تغلل التكنولوجيا يعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والذكاء الاصطناعي

تساؤلات جوهرية...

Nicola Ferrarese
Nicola Ferrarese
في مفترق الطرق الذي نقف عليه اليوم، تتشابك الأسئلة الوجودية مع الأسئلة التكنولوجية،

تغلل التكنولوجيا يعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والذكاء الاصطناعي

في عصر تتسارع فيه وتيرة التطور التكنولوجي، يبرز الذكاء الاصطناعي كقوة دافعة تعيد تشكيل ملامح حياتنا اليومية. لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد مفهوم نظري، بل أصبح واقعا ملموسا يتغلغل في مختلف جوانب حياتنا، من الهواتف الذكية إلى السيارات الذاتية القيادة، ومن الرعاية الصحية إلى التعليم. هذا التغلغل المتزايد للذكاء الاصطناعي يطرح تساؤلات جوهرية حول طبيعة العلاقة بين الإنسان والآلة.

واليوم، يشهد العالم ثورة في الذكاء الاصطناعي التوليدي، حيث ظهرت نماذج متقدمة مختلفة تستخدم أنواعا مختلفة من البيانات القادرة على إنشاء محتوى متنوع، مما جعل الذكاء الاصطناعي جزءا أساسيا في البحث العلمي، وتطوير الأدوية، وتحليل البيانات. ورغم هذه الإنجازات، والتحديات التي تتعلق بأخلاقياته، تظل التساؤلات مطروحة حول مستقبله وحدود قدراته، مقارنة بالذكاء البشري.

ففي مفترق الطرق الذي نقف عليه اليوم، تتشابك الأسئلة الوجودية مع الأسئلة التكنولوجية، لتعيد طرح أقدم سؤال عرفته الفلسفة: ما معنى أن نكون بشرا؟ فبينما تتقدم خوارزميات الذكاء الاصطناعي بخطى حثيثة، وتُظهر قدرة مذهلة على التعلم والمحاكاة، تلوح في الأفق معضلة جوهرية: هل نعيش فجر عصر جديد من التعاون بين العقل البشري والعقل الاصطناعي، أم أننا نشهد بداية صراع وجودي يعيد تعريف الأدوار، والقيم، وربما حتى الحياة نفسها؟

الذكاء الاصطناعي، في جوهره، هو انعكاس لعقلنا نحن، مطوي في رموز، ومبرمج بلغة نكتبها نحن، لكنه يحمل في داخله احتمالا أن ينمو خارج حدودنا. فهل سننظر إليه كامتداد طبيعي لقدراتنا، يعيننا على تجاوز عجزنا البيولوجي ومحدودية وعينا؟ أم سنخشاه كقوة ناشئة، تهدد بزعزعة توازننا النفسي، والاجتماعي، والاقتصادي؟

Getty Image
مدرسة أثينا.. تفاصيل جدارية رسمها رافائيل للبابا يوليوس الثالث

ربما لم يعد السؤال الأهم هو ماذا تستطيع الآلة أن تفعل، بل ماذا يتبقى للإنسان أن يكون؟ في زمن يعيد تشكيل العلاقة بين الفاعل والأداة، بين الخالق والمصنّع، تفرض الفلسفة وجودها كضرورة، لتعيد طرح الأسئلة الكبرى، لا لتمنح إجابات يقينية، بل لتوقظ وعينا في زمن تتقاطع فيه الأسطورة مع الواقع، ويغدو المستقبل ساحة تأمل لاختياراتنا الأخلاقية والوجودية معا.

بدايات الذكاء الاصطناعي

بدأت فكرة الذكاء الاصطناعي من تساؤلات فلسفية قديمة حول طبيعة العقل والإدراك، حيث تساءل الفلاسفة اليونانيون، مثل أرسطو وأفلاطون، عن إمكان أن يكون التفكير عملية منطقية يمكن تمثيلها وتكرارها. ومع تطور العلوم والفلسفة، أصبح مفهوم التفكير المنطقي أكثر تعقيدا، وظهرت تساؤلات جوهرية حول إمكان تمثيل عمليات التفكير البشري باستخدام نماذج رياضية وميكانيكية آلية.

تعتبر الشبكات العصبية الاصطناعية التي طورها جيفري هينتون الملقب بـ"أبي الشبكات العصبية" حجر الأساس للتعلم العميق الذي يستخدم في التعرف الى الصور، ومعالجة اللغات الطبيعية، والمركبات الذاتية القيادة.

