نقاش في الحرب الأهلية الإسرائيلية

مشكلة الفلسطينيين أنهم غير قادرين على الاستثمار في التناقضات الإسرائيلية

أ.ب
أ.ب
احتياطيون في الجيش الاسرائيلي يتظاهرون ضد التعديلات القضائية في القدس في 10 فبراير 2023

نقاش في الحرب الأهلية الإسرائيلية

رغم كل ما ظهر مؤخرا، من جبروت وطغيان وتوحش إسرائيل، المستمد من الولايات المتحدة، فإن ذلك لا يحجب أن تلك الدولة تواجه لحظة انعطافية، عصيبة وحاسمة ونوعية، في تاريخها، يمكن أن يتحدد بناء عليها مستقبلها، ورؤيتها لذاتها، ولشكل علاقتها بمجتمعها، ومحيطها، للعقود المقبلة.

وبشكل أكثر تحديدا فإن تلك اللحظة تظهر في حالتين، الأولى سعي حكومة بنيامين نتنياهو إلى إنجاز "الانقلاب النظامي"، بتهميش السلطة القضائية ("المحكمة العليا"، والرقابة القانونية على الحكومة)، ووضعها تحت هيمنة السلطة التنفيذية، بما يقوض الفصل بين السلطات، كمبدأ أساسي في النظم الديمقراطية، بخاصة أن السلطة التنفيذية في إسرائيل تنبثق من السلطة التشريعية (المتشكلة من تكتل أغلبية في الكنيست)، أي إن تلك الخطوة، في حال نجاحها، ستفضي إلى تركيز السلطات الثلاث بيد رئيس الحكومة، ما يفسر أن إسرائيليين باتوا يرون نتنياهو كدكتاتور.

الثانية، تتمثل في تغليب طابع إسرائيل كدولة يهودية دينية على طابعها كدولة علمانية وليبرالية، في نظام ديمقراطي (لمواطنيها اليهود)، علما أن هذا هو التحول الثالث في إسرائيل، إذا احتسبنا التحول الثاني، الذي أدى إلى إزاحة حزب "العمل" (وريث حزب "الماباي"-1968)، و"الاشتراكي الديمقراطي"، المؤسس لإسرائيل، وصعود حزب "الليكود"، كحزب يمين قومي، إلى سدة السلطة (1977). وهذا ما دفع المحلل الإسرائيلي تسفي كاسا لاعتبار أن "كل الصعوبات التي تواجهها إسرائيل منذ اليوم التالي لحرب "الأيام الستة"، بما في ذلك فضيحة محاولة الانقلاب النظامي، هي نتيجة صعود الصهيونية المسيحانية، التي هي نقيض الصهيونية الأصلية... الاستعمار الملعون أمام الفلسطينيين والعالم المتنور هو الخطر الوجودي الذي ينشأ في الداخل" ("هآرتس"- 19/11/2024)

أيضا، يفترض ملاحظة أن التحول في الاتجاهين المذكورين يجري بالتوازي، وبالتكامل، مع مسارين آخرين، مترابطين، يمسان بطبيعة علاقة إسرائيل مع الفلسطينيين ودول الجوار. الأول، يتمثل في انتهاج إسرائيل، في ظل الحكومة الحالية، خيارا يفضي إلى شطب الفلسطينيين، من النهر إلى البحر، من المعادلات السياسية، على طريقة لا "فتحستان" ولا "حماسستان"، لا في الضفة ولا في غزة، مع الأخذ في الاعتبار أن حكومة نتنياهو قامت بسن قانون-أساس، يعتبر إسرائيل دولة قومية لليهود، ما وضع مواطنيها من فلسطينيي 48 في منزلة دونية (2018)، رغم أنه ما زال من المبكر التكهن بأبعاد أو حيثيات أو مصير هكذا خيار.

