تركيا... مشروع دستور جديد بشعارات قومية

صراع التقاطعات السياسية

رويترز
رويترز
دولت بهجلي، زعيم حزب الحركة القومية، يلقي كلمة خلال المؤتمر العام الثالث عشر لحزبه في أنقرة، تركيا، 18 مارس 2021

تركيا... مشروع دستور جديد بشعارات قومية

مع دعوة زعيم الحركة القومية التركية دولت بهجلي إلى إقرار دستور جديد في تركيا، تبدو الحياة السياسية في تركيا وكأنها ستدخل استقطابا و"دوامة" جديدة، أساسها انقسام مختلف الأحزاب الرئيسة في البلاد حول هذا المشروع، وتباين أشكال تقاطعاتها، بسبب اختلاف مطالبها ورؤاها حول الدستور، وطبيعة أزماتها الداخلية التنظيمية، وتطلعاتها المستقبلية لدورها.

تأتي دعوة بهجلي، والذي يُعتبر شريكا للرئيس أردوغان في التحالف الحاكم، ومُعبرا تقليديا عن "الدولة العميقة" في تركيا، في ظل أزمة سياسية وأمنية حادة في البلاد. فالمظاهرات شبه اليومية ما تزال قائمة في مختلف المدن الرئيسة من البلاد، تنديدا باعتقال رئيس بلدية إسطنبول ومُرشح أكبر أحزاب المعارضة للانتخابات الرئاسية القادمة أكرم إمام أوغلو. وعقب النداء الاستثنائي الذي وجهه زعيم حزب "العمال الكردستاني" عبد الله أوجلان لمقاتلي حزبه، طالبا منهم وضع السلاح وتفكيك الحزب، حيث ما تزال الخطوات العملية لتنفيذ مثل تلك العملية في بداياتها.

أغلب آراء المحللين المتابعين للشأن التركي، تقول إن إمكانية إقرار دستور جديد لتركيا، مرتبط بقدرة هذا الدستور على تلبية حاجات القوى السياسية الرئيسة في البلاد، حزبي "العدالة والتنمية" و"الحركة القومية"، وحزب "المساواة وديمقراطية الشعوب" المؤيد لحقوق الأكراد، وإلى جانبهم حزبا المعارضة الرئيسان، "الشعب الجمهوري" (الأتاتوركي)، وحزب "الخير" القومي.

فحسب السياق التاريخي، سيكون هذا الدستور الجديد، لو أُقر، أول دستور بهوية مدنية تم إقراره عبر البرلمان. فمختلف الدساتير التركية السابقة أُقرت عقب انقلابات عسكرية، وحسب إرادة وتطلعات الانقلابيين ومؤسستهم العسكرية. الدستور الأول وضعه مؤسس تركيا مصطفى كمال أتاتورك عام 1924، عقب الانتصار في الحرب مع اليونان وإعلان النظام الجمهوري. أما دستور عام 1961 فقد أقرته "لجنة الوحدة الوطنية"، المؤلفة من 38 شخصا، بقيادة الجنرال جمال غورسيل، الذي قاد انقلابا على الحُكم الديمقراطي قبل سنة واحدة فحسب، وأعدم رئيس الوزراء المنتخب عدنان مندريس بعد شهور قليلة. والدستور الحالي بدوره أُقر عام 1982، بإرادة تامة من الجنرال كنعان أفرين، قائد انقلاب عام 1980، ورئيس الجمهورية فيما بعد.

سيكون هذا الدستور الجديد، لو أُقر، أول دستور بهوية مدنية تم إقراره عبر البرلمان. فمختلف الدساتير التركية السابقة أُقرت عقب انقلابات عسكرية

