انقلاب في إسرائيل... نتنياهو يطيح بدولة بن غوريون

نجح نتنياهو في تغيير إسرائيل داخليا بحيث تصبح أكثر يمينية وأكثر تقليدية

B.t.f
B.t.f
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو

انقلاب في إسرائيل... نتنياهو يطيح بدولة بن غوريون

حيفا- خلال الأسبوعين الماضيين وصل انقلاب بنيامين نتنياهو ضد دولة دافيد بن غوريون إلى أوجّه، الدولة العبرية التي أسسها بن غوريون وقام بوضع أسس نظامها السياسي والثقافي والاجتماعي تغيرت كثيرا خلال السنوات، لكنها لم تشهد مرة واحدة مثلما يجري خلال الأيام الأخيرة.

صحيح أن مشروع نتنياهو لتغيير إسرائيل بدأ قبل عقدين ونيف، وتطور ليصبح نهجا منظما ومستمرا منذ عودة نتنياهو لرئاسة الوزراء عام 2009، إلا أن هذه المرة تختلف، تختلف لأن نتنياهو، ومن معه، يصل إلى الذروة، إلى قطع نهائي لخيوط الدولة التي أسسها بن غوريون، ولنظامها السياسي والاجتماعي والثقافي. في السنوات الماضية قام نتنياهو بجهد ناجح لتغيير إسرائيل، فقام بتغيير الثقافة السياسية والسيطرة على الإعلام وتوزيع الموارد وتغيير المناهج التعليمية وإغلاق الطريق نحو إقامة دولة فلسطينية وتسوية مع العالم العربي وعشرات التغييرات الأخرى، إلا أنه لم يصل إلى اللب، إلى العمق الذي سيكون منفذه الأخير للنجاة من إمكان استمرار اتهامه بالفساد أمام المحاكم الإسرائيلية، وإمكانية إقامة لجنة تحقيق رسمية تحقق في دوره في ما سمي إسرائيليا "إخفاق السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023"، وبعدها سيتحكم عمليا في السياسة الإسرائيلية بحيث يضمن استمرار حكمه، إن كان من خلال ترتيبات ومبادرات تؤجل الانتخابات القادمة، أو على الأقل من خلال توفير آليات سياسية وبيروقراطية تمكنه من الاستمرار بالتحكم في اليمين وفي الأحزاب الدينية بشكل متفرد، أو من خلال إجراءات قد تمنع من بعض الأحزاب اليسارية، والعربية بالأساس، من خوض الانتخابات المقبلة، وبالتالي إضعاف فرص المعارضة في تغييره والوصول إلى حكومة بديلة.

فبعد أشهر من الضعف والوهن والشعور العام بأن نتنياهو قد أنهى حكمه وأنه في طريقه إلى الخروج من الحلبة السياسية وربما الدخول للسجن بتهم الفساد، وربما الإخفاق في التعامل مع التحديات، عاد نتنياهو وتدريجيا ليكسب شرعية شعبية تجلت في تحسن ملحوظ لمكانته ومكانة حزبه، الليكود، في استطلاعات الرأي التي تجري تباعا في إسرائيل، والمعارضة التي كادت تنقض عليه في بداية الحرب على غزة، أصبحت ضعيفة ومجزأة، وغير قادرة على عرض نفسها كجديرة بقيادة الدولة، بدلا عن نتنياهو وحكومته. وقد وصل نتنياهو إلى ذلك بفضل مناورات داخلية، وضعف فلسطيني وعربي، كما بفضل تأييد أعمى وكامل من قبل الرئيس الأميركي دونالد ترمب.

بعد عدة محاولات وجهود فاشلة، نجح نتنياهو في إقالة وزير الأمن يوآف غالانت، وتحييده نهائيا، وخصوصا بعد أن قدم غالانت استقالته من عضوية الكنيست

هذه التغييرات أعطته دفعة قوية ليعاود نشاطاته أو سياسته التي يتعمد من خلالها تنفيذ أجندته الأيديولوجية والسياسية في السيطرة على ما يعتبره "أرض إسرائيل" ومنع قيام دولة فلسطينية وحرمان الفلسطينيين من حق تقرير المصير، كما في تغيير إسرائيل داخليا بحيث تصبح أكثر يمينية وأكثر تقليدية وأكثر تدينا في الحيز العام، بما يشمل تغيير مراكز القوة التي تحكم بها الغربيون والأشكناز التابعون لجيل المؤسسين من داعمي أحزاب السلطة آنذاك، "المباي" و"المبام" وحلفائهما، وطبعا بما يشمل المكاسب الشخصية للبقاء في السلطة وتجنب المحاكمة وتهمة الفساد في إدارة أمور الدولة.