أما المسار الثاني، فيتمثل بسعي إسرائيل فرض ذاتها كقوة إقليمية عظمى في المشرق العربي، وعموم الشرق الأوسط، على أن تتشكل تلك المنطقة وفقا للخاصية الإسرائيلية، أي بتعميم خاصية إسرائيل، كدولة يهودية، على دول المنطقة، بحيث تصبح دولا ما قبل وطنية تحتوي على جماعات طائفية وإثنية؛ ما أسميه "التطبيع معكوسا"، أي بدل أن تطبع المنطقة مع إسرائيل، تعمل هذه على تطبيع المنطقة معها، بحيث تصبح على شاكلتها.

في هذا الصدد يقول المؤرخ الإسرائيلي إيلي بارنافي: "ليس من المصادفة أن حلفاء نتنياهو هم مستوطنون من الضفة: حزب المستوطنين، حزب ضم المناطق المحتلة عام 1967، الأغلبية في الحكومة... لا يمكن لنظامين قانونيين مختلفين أن يتعايشا لفترة طويلة... حيث سينتهي الأمر بأحدهما إلى إفساد الآخر... من هنا هذه الضرورة المزدوجة المرتبطة جوهريا، وهي ضرورة الدستور وضرورة إنهاء الاحتلال". (هآرتس- 30/3/2023).

ثمة تحليلات تحدثت عن وجود عدة شعوب إسرائيلية، كشرقيين إزاء غربيين، ومتدينين إزاء علمانيين، ومستوطنين في الضفة وإسرائيليين في أراضي الـ48، وأغنياء وفقراء، ومتطرفين ومعتدلين

ما ينبغي لفت الانتباه إليه أن تلك التطورات ليست جديدة إذ نشأت مع ولادة الحركة الصهيونية ووريثتها إسرائيل، كجزء من أيديولوجيتها الاستعمارية العنصرية، بـ"قومنة" الدين، وتديين القومية. لكن ذروتها ظهرت مع (الاحتلال 1967)، وتفاقمت مع صعود اليمين القومي والديني إلى الحكم في الانقلاب الثاني، كما قدمنا، لكنها ترسخت في ظل قيادة نتنياهو لإسرائيل في الحقب الثلاث (1996-1999 ثم 2009-2021، ثم 2022 إلى الآن). وبحسب جدعون ليفي فإن "الحملة الدينية-القومية بدأت منذ زمن... من مجرد وجودنا هنا... على حجج لاهوتية. فأبونا إبراهيم كان هنا ولهذا نحن هنا... يستعمل العلمانيون أيضا حججا دينية وتوراتية لتفسير الصلة بين الشعب اليهودي وأرض إسرائيل... لا يوجد زواج وطلاق مدنيان... لا حافلات وقطارات في السبت... يقرر "حكماء التوراة"... في قضايا سياسية مصيرية... من الولادة إلى الوفاة، ومن الختان إلى الجنازة، ومن إقامة الدولة إلى إقامة آخر بؤرة استيطانية في الضفة". ("هآرتس"- 10/12/2009) 

AFP
مستوطنون إسرائيليون مسلحون في بؤرة إيفياتار الاستيطانية بالقرب من مدينة نابلس بالضفة الغربية

على ذلك، فإن كل ما تقدم يفيد بأن ثمة تشابك بين البعدين الداخلي والخارجي، في مسعى حكومة نتنياهو-سموتريتش-بن غفير، ما يضعف من قوته، واندفاعيته، وشرعيته، داخليا وخارجيا، إذ أدى ذلك، مثلا، إلى ظهور أصوات مؤثرة في إسرائيل تتحدث عن تلازم التطرف الإسرائيلي الداخلي بالتطرف الإسرائيلي الخارجي إزاء الفلسطينيين، وهي أصوات لم توفر نتنياهو باعتباره يريد أن يحول إسرائيل إلى دولة استبدادية ودينية، وإلى دكتاتور يستحوذ على كل السلطات، وأنه في ذلك يسهم بتصديع إجماعات إسرائيل الداخلية، وبزرع بذور حرب أهلية فيها. وبرأي نحاميا شترسلر فإن نتنياهو "يقود إلى حرب أهلية... هذه الحرب ستخدمه. النار في الشوارع ستقويه، وستزيد "المعسكر الوطني" الذي سيتوحد حوله... الفوضى في الشوارع سيستخدمها ذريعة جيدة لإلغاء الانتخابات في عام 2026 إذا تنبأت الاستطلاعات بهزيمته... المستوطنون هم الذين يضربون، ويصيبون جنود الجيش الإسرائيلي، ويحرقون السيارات العسكرية، ويمسون باليهود والعرب في "المناطق"... أمام هذا التهديد الحقيقي فإن على الوسط–اليسار الاستعداد". ("هآرتس"-26/3/2025).