حسابات الحزبين الحاكمين

المضمون المدني/البرلماني الذي من المفترض أن يتضمنه الدستور المحتمل، لا يعني أن توافقا سياسيا سيحدث بشأنه بشكل آلي، حسبما يشرح الباحث المختص رمضان دنيز في مقابلة مع "المجلة"، ويضيف مفصلا: "البرلمان الحالي يتألف من 600 عضو، وإقرار الدستور عبر البرلمان دون استفتاء، يحتاج إلى 400 صوت برلماني، وهو ما لا يملكه التحالف الحاكم، حيث إن لحزب "العدالة والتنمية" 263 نائبا، ولـ"الحركة القومية" 50 نائبا. أي إنهم يحتاجون إلى قرابة 87 صوتا إضافيا من قوى المعارضة، وهو أمر سيتحقق إما بالتوافق مع حزب "الشعب الجمهوري"، لأنه يملك 129 نائبا في البرلمان، وهذا أمر صعب جدا في ظل الشرخ السياسي الحاد بين الطرفين راهنا، أو سيحتاج إلى موافقة حزبي "المساواة وديمقراطية الشعوب" (57 نائبا) وحزب "الخيّر" (37 نائبا) معا، وهو أمر شبه مستحيل، للتناقضات الشديدة بينهما".

وعلى ما يبدو أن هناك ثمة أهداف سياسية واضحة بالنسبة للحزبين الحاكمين من هذا الطرح. فالرئيس أردوغان تملؤه الرغبة في إعادة بلورة الحياة السياسية ليفتح المجال التشريعي لإعادة ترشيح نفسه في أية انتخابات رئاسية قادمة، حيث يعيش دورته الأخيرة، حسب الدستور الحالي، وخروجه الشخصي من المشهد خلال انتخابات عام 2028، سيجعل من إمكانية بقاء حزب "العدالة والتنمية" في صدارة الحياة السياسية أمرا شبه مستحيل.

رويترز
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يتحدث مع دولت بهجلي، زعيم حزب الحركة القومية، خلال تجمع انتخابي قبل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في إسطنبول، تركيا، 7 مايو 2023

ويقول دنيز: "الحركة القومية تشهد تصدعا داخليا كبيرا، شبيها بما حدث منذ سنوات قليلة، حينما انشق حزب (الخيّر) عن الحركة، وتاليا تفكك التيار القومي فعليا، وتلاه تشكيل حزب (النصر) المتطرف، الذي أخذ حصة واسعة من الشعبية القومية في تركيا. لأجل ذلك، فإن زعيم الحركة القومية دولت بهجلي يسعى جاهدا للحفاظ على قيادات حزبه، مثل عزت يونتر وسميح يالتشين، عبر مبادرة مثل هذه، تعيد الحركة القومية إلى مركز الفعل السياسي في البلاد، ولا تسمح لتجربة ميرال أكشنار وأوميت أوزداغ أن تتكرر".

رؤية الأكراد والمعارضة

على العكس تماما، لا تبدو أن لكل أحزاب المعارضة مصلحة في إقرار هذا الدستور الجديد. فحزبا "الشعب الجمهوري" و"الخيّر" مختلفان من حيث المرامي السياسية راهنا عن حزب "المساواة وديمقراطية الشعوب" المؤيد للأكراد.

ومن حيث السياق، تبدو دعوة بهجلي وكأنها جاءت كتنفيذ عملي لما اتُفق عليه مع زعيم حزب "العمال الكردستاني" المُعتقل عبد الله أوجلان قبل عدة أشهر. فهذا الأخير، وعبر النداء الذي وجهه لمقاتلي حزبه، وإن لم يُحدد أية ملامح لـ"الثمن" الذي سيحصل عليه الكردستاني، أو ما سوف تُحل به القضية الكردية في تركيا؛ فإن التناغم الاستثنائي بين أوجلان وبهجلي، يدل بوضوح على وجود توافق ما بشأن تلك التفاصيل، ولو بالحد الأدنى.

فتصريحات بهجلي طوال الأيام الماضية، كانت تربط بين إقرار الدستور الجديد وبين النداء الذي وجهه أوجلان، حتى إنه صار يوضح الملامح العامة التي سيتضمنها هذا الدستور في هذا السياق. ففي أحد خطاباته، قال بهجلي: "مع دستور وطني جديد، شامل وديمقراطي، سيتم تطهير البلاد من بقايا الانقلاب بالكامل. حيث من المهم بناء هيكل يؤمن الجميع بأنهم سيجدون أنفسهم فيه. لهذا السبب، وفي إطار مسيرة تركيا خالية من الإرهاب، ندعو جميع مواطنينا إلى التكاتف في الوحدة الوطنية والأخوة، على أساس مبدأ (تركيا فوق كل اعتبار) و(الجميع متساوون في تركيا)، وبناء مستقبل تركيا المشرق معا".