ولا يمكن إهمال الابتكارات المبكرة القادمة من الشرق، حيث يُعد بديع الزمان الجزري من رواد الهندسة الميكانيكية في القرن الحادي عشر، فهو أسس مبادئ الأتمتة والروبوتات الحديثة من خلال اختراعاته الميكانيكية المتقدمة، وابتكر الروبوتات الخادمة، والساعات المائية، والآلات الموسيقية الذاتية التشغيل، مستخدما أنظمة هيدروليكية معقدة، مما جعل تصاميمه تمثل أساسا لنظم التحكم الذاتي الحديثة. أثرت ابتكاراته في تطور علم الميكاترونيكس؛ وألهمت لاحقا مجالات الروبوتات الصناعية والذكاء الاصطناعي، مما يجعل إرثه العلمي حاضرا حتى اليوم في تقنيات الأتمتة الحديثة.

في القرن السابع عشر، طرح الفيلسوف الفرنسي رينه ديكارت مفهوم الآلات المفكرة، مؤكدا أن التفكير يمكن تحليله إلى عمليات ميكانيكية. أما الفيلسوف وعالم الرياضيات غوتفريد لايبنتز فقد اقترح إمكان بناء "آلة حسابية" قادرة على حل المشكلات المنطقية تماما مثل الإنسان.

في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بدأ العلماء في تطوير الأسس الرياضية والمنطقية التي شكلت النواة للذكاء الاصطناعي الحديث: جورج بول قدم الجبر البولياني، الذي مهد لفكرة التمثيل المنطقي للعمليات الذهنية. كورت غودل وضع نظريات حول الأنظمة الشكلية والبرهان الرياضي، التي ساهمت في فهم حدود الحساب والذكاء الاصطناعي. أما آلان تورينغ، أحد أهم الشخصيات في الذكاء الاصطناعي، فقدم مفهوم آلة تورينغ، وهي نموذج رياضي للحوسبة، وطرح في عام 1950 اختبار تورينغ لقياس قدرة الآلات على التفكير مثل البشر.

ولادة الذكاء الاصطناعي كمجال علمي

في عام 1956، انعقد مؤتمر دارتموث بقيادة جون مكارثي ومارفن مينسكي وكلود شانون، حيث ظهر مصطلح "الذكاء الاصطناعي" رسميا. وكان الهدف هو إنشاء آلات قادرة على تقليد الذكاء البشري وحل المشكلات المعقدة.

ثم شهد الذكاء الاصطناعي بعد ذلك تطورا هائلا، بدءا من الأنظمة الخبيرة في السبعينات والثمانينات، التي اعتمدت على القواعد المعرفية لحل المشكلات، مرورا بصعود التعلم الآلي في التسعينات، حيث تمكن الحاسوب "ديب بلو" من هزيمة بطل العالم في الشطرنج.

AP‬
بطل الشطرنج غاري كاسباروف، على اليسار، يتأمل حركته التالية ضد حاسوب الشطرنج ديب بلو من آي بي إم.

مع الألفية الجديدة، أدى توسع البيانات الضخمة إلى تحسين محركات البحث والتوصيات، بينما أحدث التعلم العميق  في العقد الماضي نقلة نوعية في التعرف الى الصور والصوت، مما ساهم في تطوير المساعدات الذكية والمركبات الذاتية القيادة.

يقوم الذكاء الاصطناعي على مجموعة من المبادئ الأساسية التي توجه تطوره، فهو يعتمد على تمثيل المعرفة بطريقة تسمح للحواسيب بفهمها ومعالجتها، وذلك من خلال استخدام القواعد المنطقية، والشبكات الدلالية، والأنطولوجيا (Ontologies) التي تنظم المعلومات بطريقة يمكن الحاسب استخدامها لاتخاذ القرارات. كما يركز الذكاء الاصطناعي الحديث على التعلم من البيانات، بدلا من البرمجة المباشرة، ويتم ذلك من خلال خوارزميات التعلم الآلي  التي تشمل التعلم الخاضع للإشراف، والتعلم غير الخاضع للإشراف، والتعلم المعزز.

لا ينبغي النظر إلى الذكاء الاصطناعي على أنه منافس مباشر للقدرات البشرية، بل يجب فهمه كأداة قوية تعزز إمكانات الإنسان وتساعده في أداء مهامه بكفاءة أكبر.

