قانون "تجريم الاستعمار" في الجزائر.. هل سيرى النور أخيرا؟

لا يمكن تحقيق مقاربة دبلوماسية شاملة دون مساءلة الظاهرة الاستعمارية

أ.ف.ب
أ.ف.ب
جنود فرنسيون يحرسون مخارج حي القصبة في الجزائر، في 29 مايو 1956، خلال عملية أمنية ضد الحركة الوطنية الجزائرية، شارك فيها 6000 جندي و1500 شرطي ودركي وضابط استخبارات

قانون "تجريم الاستعمار" في الجزائر.. هل سيرى النور أخيرا؟

في خطوة لافتة وفي خضم التصعيد السياسي والدبلوماسي والإعلامي بين الجزائر وفرنسا، أقدم المجلس الشعبي الوطني (الغرفة الأولى للبرلمان الجزائري) على تشكيل لجنة برلمانية خاصة مكونة من جميع التكتلات والتيارات السياسية الممثلة في البرلمان (موالاة ومعارضة) للشروع "فورا" في صياغة مشروع قانون لـ"تجريم الاستعمار الفرنسي" الذي بقي حبيس الأدراج لأكثر من عقدين كاملين من الزمن، وهو ما يثير تساؤلات حول دوافعه الحقيقية ودلالات إقراره في هذا التوقيت. والسؤال المهم الذي يطرح نفسه: ما أبعاد المشروع وتداعياته وكيف يمكن أن تستغل الجزائر المشروع لصالحها في المستقبل لا سيما في ذروة الأزمة الحالية؟

تضم اللجنة سبعة أعضاء، يمثلون مختلف المجموعات البرلمانية: حزب "جبهة التحرير الوطني"، و"حركة مجتمع السلم" (أكبر حزب إسلامي في البلاد)، و"التجمع الوطني الديمقراطي"، و"حركة البناء الوطني"، و"جبهة المستقبل"، إضافة إلى النواب المستقلين (الأحرار) وتكتل غير المنتمين.

ومن السمات التي أجمع عليها الدارسون حول تركيبة اللجنة هي تحقيق إجماع بين كل التيارات السياسية وهو الشرط الذي لم يكن متوفرا سابقا إذ واجهت المبادرات السابقة عراقيل وعقبات كثيرة، منها عدم الرغبة في الإضرار بالعلاقات الثنائية بين البلدين، غير أنه ظل يستعمل كورقة ضغط بين الحين والآخر في ظل غياب إرادة حقيقية.

وعرضت سابقا خمس مبادرات تشريعية متعلقة بتجريم الاستعمار الفرنسي خلال 9 فترات تشريعية ممتدة من 1997 إلى 2025، ففي العهدة التشريعية الرابعة 1997–2002 تم اقتراح قانون يتعلق بإدانة جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر بين 1830-1962 من طرف النائب محمد أرزقي فراد النائب عن "جبهة القوى الاشتراكية" (حزب سياسي جزائري معارض)، وخلال العهدة التشريعية الخامسة تم إيداع اقتراح قانون من طرف عبد السلام كسال النائب عن "حركة الإصلاح الوطني" يوم 14 ديسمبر/كانون الأول 2005، وخلال العهدة التشريعية السادسة (2007-2012) تم اقتراح قانون من طرف النائب موسى العبدي للرد على القانون رقم 158-2005 بتاريخ 23 فبراير/شباط 2005 وتم إيداعه في 13 يناير/كانون الثاني 2010، وخلال العهدة التشريعية الثامنة تم اقتراح قانون من طرف النائب كمال بلعربي عن حزب "جبهة التحرير الوطني" يوم 28 يناير 2010، وخلال العهدة التشريعية التاسعة تم اقتراح قانون من طرف النائب بلخير زكرياء عن "حركة مجتمع السلم" بتاريخ 31 أكتوبر/تشرين الأول 2021.

لا يمكن تحقيق مقاربة دبلوماسية شاملة دون مساءلة الظاهرة الاستعمارية ومن هنا فقانون تجريم الاستعمار الفرنسي لا نحسبه مجرد رد فعل أو آلية ظرفية لإدارة أزمة، بل مشروع دولة

واللافت أيضا هذه المرة أن الموضوع استأثر باهتمام كبير على مستوى القارة الأفريقية التي عانت من الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبها الجيش الفرنسي لتعتمد الدورة العادية الثامنة والثلاثون لمؤتمر رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأفريقي تصنيف الاسترقاق والترحيل والاستعمار كجرائم ضد الإنسانية وكجرائم إبادة جماعية ارتكبت في حق الشعوب الأفريقية، ولذلك فالمبادرة تبدو موجهة إلى المجتمع الأفريقي والدولي في صيغة رسائل تبرز بوضوح استعداد الجزائر لمقاضاة فرنسا بالرجوع إلى القانون الدولي الجنائي.

