”بلاك روك“... الأخطبوط المالي العالمي

اليد الخفية في الأسواق العالمية التي نجحت في تحقيق طموح ترمب "استعادة" قناة بنما

أدريان أستورغانو
أدريان أستورغانو

”بلاك روك“... الأخطبوط المالي العالمي

في خضم الحرب الاقتصادية الأميركية – الصينية، واحتدام الجدال القائم حول تهديد الرئيس الأميركي دونالد ترمب المتواصل بإعادة وضع اليد على قناة بنما، فوجئ العالم بالإعلان عن صفقة ضخمة لشراء موانىء بنما، تقف وراءها شركة "بلاك روك" الأميركية، مما أثار العديد من ردود الفعل والتساؤلات عن التوقيت، وعن نفوذ الشركة وأعاد تسليط الأضواء على دورها الأميركي والدولي. فمن هي تلك الشركة التي ضجت الأسواق المالية وعالم الأعمال بأنباء صفقاتها، وقدرتها الهائلة على توجيه بوصلة الشراء والبيع، وتأثيرها المرعب في اقتصادات دول ومصير تكتلات لشركات عملاقة.

تعتبر "بلاك روك" (BlackRock) شركة حديثة نسبيا، مقارنة بعمالقة الشركات في العالم، لا يزيد عمرها عن 37 سنة. تأسست أواخر الثمانينات، عام 1988 تحديدا، واسمها مستوحى من "الصخرة السوداء"، كرمز للصلابة. يقع مقرها الرئيسي في مدينة نيويورك، ويرأسها حاليا لاري فينك، وهو من مؤسسي الشركة.

تُصنّف "بلاك روك"التي تعمل في حقول إدارة الأصول والخدمات المالية، كأكبر شركة لإدارة الأصول في العالم، وتبلغ قيمة الأصول التي تديرها (Assets Under Management) نحو 11,6 تريليون دولار أميركي، وفقا لـ"رويترز"، بناء على بيانات الفصل الرابع من عام 2024. وتتعامل الشركة بكل الأدوات المالية المتاحة، من الأسهم والسندات والعقارات وصناديق الاستثمار المتداولة، من خلال علامتها التجارية "آي. شيرز" (iShares). ويبلغ عدد موظفيها على مستوى العالم نحو 22 ألف موظف في أكثر من 30 دولة. وهي تتولى الاستثمارات وإدارة المعاشات التقاعدية وصناديق الثروة السيادية، للمؤسسات والشركات، والمستثمرين الأفراد، كما أنها معروفة كلاعب رئيس مهيمن في صناديق الاستثمار المتداولة (iShares ETFs).

يملك شركة "بلاك روك" شبكة من المستثمرين المؤسسسين، واتسع نفوذها بشكل كبير من خلال مساهماتها الرئيسة في آلاف الشركات في كل أنحاء العالم. وتشير التقديرات إلى أنها تمتلك 5 إلى 7 % من "مؤشر ستاندرد آند بورز 500"

وتتبع الشركة نهج "الاستثمار النشط والسلبي"، حيث تمزج بين اختيار الأسهم العملية واستراتيجيات تتبع  المؤشرات، كما تنشط في الأسواق الخاصة، وفي مجال العقارات والبنية الأساسية والأسهم الخاصة.

يملك شركة "بلاك روك" شبكة من المستثمرين المؤسسسين، واتسع نفوذ الشركة بشكل كبير من خلال مساهماتها الرئيسة في آلاف الشركات في كل أنحاء العالم. وتشير التقديرات إلى أنها تمتلك 5 إلى 7 في المئة من "مؤشر ستاندرد آند بورز 500"، وتساهم في شركات مثل "آبل" و"مايكروسوفت" و"إكسون"، ما يعزز تأثيرها في تشكيل سياسات الشركات، ونفوذها في مجالس الإدارة على مستوى العالم.

يُنظر إلى الشركة على أنها مُبتكرة ومستقرة ورائدة في التمويل الحديث. كما تُتهم بأنها قوية للغاية ويطلق عليها البعض "حكومة ظل" لقدرتها على الوصول إلى السياسات والأسواق. ويعتبرها  آخرون منافقة لجهة موقفها من البيئة نظرا  لارتباطها باستثمارات ضخمة في حقل الوقود الأحفوري.