أ ف ب
نتنياهو لدى وصوله الى ممر نتساريم في وسط قطاع غزة في 19 نوفمبر، 2024

فماذا فعل بالضبط نتنياهو خلال الشهر الأخير أو قبله بقليل؟ أولا، تغيير قيادة الجيش، بحيث أصبحت قيادته مسؤولة أمام نتنياهو حصرا وتتبع أهوائه ورغباته، ولا تستطيع معارضة أجنداته الحربية، حتى لو كانت تعرف مسبقا أن ما يحدده نتنياهو كأهداف هي أمور مستحيلة أو على الأقل من الصعب جدا إنجازها. خلال الأسبوع الأول من نوفمبر/تشرين الثاني الفائت (2024). وبعد عدة محاولات وجهود فاشلة، نجح نتنياهو في إقالة وزير الأمن يوآف غالانت، وتحييده نهائيا، وخصوصا بعد أن قدم غالانت استقالته من عضوية الكنيست، بعد إقالته من الوزارة ومن الحكومة، وبالتالي قام بإزاحة أهم معارضيه من داخل الحكومة ومن عضوية الكنيست كممثل عن حزب "الليكود".

وبعد ثلاثة أشهر على تلك الواقعة قام نتنياهو بقبول استقالة قائد الجيش، هرتسي هاليفي، الذي أبدى استقلالية نسبية عن نتنياهو وحساباته في مسألة الحرب ووقف النار، وأعلن مرارا أن الحرب أنجزت المهام المطلوبة، وعمليا لم يعد لها أي مبرر.

بعد تقلد زمير منصبه الجديد في 6 مارس 2025، أعلن نتنياهو فورا تغييرات جدية في قيادة الجيش والعودة إلى الحرب في غزة واستعداد الجيش لاحتلال دائم هناك، وكل هذا تماشيا مع رؤية نتنياهو ورغباته

وفي مناسبات أخرى أعلن دعمة لإقامة لجنة تحقيق رسمية لمعرفة العوامل التي أدت للوصول إلى السابع من أكتوبر 2023، وبعد أن أشار إلى تحمله المسؤولية شخصيا، أشار ضمنيا إلى مسؤولية الحكومة والطبقة السياسية ونتنياهو أولهم. بعدما قدم هاليفي استقالته، في 21 يناير/كانون الثاني 2025، قام نتنياهو ووزير أمنه الجديد، يسرائيل كاتس، باختيار الجنرال إيل زمير مدير عام وزارة الأمن في إسرائيل، والمقرب من عائلة نتنياهو، كقائد جديد للجيش. وبعد تقلد زمير منصبه الجديد في 6 مارس/آذار 2025، أعلن فورا تغييرات جدية في قيادة الجيش والعودة إلى الحرب في غزة واستعداد الجيش لاحتلال دائم هناك، وكل هذا تماشيا مع رؤية نتنياهو ورغباته، وبما يتلاءم مع رؤيته الأيديولوجية والسياسية وأهدافه الشخصية في استمرار الحرب لإنقاذه من المحكمة ومن إمكانية إقامة لجنة تحقيق رسمية.

ثانيا، أقدم نتنياهو على إقالة رئيس جهاز الأمن العام (الشاباك) في إسرائيل، رونين بار، من منصبه. والمعروف أنه الجهاز الأكثر حيوية في حالة إسرائيل خلال الحرب وفي ظروف استمرار التوتر العالي والمواجهة مع الفلسطينيين، في غزة وفي الضفة، وحتى مع لبنان وعلى الجبهة السورية.

قام نتنياهو بذلك، لأنه اعتقد أن جهاز الأمن العام أجرى تحقيقا داخليا حول الحرب، وبالإضافة لتحمل رئيسه بار مسؤوليته بالنسبة للإخفاق في توقع هجوم "حماس"، فإنه أبدى مرارا امتعاضه من طريقة نتنياهو في إدارة الحرب ومفاوضات وقف إطلاق النار مع "حماس"، واتهمه بأنه، ولأسباب نتنياهو الشخصية، فإنه فوّت فرصا لإعادة المخطوفين الإسرائيليين من غزة أحياء، ومن خلال صفقة تبادل مع "حماس".

وكان تحقيق "الشاباك" قد أشار إلى ضرورة إقامة لجنة تحقيق رسمية، بما يشمل فحصا لدور نتنياهو شخصيا، والذي يتهم إجمالا بكونه تعاونا مع قطر لتقوية "حماس" وتعميق الشقاق الفلسطيني، وبالتالي مكن قطر من دعم "حماس" وجعلها قادرة على تنفيذ هجوم السابع من أكتوبر 2023 على محيط غزة وأسر مئات الإسرائيليين.

