالح "الجماعة"، لتهيمن على قرار السلم كما هيمنت على قرار الحرب، وليكون مصير الوطن دوما بيد تجار القضية.