أدريان أستورغانو

فمنذ منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ركزت رسائل لاري فينك السنوية إلى الرؤساء التنفيذيين على الاستدامة والاستثمار الواعي للمناخ في مجالات البيئة والمجتمع والحوكمة (Environmental, Social, and Governance (ESG، ما يراه منتقدون أنه نوع من العلاقات العامة، فهي لا تزال تمتلك حصصا وازنة في شركات عملاقة تساهم بشكل أساسي في تلوث المناخ.

وللشركة موطئ قدم في السياسات الحكومية الأميركية، لا سيما وقت الأزمات، إذ قدمت المشورة بخصوص قانون الاستقرار الاقتصادي الطارئ لعام 2008، المعروف أيضا باسم "إنقاذ المصارف لعام 2008" أو "إنقاذ وول ستريت" بعد الانهيار المالي في حينه، وهو قانون فيديرالي للولايات المتحدة أقر خلال فترة الركود الكبير، وأنشأ برامج فيديرالية لإنقاذ المؤسسات المالية والمصارف المتعثرة. كما ساعدت الشركة في عام 2020 في إدارة شراء سندات التحفيز لـ"كوفيد - 19".

ضجّت وسائل الإعلام بالصفقة الضخمة التي أبرمتها "بلاك روك" في قناة بنما بقيمة 22,8 مليار دولار، حيث وافقت مجموعة من الشركات بقيادتها على شراء الموانئ الرئيسة على طرفي القناة

وفي السنتين الأخيرتين، تعمقت الشركة في صناديق الاستثمار المتداولة في العملات المشفرة وتقنية "بلوكشين" blockchain، في تحول نحو الأصول الرقمية.

"بلاك روك" تسيطر سراً على العالم

كرس حجم شركة "بلاك روك" الهائل، باعتبارها أكبر شركة لإدارة الأصول في العالم، نظريات المؤامرة. وتزعم إحدى هذه النظريات أن "بلاك روك" تسيطر سراً على العالم، من حكومات وشركات، وحتى على مجريات الحروب. وبعد إطلاق النار في تجمُّع الرئيس ترمب الانتخابي في عام 2024، تداول أصحاب نظريات المؤامرة معلومات عن أن مطلق النار هو توماس ماثيو كروكس الذي ظهر في إعلان "بلاك روك" لعام 2022.

وتواجه الشركة مزاعم خطيرة بأن "بلاك روك" ترشو أعضاء مجلس الشيوخ في الولايات المتحدة، وتستفيد من حرب أوكرانيا، وتلعب في الخفاء دورا رئيسا مع "الحكام الحقيقيين للعالم".

ويعتبر تيموثي غايتنر، وزير الخزانة الأميركي السابق أن لدى الشركة فهما فريدا للأسواق، في حين تقر إليزابيث وارن، عضو مجلس الشيوخ الأميركي بأن الشركة "تتمتع وغيرها من مديري الأصول الكبار بسلطة كبيرة على اقتصادنا"، ويوافقها في ذلك تشارلي مونغر، نائب رئيس مجلس إدارة "بيركشاير هاثاواي" الذي يرى أن صناديق المؤشرات مثل تلك التي تديرها "بلاك روك" لديها سلطة كبيرة على الشركات الأميركية.

"بلاك روك "وصفقة بنما

ضجّت وسائل الإعلام في الشهر المنصرم بالصفقة الضخمة التي أبرمتها "بلاك روك" في قناة بنما بقيمة 22,8 مليار دولار، والتي أعلن عنها في 4 مارس/ آذار 2025، حيث وافق مجموعة من الشركات (Consortium) بقيادة شركة "بلاك روك" على شراء الموانئ الرئيسة على طرفي القناة، ميناء بالبوا على جانب المحيط الهادئ، وكريستوبال على المحيط الأطلسي، من شركة "سي. كيه. هاتشيسون القابضة" (CK Hutchison Holdings) ومقرها هونغ كونغ. تتضمن الصفقة حصة شركة "سي. كيه. هاتشيسون" البالغة 80 في المئة في شركة "موانئ هاتشيسون"  Hutchison Ports، وتعود ملكية باقي الحصة 20 في المئة إلى شركة "بي. أس. إيه. إنترناشونال" (PSA International) السنغافورية.