ثم ظهر إمكان تعلم الشبكات العصبية العميقة للمفاهيم المعقدة من بيانات غير مصنفة، يعتمد فيها الذكاء الاصطناعي على منهجين رئيسين، هما المقاربة القائمة على القواعد والمنطق، والمقاربة الإحصائية التي تعتمد على تحليل البيانات وتحديد الاحتمالات. وتعتبر الشبكات العصبية الاصطناعية التي طورها جيفري هينتون الملقب بـ"أبي الشبكات العصبية" حجر الأساس للتعلم العميق الذي يستخدم في التعرف الى الصور، ومعالجة اللغات الطبيعية، والمركبات الذاتية القيادة.

مع كل ما تقدم، يجب أن نفهم أن الذكاء الاصطناعي يهدف إلى تحسين العلاقة بين الإنسان والآلة، من خلال تطوير المساعدات الذكية، وواجهات الدماغ-الآلة (الحاسوب) والروبوتات الذكية.

لا ينافس البشر

لا ينبغي النظر إلى الذكاء الاصطناعي على أنه منافس مباشر للقدرات البشرية، بل يجب فهمه كأداة قوية تعزز إمكانات الإنسان وتساعده في أداء مهامه بكفاءة أكبر. الذكاء الاصطناعي لا يمتلك القدرة على التفكير الإبداعي، ولا يمكنه اتخاذ قرارات مبنية على الأخلاق أو المشاعر البشرية، مما يجعل التكامل بين الإنسان والآلة ضرورة بدلا من المنافسة أو الاستبدال.

يجب أن نفهم أن التطور الملحوظ في الذكاء الاصطناعي يعود إلى تضافر مجموعة من العوامل، أبرزها وفرة البيانات الضخمة التي تغذي خوارزميات التعلم الآلي، والتقدم الهائل في قوة الحوسبة الذي يسمح بتشغيل هذه الخوارزميات بكفاءة عالية، بالإضافة إلى التطورات المستمرة في خوارزميات التعلم الآلي نفسها، وخاصة التعلم العميق، وزيادة الاستثمارات في هذا المجال، وانتشار الحوسبة السحابية التي تسهل الوصول إلى الموارد اللازمة، وأخيرا التطور في معالجة اللغة الطبيعية، وزيادة الوعي بأهمية الذكاء الاصطناعي في مختلف المجالات.

لا يمكن تجاهل التحديات الأخلاقية والاجتماعية التي سترافق هذا التطور. فالذكاء الاصطناعي يتغذى على البيانات، وغالبا ما تكون هذه البيانات شخصية أو حساسة.

في بيئات العمل، أصبح الذكاء الاصطناعي شريكا أساسيا للبشر، حيث يسهم في تحليل كميات ضخمة من البيانات بسرعة فائقة، مما يساعد في اتخاذ قرارات أكثر دقة. في المجال الطبي، على سبيل المثل، يمكن الذكاء الاصطناعي تحليل صور الأشعة والكشف عن الأمراض، لكنه لا يستطيع الاستغناء عن الأطباء الذين يمتلكون الخبرة في التشخيص النهائي واتخاذ القرار العلاجي بناء على العوامل الإنسانية. كذلك، في قطاعات مثل التعليم والصناعة، يُستخدم الذكاء الاصطناعي لأتمتة المهام الروتينية، مما يتيح للإنسان التركيز على الجوانب الأكثر إبداعا واستراتيجية.

ولا يقتصر التكامل على بيئات العمل فقط، بل يمتد إلى مجالات الإبداع والابتكار. فعلى الرغم من قدرة الذكاء الاصطناعي على إنتاج محتوى فني أو أدبي، إلا أن الإبداع الحقيقي يظل نابعا من التجربة الإنسانية والقدرة على التفكير النقدي واستلهام الأفكار من الواقع. وهكذا، فإن الذكاء الاصطناعي يعمل كمساعد في العمليات الإبداعية، لكنه لا يمكنه استبدال الحس البشري الذي يضفي على الإبداع طابعه الفريد.

أما في عملية اتخاذ القرار، فيتم توظيف الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات والتنبؤ بالاتجاهات المستقبلية في مجالات مثل الاقتصاد والسياسة والأمن، لكنه لا يستطيع استيعاب التعقيدات الاجتماعية والثقافية كما يفعل الإنسان. فبينما يوفر الذكاء الاصطناعي رؤى مستندة إلى البيانات، يبقى القرار النهائي مسؤولية الإنسان، الذي يأخذ في الاعتبار العوامل الأخلاقية والعاطفية التي لا يستطيع الذكاء الاصطناعي فهمها أو تقييمها بشكل دقيق.

