لبنان بعد الحرب... المُداواة بداء الذاكرة

حملة تلقيح مستمرة لكسب جهاز مناعي اجتماعي وسياسي

شاترستوك
شاترستوك
بوسطة عين الرمانة في مستقرها الأخير

لبنان بعد الحرب... المُداواة بداء الذاكرة

غالبا ما تُعَد العقود الخمسة في تاريخ الأمم والشعوب رقما بسيطا بالنسبة لإطار زمني أطول. رقمٌ لا يؤثر بشكل جذري على قدرة تلك الكيانات على التطور والارتقاء والتعلم من التجارب والحروب السابقة، فعُمر البلدان يُقاس بالقرون وربما بالإنجازات العلمية والاقتصادية التي تُحققها.

في وضع لبنان وجمهوريته الفتية نسبيا، تُغادرنا اليوم الخمسون سنة الماضية، حيث يُصادف 13 أبريل/نيسان الحالي ذكرى اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية 1975–1990، والتي شكلت عبئا ثقيلا على نفسية، وذهنية وذاكرة شعب بأكمله- أو ربما شعوب- تَجهد في التذكّر وتتناسى خمسة عشر عاما من الاقتتال الأهلي. وهنا تتجلى المفارقة: إذ إن الحرب التي يُفتَرَض أن تكون عِبرة، تحولت إلى جرحٍ لا يُراد له أن يلتئم، ولا أن يُفتح.

تُصِرّ أكثرية الشعب اللبناني على رفض أهلية الحرب، وهم يعتبرون– ويؤكدون بشراسة– أن الأعوام الخمسة عشر من القتل والدمار كانت، كما خلّدها غسان تويني بعبارته الشهيرة، "حروب الآخرين على أرض لبنان"، ناسِبين السبب الرئيس وراء الحرب الأهلية إلى الوجود الفلسطيني– ممثلا في منظمة التحرير– التي استوطنت لبنان بعد اتفاقية القاهرة وأحداث "أيلول الأسود" في الأردن. إن تجهيل القاتل أو القتلة المَحليين ورفع المسؤولية اللبنانية عن الصراع من حيث المبدأ ليس خطأ جسيما لو اقترنت تلك النزعة باعتراف ضمني بالخلل البنيوي في النظام السياسي اللبناني، الذي صاغه الآباء المؤسسون لصيغة 1943، وما عُرف بالميثاق الوطني الذي ما لَبِث أن انهار ورُمِّم مرات عدة قبل أن ينهار بالكامل في 13 أبريل 1975 بعد حادثة "بوسطة عين الرمانة" التي شَكَلت الصاعق الأساس لبرميل من البارود، أو لربما براميل سياسية واقتصادية مخفيّة في أقبية الذاكرة اللبنانية الجَماعية.

الشعب اللبناني نفسه قد سقط في امتحان الذاكرة أكثر من مرة، حيث يرفض اللبنانيون التذكّر خارج إطار الجماعة والقبيلة والحزب والطائفة

أما هذا التَجهيل المُمَنهَج فهو ليس فقط إنكارا للمسؤولية، بل إعادة إنتاج لأسباب النزاع مع تغييب تام لمفهوم الحقيقة والمساءلة.

خمسون عاما من التناسي مرّت على لبنان واللبنانيين، ساهم فيها قانون العفو الذي أُقِرّ بعد انتهاء الحرب الأهلية تحت ذريعة دفن الضغينة كمقدمة للمصالحة بين اللبنانيين؛ إنها مصالحة لم تحصل فعليا بسبب عدة عوامل، أهمها أن الطُغمة السياسية الحاكمة– والتي تشكلت من نواة أمراء الحرب الأهلية– لم تكترث ولم تتحلَّ بالشجاعة والنبل الأخلاقي للخوض في مواضيع شائكة، ولم تعترف– بكل شجاعة– بجرائمها ومجازرها بحق أعدائها وحلفائها. لقد دخل لبنان في دوامة من الحروب التي صيغت في إطار المحاصصة والاقتتال على السلطة، وكُرّست الوصاية– أو حتى الاحتلال السوري– في "اتفاق الطائف" الذي انتهى مع اغتيال رئيس مجلس الوزراء السابق رفيق الحريري، عرّاب "الطائف" وباني لبنان الحديث. لا بل جرت إعادة تدوير الطبقة الحاكمة من خلال أقنعة مدنية وشرعيات انتخابية، بينما بقيت الذهنيات الميليشياوية حاكمة للقرار والذاكرة على حدّ سواء.

