كامي لورانس في وهم الحب الكبير

روايتها الجديدة تشرّح الشخصية النرجسية وتكشف أدوات هيمنتها

 Francesca Mantovani
Francesca Mantovani
كامي لورانس

كامي لورانس في وهم الحب الكبير

في المشهد الأدبي الفرنسي الراهن، كامي لورانس هي الروائية التي استكشفت موضوع الحب أكثر وأفضل من أي روائي معاصر لها. لكن هذه الحقيقة يجب ألا تنسينا أن دخول لورانس إلى معترك الكتابة لم يكن من هذا الباب. ففي رواياتها الأربع الأولى، التي تشكل رباعية تتبع فصولها الترتيب الأبجدي، تألقت هذه الكاتبة في نسجها دروب متاهة بورخيسية بامتياز، وفي لجوئها إلى فانتازيا تخيلية لسبر عمق العلاقة بين خرافة وواقع، وهم وحقيقة.

المنعطف في عمل لورانس الكتابي حدث عام 1994، بعد فقدانها طفلها، حين استبدلت الخيال وفق المعنى الكلاسيكي، بـ"التخيل السيرذاتي" (autofiction) الذي وفر لها الركيزة والإطار المناسبين لخوض تأمل استبطاني في موضوع الإنسان وعلاقته بنفسه ورغباته، وفي موضوع الحب على وجه الخصوص. تأمل مدوخ في نضجه وحركة تقدمه اللاهث، أثمر خمس روايات: "بين هذين الذراعين" (2000)، "الحب، رواية" (2003)، "لا أنت ولا أنا" (2006)، "علاقة عاطفية متوترة" (2010)، و"تلك التي تخالها" (2016).

في روايتها الجديدة التي صدرت حديثا عن دار "غاليمار" بعنوان "وعدك"، تتابع لورانس هذا التأمل باستكشافها معنى أن نحب، أن نُحَب، والأسباب التي تقف خلف فشل العلاقات العاطفية في غالب الأحيان، معرية في طريقها النرجسية المتفشية في زمننا الراهن وتداعياتها التي لا تقتصر على انحسار القدرة على التعاطف مع الآخر، رفيق الدرب، بل تشمل أحيانا التلاعب به، والكذب عليه. رواية تمسك بنا بطريقة بنائها الفريدة وإيقاع سردها المحموم، ومن خلال تفحصها البصير شعور الحب، وتعرية الأوهام الملازمة له، تدعونا إلى معانقته وعيشه، حين يطرق بابنا، لكن شرط الحذر من استيهاماته ووعوده الكاذبة.

تتابع لورانس هذا التأمل باستكشافها معنى أن نحب، أن نُحَب، والأسباب التي تقف خلف فشل العلاقات العاطفية

الحب المصوَّر في "وعدك" هو حب ناري جارف، لا يلبث أن يتحول إلى كابوس. حب من النظرة الأولى، على الرغم من تجاوز طرفيه، كلير لانسيل وجيل فابيان، سن الخمسين، أو ربما بسبب ذلك، وأيضا لأن ثمة نقاطا مشتركة كثيرة بينهما: مهنة ساحرة بقدر ما هي متطلبة (كلير كاتبة مشهورة، وجيل مخرج متخصص في مسرح الدمى)، تجارب عاطفية سابقة ومدمرة، وخصوصا رغبة شديدة في تقاسم متعة الحياة مع رفيق الدرب المنشود. لكن منذ الفصول الأولى، نعرف أن شيئا بشعا حدث في هذه العلاقة، وأفضى إلى دخول كلير إلى السجن. شيء يبقى مجهولا في البداية، لكن بما أنه يتعين على كلير أن تشرح قضيتها للمحامية التي تمثلها، نفهم تدريجيا نوع الرجل الذي جمعها قدرها المشؤوم به.

غلاف "وعدك"

الأمير والضفدع

في بداية علاقتهما، كان جيل، رفيق الدرب الذي تحلم به كل امرأة: ذكي، جذاب، رقيق، متفهم، طريف، وخصوصا عشيقا يعرف كيف يشعل رغبات حبيبته ويلبيها. لذلك، كانت كلير مجنونة به. وحين يطلب منها ألا تكتب عنه أبدا في رواياتها المقبلة، تعده بذلك من دون أن تسأل نفسها عن سبب هذا الطلب، لعلمها أن السعادة، على أي حال، موضوع روائي سيء. لكن مع مرور الزمن، تبدأ صفات جيل الحقيقية بالانكشاف، الواحدة تلو الأخرى، بدءا بعنفه الذي كان مخفيا في البداية خلف قناع من اللطف الشديد، ولا يلبث أن ينفجر على شكل نوبات غضب مفاجئة، مرورا بكلبيته التي تتجلى في تعليقات وانتقادات أكثر فأكثر جارحة وخسيسة، وانتهاء باتهاماته الباطلة وأكاذيبه المختلفة. باختصار، ينقلب الأمير الساحر فجأة إلى ضفدع.