تعتبر الولايات المتحدة المستخدم الأكبر للقناة، حيث يمر عبرها نحو 70 في المئة من حركة الشحن القادمة منها أو إليها، أما ثاني أكبر مستخدم فهو الصين

أثارت هذه الخطوة الكثير من الصخب نظرا  إلى توقيتها تزامنا مع الضغوط السياسية الأميركية بقيادة الرئيس دونالد ترمب للحد من النفوذ الصيني في المنطقة، وتهديداته منذ حملته الانتخابية عام 2024 باستعادة قناة بنما.

وكان وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو قد زار بنما في أوائل فبراير/شباط الماضي وأخبر الرئيس خوسيه راؤول مولينو أن بنما يجب أن تقلل من النفوذ الصيني على القناة أو تتحمل مواجهة محتملة من الولايات المتحدة. رفض مولينو فكرة أن الصين لديها أي سيطرة على عمليات القناة. وبعد زيارة روبيو، انسحبت بنما من مبادرة الحزام والطريق الصينية، ما دفع بكين إلى إدانة هذا القرار. وسيسيطر  "الكونسورتيوم"، الذي يضم "تيرمينال إنفستمنت" و"غلوبال إنفراستراكتشر بارتنرز"، في المجمل على 43 ميناء تضم 199 رصيفا في 23 دولة. 

وتستحوذ "بلاك روك"، إلى جانب ذراعها شركة "غلوبال إنفراستراكتشر بارتنرز" ومقرها نيويورك، وشركة "تيرمينال إنفستمنت"، ومقرها سويسرا، على حصة 90 في المئة في "شركة موانئ بنما" التي تدير الموانئ منذ أكثر من عقدين من الزمن. ولا تتعلق الصفقة ببنما فقط، بل تشمل عملية الشراء 43 ميناءً عبر 23 دولة (بما في ذلك المكسيك وهولندا ومصر وأستراليا وباكستان وغيرها)، لكن بالبوا وكريستوبال هما الأبرز نظرا لموقعهما الاستراتيجي الذي يحيط بطرفي القناة.

الولايات المتحدة المستخدم الأكبر لقناة بنما

تعتبر الولايات المتحدة المستخدم الأكبر للقناة، حيث يمر عبرها نحو 70 في المئة من حركة الشحن القادمة منها أو إليها، أما ثاني أكبر مستخدم فهو الصين. والقناة هي نقطة العبور لـ 4 في المئة من التجارة البحرية العالمية وأكثر من 40 في المئة من حركة الحاويات الإجمالية في الولايات المتحدة.

وتحتاج صفقة الشراء إلى موافقة حكومة بنما، وقد تكون محفوفة بالأخطار نظرا للتوترات المحلية، حيث يرحب بعض البنميين بالصفقة على أمل أن تعزز الإدارة الأميركية كفاءة إدارة القناة، في وقت يحذر آخرون من أن الصفقة قد تمس بسيادة بلدهم، وقد تتيح لترمب تسهيل مرور السفن الأميركية بحريّة ودون قيود، وهو ما ترفضه بنما، ما قد يؤجج التوترات والاعتراضات.

تعمل شركة "بلاك روك" على توسيع حضورها ونشاطاتها في الدول العربية، خصوصا في دول الخليج، كجزء من استراتيجيتها 

وقد يدعم أسلوب ترمب المستفز تلك التوترات إذ صرح أمام الكونغرس الأميركي تعليقا على الصفقة: "سنستعيد إدارتي قناة بنما، وقد بدأنا بالفعل في القيام بذلك". مما دفع رئيس بنما، خوسيه راؤول مولينو، إلى الرد قائلا إن ترمب "يكذب مرة أخرى". وتابع أن ما يسمى بـ"استعادة" ترمب للقناة لم يكن جزءا من المناقشات مع وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو في زيارته الأخيرة أو مع أي مسؤول أميركي آخر. وأضاف: "قناة بنما ليست في طور الاستعادة... القناة بنمية وستظل بنمية!".

باختصار، لا تتعلق صفقة "بلاك روك" بامتلاك القناة بقدر ما تتعلق بمن يتحكم في بواباتها. وأقل ما يمكن أن توصف به أنها فوز للرافعة المالية الأميركية، ولطموحات الرئيس ترمب، وخسارة لشركة "سي. كيه. هاتشيسون"، ومصدر قلق وتوتر محتمل لسُلطات بنما.