في الأيام التالية لإعلان المبادئ الأولية التي تعتقد الحركة القومية التركية أنها ستكون الإطار الكلي للدستور، عاد زعيم الحركة دولت بهجلي وشرحها في عدد من التصريحات الصحافية، مؤكدا دوما على خمسة ملفات يجب أن تلف مضامين هذا الدستور: "الولاء للمبادئ التأسيسية للدولة التركية والخصائص الأساسية للجمهورية"، قاصدا بذلك المواد الأولى الرئيسة في الدستور الحالي، أي تركيا كجمهورية علمانية ديمقراطية.

كذلك الإشارة إلى أن الدستور الجديد يجب عليه "التركيز القوي على التاريخ المشترك والثقافة والحضارة، ورؤية المستقبل، والرغبة في العيش معا، والتعاطف مع الوحدة في الحزن والفرح، وعدم رؤية الإرهاب والعنف كطريقة للحل، وإدانة أولئك الذين يرون الإرهاب كطريقة لتحقيق أغراضهم. والعمل من أجل تنمية تركيا وتقدمها لتصبح دولة أكثر ازدهارا وأمنا وسلاما. وعدم استخدام لغة انقسامية أو استبعادية أو مثيرة للمجتمع أو استفزازية أو تمييزية، عبر الاتفاق على المواطنة التركية الشاملة بدلا من التأكيد على سياسات الهوية".

ترى القوى السياسية الكردية في ذلك تطورا ملحوظا في الخطاب التقليدي للحركة القومية التركية، التي تمثل فعليا النواة الصلبة للدولة العميقة في البلاد، وإن لم تجد فيه أية إشارة واضحة إلى جوهر القضية الكردية في تركيا

ترى القوى السياسية الكردية في ذلك تطورا ملحوظا في الخطاب التقليدي للحركة القومية التركية، التي تمثل فعليا النواة الصلبة للدولة العميقة في البلاد، وإن لم تجد فيه أية إشارة واضحة إلى جوهر القضية الكردية في تركيا، أي الاعتراف الدستوري بوجود الشعب الكردي في تركيا، أو الإشارة إلى الثنائية أو التنوع القومي في البلاد. لكن قادة الرأي الأكراد يأملون أن يؤدي التفاوض بشأن الدستور الجديد إلى ذلك عمليا.

فالدستور الذي هو مصدر كل السلطات والتشريعات اللاحقة، تحديدا عبر مواده الناكرة لوجود أية قومية غير تركية في البلاد، إنما كان على الدوام ذريعة سياسية للتنكيل بالأكراد في تركيا.

فمختلف الدساتير التركية بقيت مصرة على تعريف قومي ومغلق للمواطنة في تركيا، وهو ما يأمل الأكراد في تغييره. ولأجله يتعاطون بإيجابية مع مبادرات وضع دستور جديد للبلاد.

رويترز
دولت بهجلي، تركيا في 28 أكتوبر 2022

حزبا المعارضة الآخران لهما خيار مختلف تماما. فحزب "الشعب الجمهوري" يعتقد أن الدستور الحالي يغلق الباب تماما أمام إمكانية ترشيح الرئيس أردوغان نفسه مرة أخرى في أية انتخابات رئاسية، وتاليا الفوز في انتخابات عام 2028 بشكل مؤكد. هذا غير التشكيك المستدام من قِبل هذا الحزب بما يسميه في أدبه السياسي "ألاعيب الأزمة" التي تصدر عن حزب "العدالة والتنمية" والرئيس أردوغان منذ سنوات. فمع كل أزمة سياسية، يطرح الحزب الحاكم مشاريع كبرى مثل هذه، بغية إعادة ترتيب الملعب السياسي الداخلي لتجاوز أزماته ووفق حساباته الخاصة، وهو ما يعتقد حزب "الشعب الجمهوري" أنه لن يحدث مرة أخرى.

المعضلة الأساسية بالنسبة لحزب "الشعب الجمهوري" هو عدم قدرته على جمع حزبي "المساواة وديمقراطية الشعوب" وحزب "الخيّر" في جبهة سياسية واحدة رافضة لهذا المشروع، للتناقضات الأيديولوجية والسياسية الهائلة بينهما، حتى لو وعدهما بوضع دستور جديد بعد إسقاط حزب "العدالة والتنمية".

font change