كامي لورانس

حين تبدأ العلاقة في الانحدار، تقنع كلير نفسها بأن الأمر مجرد وعكة عاطفية عابرة، وبأن الأشياء لن تلبث أن تعود إلى ما كانت عليه في السابق. ولأنها لم تكن تبحث أصلا عن شريك حياة مثالي، تقبل ألا يكون جيل كذلك، وتختار البقاء بجانبه، في السراء والضراء، علما أنها لن تختبر معه بعد فترة سوى الضراء، لأنه من النادر جدا أن يتمكن منحرف نرجسي من إصلاح نفسه. خيار يمنح هذا الرجل، الذي لا يستطيع أن يحتمل عدم كونه مركز الاهتمام، فرصة نسج شبكته العنكبوتية تدريجيا حولها، بغية عزلها عن أفراد عائلتها وأصدقائها. وحين ينجح في ذلك، وتصبح كلير رهينة هشة بين يديه، تبدأ حملة الغضب والقدح والإذلال، معززة بالأكاذيب والافتراءات.

قناع من اللطف الشديد لا يلبث أن ينفجر على شكل نوبات غضب مفاجئة، تتجلى في تعليقات وانتقادات جارحة وخسيسة، وانتهاء باتهاماته الباطلة وأكاذيبه المختلفة

في علاقته مع كلير، جيل هو أقرب إلى قط يلعب مع فأرة من دون أي شعور بالتعاطف معها. إذ يعمد إلى تدويخها وإفقادها نقاط استدلالها، وحين تتعثر كلير وتبدأ بالشك في جدوى علاقتهما، يعيرها انتباها مزدوجا، فتسقط مجددا في براثنه، محمّلة نفسها كل اللوم، ومثيرة يأس المقربين منها الذين يشاهدونها تغرق، لكنهم باتوا عاجزين عن إنقاذها. وسيستغرق الأمر بعض الوقت حتى تتمكن كلير من فتح عينيها على واقع علاقتها بجيل. وحين تفهم أخيرا طبيعة حبيبها الحقيقية، يكون الأوان قد فات لانتشال نفسها من فخه، ليس فقط لأن تقديرها لنفسها بات معدوما، بل لأنها فقدت أيضا أصدقاءها، ودمرت سمعتها ككاتبة. ولا عجب بالتالي في انقلابها فجأة من ضحية إلى جلاد، حين يدفعها جيل يوما إلى حدود ذاتها.

AFP
حبيبان قرب كاتدرائية القلب الأقدس في باريس

هدم منهجي

باختصار، تروي لورانس في "وعدك" مشروع هدم منهجيا ينفذه حبيب على حبيبته، وذلك بفن سردي يستمد قيمته وفتنته من التشويق العالي في عرض تطورات علاقة كلير وجيل، ومن سطوة اللغة المشحوذة لوصف كل سلم المشاعر العاطفية وقول الأشياء بلا مواربة، من دون أن ننسى ذلك اللعب الماهر في وجهات النظر، الذي تدعمه مراجع أدبية غزيرة وناجعة. وهو ما يعزز وقع قصة الهيمنة المسرودة، ومصداقيتها، ويجعلنا، نحن أيضا، نصدق في البداية سحر جيل، فنفتن به مع كلير، قبل أن نكتشف مختلف أدوات المنحرف النرجسي التي سيلجأ إليها لإحكام سيطرته عليها، والتهامها، ونشاهد هبوط هذه المرأة الرهيب إلى الجحيم.

كامي لورانس

لكن قوة هذه الرواية لا تعود فقط إلى قصتها، التي قورب موضوعها بنجاح متفاوت في روايات سابقة كثيرة، أهمها: "المرأة المهجورة" لبلزاك، "مدام بوفاري" لفلوبير، "بورتريه سيدة" لهنري جيمس، وطبعا "آنا كارينينا" لتولستوي. بل تكمن أيضا في شكلها، وتحديدا في طريقة تشييدها. إذ يتعلق الأمر برواية حول الراوية الرئيسة فيها، كلير، التي تضطلع داخلها بكتابة رواية تنتمي، مثل سابقاتها، إلى نوع التخيل الذاتي. تشييد وفقا إلى مبدأ الدمى الروسية إذن، تنزلق قطعه، الواحدة داخل الأخرى، بسلاسة كبيرة، بينما تحصل عملية السرد تارة بضمير المتكلم المفرد، وطورا بضمير المخاطب المفرد أو بضمير المجهول، إضافة إلى صيغة الاستجواب، لدى خضوع كلير للمساءلة على يد محاميتها أو القاضي.