وعقدت اللجنة البرلمانية أول اجتماع عملي لها منذ أسبوعين طرح فيه خارطة الطريق التي ستمكنها من صياغة القانون وتقديمه إلى الحكومة، وتم الاتفاق مبدئيا على المؤسسات والشخصيات التاريخية والخبراء والحقوقيين المهتمين بمسائل الذاكرة والجرائم المقترفة في حق الجزائر خلال الحقبة التاريخية المعنية 1830-1962 الذين يمكن التعاون معهم.

أ.ف.ب
جنود ورجال شرطة فرنسيون يسيطرون على أحد مداخل القصبة، ساحة الحكومة في الجزائر العاصمة، خلال معركة الجزائر، في 2 فبراير 1957

 

مبدأ عدم تقادم جرائم الحرب

تأتي هذه الخطوة النيابية والسياسية التي بقيت محل ترقب سياسي وشعبي منذ عقود طويلة من الزمن في لحظة سياسية دقيقة بالنظر إلى الأزمة السياسية الحادة القائمة بين البلدين منذ ثمانية أشهر لكن ترفض الجزائر رفضا قاطعا أن يتم الترويج لهذه المبادرة كورقة ضغط ومساومة لأن ملف الذاكرة بالنسبة لها لا يتآكل بالتقادم أو التناسي ولا يقبل التنازل والمساومة.

وفي هذا الصدد يقول البروفيسور نور الصباح عكنوش، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة بسكرة في حديث لـ"المجلة" إن "تحليل الموضوع اليوم مرتبط بالسياق العام للعلاقات الجزائرية-الفرنسية والتي يؤثر فيها المعطى التاريخي بشكل مركزي. وعليه لا يمكن تحقيق مقاربة دبلوماسية شاملة دون مساءلة الظاهرة الاستعمارية ومن هنا فقانون تجريم الاستعمار الفرنسي لا نحسبه مجرد رد فعل أو آلية ظرفية لإدارة أزمة بل مشروع دولة في إطار موضوع الذاكرة والذي تبني عليه الجزائر رؤيتها لمستقبل العلاقات مع فرنسا بكل موضوعية نحو إنتاج بيئة حاضنة لاستقرار مستدام للعلاقات بين البلدين".

يجمع محللون جزائريون على أن أبعاد المبادرة التشريعية الجديدة وغاياتها من الناحية القانونية،لا تنحصر فقط عند المعالجة التاريخية للحقبة الاستعمارية التي بدأت في 1830

وستكون للمشروع آثار جيوسياسية بعيدة المدى على الصعيد المحلي، يذكر من بينها المحلل السياسي أحسن خلاص إدانة الإشادة بالاستعمار ومحو كل مخلفاته في المدارس والمؤسسات خاصة اللغة الفرنسية وهو نفس ما ورد في مسودة قانون تجريم الاستعمار المقدمة من طرف البرلمان الجزائري في أكتوبر 2021، إذ تنص على السجن من ستة أشهر إلى سنتين وبغرامة مالية بحق كل جزائري يقوم بتمجيد الاستعمار الفرنسي الغاشم للجزائر بأي وسيلة من وسائل التعبير وفي حالة العود تضاعف العقوبات المنصوص عليها في هذا القانون.

وعن فرص إصداره، مقارنة بالمرات السابقة، يستبعد المتحدث "سحب المشروع ولو أن صياغته مرتبطة ارتباطا وثيقا بما سيفضي له الاجتماع السادس للجنة الجزائرية الفرنسية للذاكرة، ودون شك سيكون الاجتماع هو المرجع الذي ستستند عليه لجنة صياغة القانون".

أ.ف.ب
مدينة الجزائر، في أكتوبر 1945

وتقرر على أثر الاتصال الهاتفي الأخير الذي جرى بين الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون عقد الجولة السادسة للجنة الجزائرية الفرنسية للذاكرة والتي سيتم من خلالها مناقشة ما تم التفاهم عليه في الاجتماع الخامس للجنة بخصوص إعادة الأرشيف والممتلكات التي تم نهبها من الجزائر خلال حقبة الاستعمار الفرنسي كاسترجاع أكثر من مليوني وثيقة من الأرشيف ومقتنيات تاريخية أخرى تتعلق بفترة ما قبل الغزو الفرنسي والأرشيف الورقي والممتلكات التي تحمل رمزية خاصة لدى الجزائريين بما في ذلك مقتنيات الداي.