السفاهة السياسية لتلك الطبقة توصلت إلى اعتبار أية حركة أو مطلب شعبي ينادي بالتذكّر هو بمثابة دعوة للفتنة، تحت ذريعة أن الكلام عن القتل والخطف والمفقودين هو تحريك في رماد الذاكرة، ويفتح الباب أمام أعمال عُنف مستقبلية من شأنها أن تُعكّر الصفاء الاجتماعي وتغذّي النعرات المذهبية. وذلك بحسب زَعم أمراء الطوائف. وانطلاقا من هذا المنطق، يُصبح إحياء الذاكرة جريمة، والشهادة تهديدا، والعدالة رفاهية تُهدد "الاستقرار".

أ ف ب
أطفال وراء الأسلاك الشائكة في منطقة خطوط التماس في عين الرمانة في 19 أكتوبر 1990

إلا أن الشعب اللبناني نفسه قد سقط في امتحان الذاكرة أكثر من مرة، حيث يرفض اللبنانيون التذكّر خارج إطار الجماعة والقبيلة والحزب والطائفة، مُطلقين العنان لقوى الجذب الجَماعي أن تحفظهم ضمن الحظيرة الجَماعية للمتحدث، إلى حين تقتضي الحاجة تسليح الذاكرة بأعمال عُنف في سبيل نصرة الأجندة السياسية لأمير الجماعة. وربما هذا هو أخطر أنواع الأسلحة التي استُعملت خلال الخمسة عشر عاما من الأعمال الحربية، والتي لا تزال صالحة للاستعمال في أي زمان ومكان، كما برهنت الأحداث السياسية الأخيرة. فلم تعد الذاكرة محفوظة في كتب أو أرشيف، بل أصبحت سلاحا رقميا يُشهر عند اللزوم، خارج أي سياق ودون مساءلة. إذ يصبح وزيرٌ حالي في حكومة سلام– بحسب زعم خصمه السياسي الحالي– أحد منفذي مجزرة الدامور، ويُصار، بكبسة زر أو عبر منشور على وسائل التواصل الاجتماعي، إلى إحياء الماضي وإعداد الأرضية للاقتتال.

في الذكرى الخمسين لاندلاع الحرب الأهلية، على الشابات والشبان اللبنانيين أن يسألوا أهلهم وبيئتهم عن الحرب، وذلك في سياق حملة تلقيح مستمرة لكسب جهاز مناعي اجتماعي وسياسي

أمام هذا الواقع وحجم التحدي الكبير الكامن في التداوي بداء الذاكرة، تبقى طائفة من محاربي الذاكرة الذين رفضوا الانصياع لثقافة النسيان، فأنشأوا الجمعيات والمنابر الناشطة في إطار الحفاظ على الذاكرة والماضي، ليس في سبيل نبش القبور، بل انطلاق من حلمهم ببناء مستقبل تسوده العدالة والمحاسبة. من أولئك– وعلى سبيل المثال لا الحصر– وداد حلواني ولجنة أهالي المفقودين، وأسعد شفتري، وزياد صعب، والقادة العسكريون والأمنيون الذين انشقوا عن الانقسام العقائدي خلال الحرب، وجمعية "محاربون من أجل السلام"، الذين لا يكلّون ولا يملّون من جولاتهم إلى المناطق والمدارس والجامعات، مبشّرين بنبذ ثقافة العنف وتبنّي ثقافة السلام في العمل الوطني والسياسي. إنهم شهود على إحياء الذاكرة في زمن التواطؤ، وهم يُصرّون أن السلام لا يُبنى بالنسيان بل بالاعتراف.