وبالرغم من أن الذكاء الاصطناعي يحمل إمكانات هائلة لتحسين حياة البشر، لكنه يأتي أيضا بأخطار جدية تتطلب استجابات مدروسة. ومن خلال تبني نهج يوازن بين الابتكار والمسؤولية الأخلاقية، يمكننا ضمان أن يكون الذكاء الاصطناعي قوة دافعة نحو مستقبل أكثر إنصافا وأمانا، بدلا من أن يكون مصدرا للتهديد وعدم الاستقرار.

Getty‬ ‭ Image
روبوت يعمل بالذكاء الاصطناعي في مؤتمر الذكاء الاصطناعي العالمي في شنغهاي، الصين

جهد آخر ينصب حاليًا في إغناء التكامل بين الذكاء الاصطناعي والإنسان، حيث ستتجه الأبحاث نحو تطوير تقنيات تعزز القدرات البشرية بدلاً من استبدالها. من المتوقع أن نشهد انتشار واجهات الدماغ-الآلة، التي تتيح للبشر التحكم في الأجهزة باستخدام عقولهم، بالإضافة إلى أنظمة ذكاء اصطناعي متقدمة تعمل على تحسين المهارات البشرية وتوسيع إمكانياتها.

ماذا بعد الذكاء الاصطناعي؟

مستقبل الذكاء الاصطناعي ليس مجرد امتداد لما نعرفه اليوم، بل هو قفزة نحو آفاق غير مسبوقة قد تعيد تشكيل مفهومنا عن الذكاء ذاته. في قلب هذا المستقبل، يبرز الطموح لتحقيق الذكاء الاصطناعي العام وهو نظام قادر على محاكاة الإدراك البشري والتفوق عليه في مختلف المجالات. وإذا تحقق ذلك، فإن الخطوة التالية قد تكون الوصول إلى الذكاء الفائق حيث تصبح الآلات أكثر قدرة من البشر في الإبداع واتخاذ القرارات والاستدلال المنطقي، مما قد يحدث تحولات جذرية في الاقتصاد والمجتمع وحتى في فهمنا للوجود الإنساني.

في موازاة ذلك، ستواصل تقنيات التعلم العميق والشبكات العصبية تطورها، مما يؤدي إلى أنظمة أكثر كفاءة وذكاءً. ستتغلغل تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مجالات مثل الرعاية الصحية، والتعليم، والنقل، والتصنيع، مما يسهم في تحسين جودة الحياة وزيادة الإنتاجية. ومع هذا التطور، سيصبح التعاون بين الإنسان والآلة أمرًا محوريًا، حيث سيتعلم البشر كيفية العمل جنبًا إلى جنب مع الذكاء الاصطناعي بدلاً من التنافس معه.

لكن المستقبل لا يتوقف عند حدود الذكاء الصناعي القائم بذاته، بل يمتد إلى مرحلة الاندماج بين الإنسان والآلة عبر تقنيات مثل واجهات الدماغ والحاسوب التي قد تجعل الذكاء الاصطناعي امتدادًا للوعي البشري نفسه، مما يفتح الباب أمام عصر "ما بعد الإنسان". وفي سياق آخر، قد يؤدي اقتران الذكاء الاصطناعي بالحوسبة الكمومية إلى تمكينه من حل مشكلات معقدة تفوق قدراتنا الحالية، مثل اكتشاف أدوية جديدة، وتحسين أنظمة التشفير، والنمذجة العلمية المتقدمة.

قد يتقن الذكاء الاصطناعي لعبة الشطرنج، ويؤلف مقطوعات موسيقية، ويرسم لوحات تبهر، لكنه لا يعاني من القلق الوجودي، ولا يخوض صراعات داخلية، ولا يخشى الموت أو الاندثار.

ومع ذلك، لا يمكن تجاهل التحديات الأخلاقية والاجتماعية التي سترافق هذا التطور. فالذكاء الاصطناعي يتغذى على البيانات، وغالبا ما تكون هذه البيانات شخصية أو حساسة. ما الذي يضمن أن استخدام هذه البيانات لن يتحول إلى شكل من أشكال الرقابة أو الاستغلال؟ وما الضمانات التي تحمي الأفراد من أن تُنتهك حياتهم الرقمية باسم "تحسين الخدمات"؟

إلى جانب ذلك، تُطرح مشكلة التحيز الخوارزمي، حيث تعكس النماذج الذكية – بوعي أو بدونه – التحيزات المجتمعية التي تتسرب من البيانات التي دُربت عليها. وهنا يصبح الخطر مضاعفا، إذ تتحول هذه الأنظمة إلى أدوات قد تكرّس التمييز بدلا من مكافحته، سواء في مجالات التوظيف أو العدالة أو الرعاية الصحية.