أ.ب
جندي إسرائيلى خلال عملية للقوات الاسرائيلية في مدينة نابلس بالضفة الغربية، 16 فبراير

وقد يفيد لفت الانتباه إلى أن مصطلح "الحرب الأهلية" الذي بات على لسان قادة إسرائيليين سابقين باتوا في صف المعارضة، مثل إيهود باراك، وإيهود أولمرت وبيني غانتس، مثلا، وحتى على لسان مثقفين ومحللين، ليس جديدا. فقد حذر شاحر إيلان، على سبيل المثال، مبكرا من هذا الاحتمال، بقوله: "من الناحية الاقتصادية والأمنية، يتحمل المجتمع الإسرائيلي على كاهله عبء الحريديم (المتدينين). كان هذا صعبا... في الثمانينيات... لكنه لم يعد محتملا الآن... من شأن هذا الواقع أن يهدم المجتمع والاقتصاد الإسرائيليين بعد عشرين سنة، ويحول إسرائيل إلى دولة عالم ثالث... وأن يفضي إلى تقسيم الدولة أو إلى حرب أهلية... الحل لا أن يكف الحريديم عن أن يكونوا متدينين متزمتين... بل أن يبدأوا العمل والخدمة في الجيش، وأن يندمجوا في المجتمع العام. ("هآرتس"- 24/11/2011).

في السياق، ثمة تحليلات تحدثت عن وجود عدة شعوب إسرائيلية، كشرقيين إزاء غربيين، ومتدينين إزاء علمانيين، ومستوطنين في الضفة وإسرائيليين في أراضي الـ48، وأغنياء وفقراء، ومتطرفين ومعتدلين. لكن ما فاقم هذا الوضع هو وجود أغلبية إسرائيلية نجحت في إيصال أغلبية في الكنيست من الأحزاب القومية والدينية، علما أن قسما مهماً من جمهور  الأحزاب الدينية، التي باتت في الحكم، لا تدفع ضرائب ولا تخدم في الجيش، بل وتعيش على حساب الدولة، أو على حساب دافع الضرائب الآخر العلماني. وبينما تأخذ تيارات اليمين القومي والديني إسرائيل نحو الحرب والتطرف فإن جمهور التيار الديني لا يذهب إلى الحرب.

مشكلة الفلسطينيين أنهم في ضعفهم وانقساماتهم غير قادرين، مع الأسف، على الاستثمار في التناقضات الإسرائيلية، كما لا يوجد لديهم قوة سياسية فلسطينية قادرة على توسيع وتعميق التقاطعات بينها وبين القوى الإسرائيلية المناهضة لإسرائيل الاستعمارية

ولعل نمرود ألوني أفضل من لخص ذلك الواقع، بقوله: "لا نعرف كيف ستنتهي الحرب الطويلة والصادمة مع الأعداء على جبهات غزة و"حزب الله" وإيران و"الحوثيين"، وربما أيضا الضفة. قد تكون هناك حرب مدمرة أكثر منها، الحرب التي ستأتي بعدها، الحرب الإسرائيلية الأهلية الداخلية... مع التضخم الوحشي لمعسكر اليمين المتطرف... فإن فكرة تفوق اليهود، وشرعية ذبح الفلسطينيين، وتصفية استقلالية المحكمة العليا... والدفع قدما بالإكراه الديني وسلطة الشريعة، وإقصاء النساء والعرب... ومحو غزة وتخليد الأبرتهايد في الضفة، كلها... يتم تبنيها كأقوال وأفعال مشروعة... حربنا الثقافية يمكن وصفها وتفسيرها بثلاث ميزات رئيسة. الأولى، مصدر السلطة... في المعسكر الحريدي الوطني–الديني... دولة مستبدة أو دكتاتورية، تلغي استقلالية القضاء المدني وتعطي مكانة رئيسة للقضاء الديني، إلى جانب تسوية قانونية لثلاث طبقات رسمية وهي اليهود المدنيون، والعرب الإسرائيليون كمواطنين دون، والفلسطينيون في "المناطق" كرعايا خاضعين... الحرب الأكثر فظاعة... ستندلع... حرب المتعصبين ضد المعتدلين، الحرب الأهلية الإسرائيلية". ("هآرتس-"28/9/2024)