على خلفية هذه التطورات، أقدم نتنياهو على الإعلان عن قراره بإقالة بار، في 17 مارس 2024، وذلك بعدما أقاله قبل ذلك بأسابيع من عضوية اللجنة التي تدير المفاوضات مقابل وفد "حماس" في الدوحة. وأدى قرار نتنياهو، ومن بعده تأكيد الحكومة بقرار واضح دعمها لقرار نتنياهو، إلى خروج آلاف الإسرائيليين للشوارع احتجاجا على قرار نتنياهو، وكثرت التحليلات القانونية والإعلامية والتي تفيد في غالبيتها أن نتنياهو لا يستطيع إقالة بار، لكونه رئيس "الشاباك" وهي وظيفة رسمية وليست وظيفة تابعة من حيث الثقة المباشرة برئيس الحكومة.

وقد توجهت جهات شعبية وقانونية وحتى شخصيات اعتبارية للمحكمة العليا التي قامت بتجميد قرار نتنياهو، برغم سماحها له بإجراء مقابلات مع مرشحين لتبوؤ منصب رئيس "الشاباك" بعد بار. حتى كتابة هذه السطور لا زالت شرائح واسعة في إسرائيل تقوم بعمليات احتجاج متواصلة ضد نتنياهو وقراره بإقالة بار.

تغييرات كثيرة جرت خلال السنوات في نظام الحكم، وقد كانت كلها تغييرات تدريجية، إلا أن نتنياهو خطط ونفذ انقلابا جذريا، انقلابا يغير إسرائيل داخليا بشكل جدي وغير مسبوق

ثالثا، وأهم خطوت نتنياهو وحكومته في مجال الإقالات، هو إقدام نتنياهو بعد عشرات المرات التي عبر بها عن رفضه لمواقف المستشارة القضائية غالي بهاراف ميارا، المعترضة على الكثير من قراراته ومواقفه، بإعطاء الضوء الأخضر لحكومته بالإقدام على طرد بهاراف ميارا من منصبها. نتنياهو الذي لا يستطيع العمل مباشرة على إقالة المستشارة القضائية لأسباب قانونية تتعلق بتعارض ذلك مع كون المستشارة القضائية مشرفة بصفتها رئيسة الادعاء العام على محكمة نتنياهو بقضايا الرشوة، قام بتوكيل وزير القضاء ياريف لافين بإدارة جلسة إقالة بهاراف ميارا. وقد عقدت الحكومة جلستها الأحد 23 مارس 2025 وأعلنت سحب الثقة من المستشارة القضائية، وبالتالي فصلها من منصبها، والبدء في إجراءات تغييرها. وهذا طبعا أشعل مظاهرات احتجاجية أكبر وأكثر قوة مما سبق، وترافقت مع تحضيرات للتوجه للمحكمة العليا لمنع الحكومة من الاستمرار في إجراءات الإقالة.

رابعا، واستمرارا للانقلاب القضائي الذي أعلن عنه وزير القضاء ياريف لافين بداية 2023، أقرت الحكومة خطة تغيير اللجنة المعنية بتعيين القضاة في إسرائيل، بحيث تصبح حسب القرار أكثر تسييسا وأقل موضوعية ومهنية، وتعطي الائتلاف الحكومي والوزارة قوة أكثر في تعيين القضاة، بما في ذلك قضاة المحكمة العليا، أي الوصول تدريجيا إلى السيطرة الكاملة على الجهاز القضائي، والتحكم نهائيا في المحكمة العليا، التي تعتبر من قبل حكومة نتنياهو، كعدوة ومعيق مركزي لإنقاذ سياساتها. وعمليا، مع تغيير المستشار القضائي، يصبح الجهاز القضائي بيد نتنياهو تحت سيطرة حكومته.

أ.ب
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في الوسط، يرتدي سترة واقية وخوذة في شمال قطاع غزة، 25 ديسمبر 2023

التغييرات التي سبقت الانقلاب القضائي، تصبح الآن أكثر قوة وأكثر تأثيرا، وسيطرة نتنياهو وحكومته على الشرطة بقيادة الوزير المتطرف والعنصري بن غفير، والتحكم بقيادة الجيش وجهاز المخابرات، والتحكم بالجهاز القضائي، كلها تجعل من انقلاب النظام السياسي كاملا، بذلك يكون نتنياهو قد انقلب نهائيا على الدولة وجهازها كما أقامهم بن غوريون بعد 1948.

صحيح أن تغييرات كثيرة جرت خلال السنوات في نظام الحكم، وقد كانت كلها تغييرات تدريجية، إلا أن نتنياهو خطط ونفذ انقلابا جذريا، انقلابا يغير إسرائيل داخليا بشكل جدي وغير مسبوق، ويقلب معادلة العلاقة مع الفلسطينيين نهائيا، من مجرد التفكير في إمكانية الحل السياسي ولو كان جزئيا، إلى الإعلان رسميا عن إقامة الآبرتهايد في فلسطين، وربما البدء في إجراءات جدية لطرد من تبقى في فلسطين من أهلها. تهديدات وتحديات تتطلب تفكيرا عربيا وفلسطينيا جديا وسريعا، فيما يمكن فعله، في ظرف تبدو فيه الأوضاع غير قابلة للتغيير، فهل نستفيق؟

font change