ولا يمكن إغفال الخوف المتنامي من فقدان الوظائف، مع حلول الآلات مكان البشر في قطاعات واسعة، من التصنيع إلى الصحافة، ومن المحاسبة إلى التعليم. ورغم أن الذكاء الاصطناعي قد يخلق وظائف جديدة، إلا أن سرعة التحول تفوق قدرة المجتمعات على التكيف، مما يهدد بظهور فجوات اقتصادية واجتماعية عميقة.

الأخطر من ذلك هو توظيف الذكاء الاصطناعي في تطبيقات قد تكون مدمرة، مثل الأسلحة الذاتية أو أدوات التجسس المتقدمة أو الأنظمة القادرة على اتخاذ قرارات مصيرية دون إشراف بشري مباشر. وهو ما يستدعي وجود أطر قانونية وتنظيمية قوية، تضمن الاستخدام المسؤول لهذه التكنولوجيا وتحمي البشرية من انزلاقاتها المحتملة.

على الصعيد الفلسفي، تظهر تساؤلات وجودية جديدة: هل يمكن الآلة أن تفهم المشاعر البشرية؟ بل أكثر من ذلك، هل يمكنها أن تشعر بها؟ إن الحديث عن الذكاء الوجداني الاصطناعي يفتح الباب أمام نقاشات عميقة حول طبيعة الوعي، والذات، والتعاطف. هل الوجدان مجرد تفاعلات كيميائية قابلة للبرمجة، أم أنه جوهر بشري لا يُستنسخ؟ وإن وصلت الآلة إلى محاكاة المشاعر، فهل تكون "حية" بالمعنى الفلسفي؟

في النهاية، ما بعد الذكاء الاصطناعي ليس مجرد مسألة تقنية، بل هو تحول جذري في طبيعة الوجود البشري. نحن أمام مستقبل يحمل فرصا هائلة، لكنه يفرض أيضا تحديات أخلاقية وفلسفية عميقة. السؤال الأهم لم يعد "ما القادم؟"، بل "كيف سنستعد له؟"

في مواجهة هذه الأسئلة العميقة، يبدو أن الإنسان لم يعد وحده في ساحة التعقل والفعل، بل بات يتقاسمها مع كيانات رقمية قادرة على التعلم، والتحليل، بل وأحيانا اتخاذ القرار.

Getty Images‬
كُلِّفت شركة فيرانتي، وهي شركة أسلحة وإلكترونيات، من قِبَل الحكومة البريطانية بتصنيع هذا الحاسوب

لكن، يبقى الإنسان الكائن الوحيد الذي يسأل عن معنى وجوده، عن حريته، عن مصيره. قد يتقن الذكاء الاصطناعي لعبة الشطرنج، ويؤلف مقطوعات موسيقية، ويرسم لوحات تبهر، لكنه لا يعاني من القلق الوجودي، ولا يخوض صراعات داخلية، ولا يخشى الموت أو الاندثار.

من هنا، فإن التعاون بين الإنسان والآلة ليس بالضرورة نفيا لإنسانيتنا، بل قد يكون فرصة لإعادة اكتشافها. فحين تزيح عنا الآلات عبء المهام الرتيبة، قد نجد مساحة أوسع للتفكير، للتأمل، للإبداع، وللارتباط العاطفي بالآخر.

يكمن الخطر في أن نسلّم مصيرنا لأدوات لا تملك إحساسا بالألم أو بالعدالة. نحن أمام مفترق، نعم، لكنه ليس مجرد مفاضلة بين الأمل والخوف، بل بين التواكل والوعي، بين أن نكون صانعي مستقبلنا، أو مجرد شهود على تفككه. الذكاء الاصطناعي، مهما بلغت قدراته، يظل مرآة نرى فيها أنفسنا – نقاط قوتنا وضعفنا، نزعاتنا النبيلة والمظلمة – ومن هنا تنبع الحاجة الملحة لإعادة تعريف الإنسان، لا بوصفه نقيضا للآلة، بل ككائن قادر على أن يعقل، ويشعر، ويختار… لا فقط أن يبرمج.

font change