ينتظرنا أيضا في "وعدك" ليس أقل من خمسة أزمنة، كما أصاب أحد النقاد في ملاحظته ذلك. إذ نبدأ الرواية من نهايتها، ثم نكتشف مختلف مراحل العلاقة بين كلير وجيل، التي تحتل الجزء الأكبر من صفحاتها، وفي موازاة ذلك، نتلقى سردية تطور رواية كلير، حيث البورتريه الدقيق للمنحرف النرجسي، سردية المحاكمة الأولى التي ستخضع لها، ثم سردية المحاكمة الثانية. مونتاج حاذق يسمح بمقاربة موضوعات الرواية الثلاثة الرئيسة (العلاقة العاطفية السامّة، الانحراف النرجسي، التخيل الذاتي) من جميع الزوايا الممكنة، من طريق الدوران حول كل منها، تماما كما يفعل بعض مخرجي الأفلام.

تروي لورانس مشروع هدم منهجيا ينفذه حبيب على حبيبته، وذلك بفن سردي يستمد قيمته وفتنته من التشويق العالي ومن سطوة اللغة المشحوذة

قد يبدو هذا التشييد شائكا، وبالنتيجة مربكا للقارئ، لكن الحقيقة هي أننا نقرأ هذا العمل الأدبي مثل رواية تشويق (thriller) أخاذة ومحبوكة بإتقان، ولا نتيه أبدا في تعرجات نثره، ولا نشعر باختناق أو بلبلة، بل نُفتن بذلك التفكيك البصير داخله لأجمل أوهامنا على الإطلاق، وأكثرها رغبة وإنشادا منذ فجر التاريخ، وأكثرها قسوة، حين نفتح أعيننا على حقيقته: وهم الحب الكبير، الوحيد، المتوهج، الشعري، الحسي، السرمدي، الذي يتخيل لنا، حين نقع في شباكه، أن النجوم قد اصطفت من أجلنا، كي ننعم به، قبل أن نكتشف سذاجتنا. وهمٌ لأننا، حين نعشق، نُسقِط على المحبوب رغباتنا، استيهاماتنا، نقائصنا، ونقاط ضعفنا. نلفه بهالة سحرية، براقة، نحلمه ونضع فيه أسمى الصفات. باختصار، نتحول إلى ضحية وهم نغذيه بأنفسنا، حتى "يذوب الثلج ويبان المرج".

غلاف "بين هذين الذراعين"

سراب الحب؟

هذا الحب الذي لا يزال يُنظر إليه في زمننا الراهن بوصفه سحرا خالصا، لا وهما، وحقيقة تضارع الحلم، لا خدعة تتمكن الحياة بفضلها من الاستمرار، هذا الحب تجعلنا لورانس نعيشه بالكامل، فتغوص بنا في لهبه، قبل أن تجعلنا نختبر الصحوة المؤلمة منه. وفي هذه الأثناء، تشرّح بدقة لغته العاشقة، سرابه الجميل، وعنفه المدمر، وصولا إلى كشف فراغه.

في مطلع "وعدك"، نقرأ: "يجب أن ينتهي هذا الكتاب كما تنتهي الروايات البوليسية: بالحقيقة. (...) على الرواية ألا تضحي بالحقيقة، وإلا لفقدت علة كتابتها، أي السعي إلى بلوغ هذه الحقيقة وكشفها، مهما كانت". وهذا ما تفعله لورانس في روايتها: كتابة نص هو في الواقع مرافعة خطية في محاكمة حقيقية، لا خيالية. محاكمة خضعت لها إثر رفع زوجها السابق دعوى ضدها بتهمة انتهاك خصوصيته في رواية سابقة. من هنا التطابق الكبير والمتعمد بينها وبين كلير، الذي لا يقتصر على الحرف الأول من اسميهما، بل يشمل أيضا مزاولة الكتابة، الميل إلى تأليف روايات سيرذاتية، ألم فقدان الابن، ألم الصحوة من قصة عاطفية مدمرة مع منحرف نرجسي، وحتى ألم حملة إعلامية جائرة، بعد المحاكمة.

تطابق يلغي كليا المسافة بين الكاتبة وراويتها، ويفسر سطوة روايتها والوقع البليغ لنثرها الحارق على نفس قارئها.

font change

مقالات ذات صلة