بلاك روك" عربيا... ريادة سعودية

تعمل شركة "بلاك روك" على توسيع حضورها ونشاطاتها في الدول العربية، خصوصا في دول الخليج، كجزء من استراتيجيتها الأوسع للاستفادة من الثروة المتنامية وفرص الاستثمار في المنطقة. تركز الشركة على مساهمتها في إدارة الأصول، وإقامة شراكات استراتيجية، ودعم جهود التنويع الاقتصادي في هذه الدول. تبرز المملكة العربية السعودية كمحور رئيس لأنشطة "بلاك روك"، مدفوعة بمبادرة "رؤية المملكة 2030"، التي تهدف إلى تنويع اقتصادها بعيدا عن الاعتماد على النفط.

رويترز

وتأسست شركة "بلاك روك السعودية" في عام 2018 ومقرها الرئيسي الرياض، وهي شركة تابعة مملوكة بالكامل لشركة "بلاك روك غروب المحدودة" (BlackRock Group Limited (BGL، وهي مرخصة من هيئة السوق المالية لتقديم خدمات الاستشارات الاستثمارية، ومنذ عام 2022، لإدارة الاستثمارات وتشغيل الصناديق.

وقعت "بلاك روك" عام 2022 مذكرة تفاهم غير ملزمة مع "صندوق الاستثمارات العامة" (PIF)، وهو صندوق الثروة السيادية للسعودية، الذي يدير أصولا تزيد قيمتها عن 925 مليار دولار. تهدف هذه الاتفاقية إلى استكشاف مشاريع البنية التحتية بشكل مشترك في الشرق الأوسط، مع التركيز على المملكة، واستهداف قطاعات مثل الطاقة والمرافق والنقل والاتصالات. تسعى الشراكة إلى جذب الاستثمار الأجنبي المباشر، وتعزيز الاقتصاد السعودي، وتسهيل نقل المعرفة، بما يتماشى مع هدف "رؤية 2030" المتمثل في زيادة أصول صندوق الاستثمارات العامة إلى أكثر من تريليون دولار بحلول عام 2025.

تعد شركة "بلاك روك" الأكبر والأشهر من بين مجموعات شركات إدارة الصناديق في العالم، تليها "فانغارد"، و"فيدليتي إنفستمنتس"، و"ستيت ستريت"

وفي أبريل / نيسان 2024، وقع "صندوق الاستثمارات العامة"، مذكرة تفاهم مع شركة "بلاك روك" لتأسيس منصة لإدارة الاستثمارات متعددة الأصول مقرها الرياض. ويعتزم "صندوق الاستثمارات العامة" ترسيخ هذه المنصة باستثمار يصل إلى 5 مليارات دولار، بهدف تسريع نمو أسواق رأس المال في المملكة، ودعم جهودها لتصبح مركزا ماليا عالميا.

كما قادت الشركة تجمعا للشركات لاستثمار 15,5 مليار دولار في "أرامكو" في السنوات الأخيرة، مما عزز حصتها في قطاع الطاقة في المنطقة.

تمدد عربي أوسع في الإمارات وقطر

تعمل "بلاك روك" أيضا من خلال فرعها في "مركز دبي المالي العالمي"، الخاضع لتنظيم "هيئة دبي للخدمات المالية"، على تقديم المشورة بشأن المنتجات المالية وترتيب الصفقات في الاستثمارات، واستهداف العملاء المحترفين.

رويترز
نمو شركة بلاك رووك في الأسواق الخليجية، دبي 23 مارس 2023

أما في قطر، فقد أعلنت "بلاك روك" عن خطط في أوائل عام 2025 لافتتاح مكتب في الدوحة، ليكون بمثابة مركز لأنشطة الاستثمار في البنية التحتية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

أقوى مجموعة شركات في تاريخ البشرية

تعد شركة "بلاك روك" الأكبر والأشهر من بين مجموعات شركات إدارة الصناديق في العالم، تليها "فانغارد"، و"فيدليتي إنفستمنتس"، و"ستيت ستريت". وتتباين وجهات النظر حول دورها ونفوذها وعملياتها، وهي تتراوح بين الإعجاب بقدراتها والمخاوف بشأن نفوذها.

ويرى جيمس ألتوشر، وهو رجل أعمال ومؤلف، لـ"بلاك روك" أنها "شركة من أسوأ اللاعبين في "وول ستريت". ويتلخص نموذج أعمالها في إعادة ترويج الأسهم وبيعها كصناديق استثمار متداولة".

font change