ويبقى بالطبع الحبيب الراحل لقمان سليم، والسيدة العزيزة مونيكا، اللذان أسسا مركز "أمم" للبحوث والتوثيق، حيث نحتفي بالذكرى العشرين لتأسيسه، والذي يؤدي أدوارا أساسية وريادية على كل الأصعدة، في النضال إلى جانب المئات من الجمعيات وآلاف ناشطي الذاكرة، من أجل إرساء مبدأ لا يُحاكي نفوس اللبنانيين وزعاماتهم: العدالة الانتقالية وإنهاء الإفلات من العقاب. فهؤلاء المحاربون من أجل الذاكرة والمستقبل، وللأسف الشديد، لا يزالون يُعامَلون من العامة– ولا سيما الدولة العميقة والعتيقة– على أنهم ترفٌ سياسي، أو هم بالنسبة للبعض، يمارسون مهنة تستجلب المِنَح والتمويل من مجتمع دولي وجمعيات دولية تحوّلت مع مرور الوقت إلى بؤر للامبالاة والبيروقراطية. وبدل أن يُحتفى بهم كضمير وطني، يُحاصَرون كأنهم خطر خارجي يهدد "التوازن" الهش.

أ ف ب
مقاتلون يقفون بجانب مباني مدمرة خلال الحرب الأهلية اللبنانية بالقرب من مرفأ بيروت، 7 مايو 1976

في كل الحالات، إن أراد اللبنانيون المُضي قُدُما، أو حتى عدم الانزلاق في الهاوية، فعليهم أن يضعوا، ضمن أولوياتهم على اختلافها، إلى جانب نزع سلاح إيران من لبنان وإعادة هيكلة المصارف، أولوية التعاطي مع الماضي، وجَعل ثقافة التذكّر والاستذكار ركنا أساسيا في المناهج التعليمية المرجوّة، التي يجب أن تحل محل المناهج التلقينية الحالية، وتفسح المجال أمام التحليل النقدي وكسر الأساطير والمقدسات البشرية. فلا إصلاح بلا ذاكرة، ولا تعليم بلا مساءلة، ولا مستقبل من دون مواجهة.

في الذكرى الخمسين لاندلاع الحرب الأهلية، يجب على الشعب اللبناني– ولا سيما الجيل الذي وُلد بعد انتهاء الأعمال الحربية– أن يسألوا أهلهم وبيئتهم عن الحرب، وذلك في سياق حملة تلقيح مستمرة لكسب جهاز مناعي اجتماعي وسياسي، ومن أجل العمل نحو التوصل إلى نضوج ووعي لجهة تاريخ بلدهم يحميهم من تكرار أخطاء أسلافهم. يجب عليهم أيضا السماح لأولئك الذين خسروا أحبّاءهم وأحلامهم ومستقبلهم في الحرب بأن يحزنوا، وأن يبكوا– بصمت أو علانية– والسماح لهم بالتصالح مع ماضيهم ومع شياطينهم وجلّاديهم. فالحزن ليس ضعفا، والاعتراف ليس خيانة، والمصالحة لا تكون إلا بين ذاكرتين متكافئتين.

الذاكرة في لبنان هي مرضٌ مستعصٍ  أثبت قدرته على شلّ  حركة شعبٍ يكافح للخروج من دوّامة الموت الأبدي. ولعلّ أفضل تعاطٍ مع هذا المرض، كما قال الشاعر أبو نواس، هو "المداواة بالداء عينه".

font change

مقالات ذات صلة