بيد أن ذلك التشابك عمل باتجاه معاكس، أيضا، إذ إن نتنياهو الذي استثمر هجوم "حماس في "طوفان الأقصى" (7/10/2023)، بالترويج له كمعركة على وجود إسرائيل، وبشنه حرب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين، استثمره، أيضا، في إضعاف المعارضة، بشد عصب الإسرائيليين ضد الخطر الخارجي على الوجود. وربما يفيد التذكير هنا بأن نتنياهو كان قبل تلك الحرب على عتبة انتهاء زمنه السياسي، بحكم تصعيد المعارضة لتحركاتها ضد "الانقلاب النظامي"، لكن الحرب ضد غزة أضعفت هذا المسار، بتوحيد أغلبية الطيف الإسرائيلي على محور مواجهة الخطر الخارجي، بحيث تمكن نتنياهو، فيما بعد، أي بعد تقويض قوة "حماس" و"حزب الله" وقدرات سوريا العسكرية، أن يعزز وجوده.

في المحصلة، بات نتنياهو يجد نفسه في وضع أسهل، لاستغلال تلك التطورات لصالحه، لمواصلة سعيه لاستئناف الانقلاب النظامي، وضمن ذلك إقالة معظم قادة الجيش والأجهزة الأمنية، وصولا لتحجيم المحكمة العليا، ومكانة المستشارة القضائية للحكومة، الأمر الذي يعزز فكرة الربط بين ما يقوم به نتنياهو إزاء الفلسطينيين بما يقوم به إزاء الإسرائيليين.

أ ف ب
رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو يحمل خريطة أثناء حديثه خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة في مقر الأمم المتحدة في 22 سبتمبر 2023 في مدينة نيويورك

من كل ما تقدم، ثمة ملاحظات ثلاث، الأولى أن القيادات الفلسطينية معنية بإدراك أن ما يقوم به نتنياهو هو نتاج عقيدة صلبة، تبناها منذ أتى إلى رئاسة الحكومة أول مرة (1996-1999)، ثم في الحقبتين التاليتين، منذ 2009، بكونه الرجل الأكثر تحكما في السياسة الإسرائيلية بعد بن غوريون المؤسس، وهي عقيدة تنطوي على تقويض أي بُعد كياني للشعب الفلسطيني بين النهر والبحر، وحتى التخفف من الفلسطينيين وفق مشروع "الترانسفير". وهي استهدافات ينبغي العمل على تفويتها، وذلك عوض تفسير الحرب بسعي نتنياهو للتنصل من المحاكمة، أو لتعزيز مكانته في الانتخابات القادمة، وهي تفسيرات قاصرة وخاطئة وضارة.

الملاحظة الثانية، وهي تفيد بأن مشكلة الفلسطينيين أنهم في ضعفهم وانقساماتهم غير قادرين، مع الأسف، على الاستثمار في التناقضات الإسرائيلية، كما لا يوجد لديهم قوة سياسية فلسطينية قادرة على توسيع وتعميق التقاطعات بينها وبين القوى الإسرائيلية المناهضة لإسرائيل الاستعمارية والعنصرية والدينية والعدوانية.

أما الثالثة، فهي تتعلق بعدم المبالغة بإمكان اندلاع حرب أهلية إسرائيلية، بحكم طابع النظام السياسي في إسرائيل، الذي يعتمد الديمقراطية والانتخابات لحسم الخلافات وتحديد التوازنات السياسية، وأيضا بسبب العوامل الخارجية الكابحة لمثل هذه التطور، على الأقل في المعطيات الدولية والإقليمية المنظورة.

font change