الأبعاد القانونية

وعن أبعاد المبادرة التشريعية الجديدة وغاياتها من الناحية القانونية،يجمع محللون جزائريون على أنها لا تنحصر فقط عند المعالجة التاريخية للحقبة الاستعمارية التي بدأت منذ 14 يونيو 1830 إلى غاية استرجاع السيادة الوطنية بل تتعداها إلى إمكانية رفع دعاوى قضائية أمام المحاكم الدولية المختصة في حالة تماطل السلطات الفرنسية في تسليم المتهمين أو أدلة الإدانة أو الوثائق بما يعرقل عمل محكمة العدالة الجنائية لا سيما وأن جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر لا تخضع إطلاقا لمبدأ التقادم ولا إلى قوانين العفو وفقا لما تقتضيه مبادئ القانون الدولي الإنساني، حسبما ورد في نص القانون لصاحبه النائب زكريا بلخير عن "كتلة حركة مجتمع السلم"، وهو ما يؤكده أيضا الدكتور قاري علي، أستاذ القانون الدولي العام بجامعة سكيكدة لـ"المجلة"، حيث يقول إن "التكييف القانوني لجرائم المحتل الفرنسي أنها بمثابة جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وهذا استنادا لاتفاقية الأمم المتحدة المؤرخة في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 1968 والتي جاءت تحت اسم اتفاقية (عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية)، كما أن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998 وفرنسا تعتبر من بين الدول المصادقة عليه قد نص في المادة الخامسة منه على أن: جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجريمة العدوان لا تخضع لأي تقادم".

سيمنح للمحاكم الجزائرية صلاحية النظر في الدعاوى القضائية التي سترفع ضد الدولة الفرنسية من طرف أي فرد تضرر من جرائمها التي ارتكبتها ابان احتلال الجزائر بغرض تعويضه تعويضا عادلا

والمؤكد اليوم، حسب المتحدث أن "الدولة الفرنسية تتحمل المسؤولية القانونية عن كل ما ارتكبته في الجزائر سابقا وتصريح الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون بأن جيله لا يتحمل المسؤولية هو أمر غير مقبول قانونا لأن الدولة كشخصية معنوية تبقى مستمرة وتتحمل المسؤولية الكاملة عن أفعالها حتى في حالة تغير رؤسائها ومسؤوليها".

ويرى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى أنه ينتمي إلى جيل جديد من الفرنسيين الذين لم يتورطوا بشكل مباشر في جرائم الاستعمار الفرنسي وأن هناك في باريس اليوم جيل جديد من الفرنسيين يريدون النظر إلى المستقبل، بينهم الفرنسيون من أصول جزائرية والذين يحاولون الاندماج في المجتمع الفرنسي بعيدا عن ملف الذاكرة الملغمة.

وبخصوص سؤال عن التداعيات القانونية لهذا القانون، يقول المتحدث إنه "سيمنح للمحاكم الجزائرية صلاحية النظر في الدعاوى القضائية التي سترفع ضد الدولة الفرنسية من طرف أي فرد تضرر من جرائمها التي ارتكبتها ابان احتلال الجزائر بغرض تعويضه تعويضا عادلا، وهو نفس المقترح الذي جاءت به مسودة القانون السالف الذكر، إذ ينص على استحداث محكمة جنائية خاصة تختص بمحاكمة كل شخص ارتكب أو ساهم في ارتكاب أية جريمة من الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون تدعى في صلب النص "محكمة العدل الجنائية" يؤطرها قانون خاص تكون الجزائر العاصمة مقرا لها.

أ.ف.ب
خلال احتفال حاشد للجزائريين باستقلال الجزائر رافعين الأعلام الجزائرية في 2 يوليو 1962 في الحي الأوروبي بالجزائر العاصمة.

وبخصوص مسألة التعويض وجبر الأضرار عن الجرائم المستمرة تلزم المادة 36 السلطات الفرنسية بتسليم كل الأرشيف المتعلق بالجرائم النووية والكشف عن أماكن النفايات النووية، كما تلزم المادة 37 السلطات الفرنسية بإصلاح الأضرار البيئية والصحية التي خلفتها تجاربها وتفجيراتها النووية في الصحراء الجزائرية مع التعويض وجبر أضرار الإشعاعات النووية في الصحراء الجزائرية وإرجاع الحال إلى ما كانت عليه، فحقوق الشعب الجزائري لا تتقادم وغير قابلة للتنازل.

وتفسح المادة 38 من المشروع المجال أمام الدولة الجزائرية والجمعيات ومنظمات المجتمع المدني المعنية بحقوق الإنسان وضحايا التجارب والتفجيرات النووية الفرنسية أو ضحايا الإشعاعات النووية في الصحراء الجزائرية، رفع دعاوى التعويض أمام الجهات القضائية.

أما المادة 39 فتلزم السلطات الفرنسية بتقديم خرائط الألغام المزروعة عبر خطي شال وموريس تحت طائلة المساءلة والمتابعة الجنائية الدولية.

font change