ماذا لو فشلت المفاوضات الأميركية - الإيرانية؟

مخاطر ومكاسب نهج ترمب المتطرف

رويترز
رويترز
يظهر في هذه الصورة، الملتقطة في 15 يناير 2025، نموذج مصغر مطبوع بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد لدونالد ترمب وعلمي الولايات المتحدة وإيران

ماذا لو فشلت المفاوضات الأميركية - الإيرانية؟

ما انفكت سياسة العصا والجزرة نهجا مألوفا في العمل الدبلوماسي، غير أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب يُمارسها بصرامة غير مسبوقة. فرغم تردده في ملفات أخرى، ظل ثابتا في موقفه من إيران، مقترحا عليها خيارا صارما: إما القبول بصفقة تتيح لها مكاسب اقتصادية، وإما التعرض لضربات عسكرية، إذا عجزت عن إقناع العالم ببراءة برنامجها النووي. باختصار: ازدهار أو دمار.

وقد أثمر نهج ترمب في دفع إيران إلى طاولة المفاوضات، كما توقعتُ في مقالات سابقة نُشرت في "المجلة". فقبل فبراير/شباط الماضي، بدا المرشد الإيراني علي خامنئي صامدا أمام مزيج ترمب من التهديد والترغيب، مؤكدا أن طهران لن تدخل في مفاوضات مع واشنطن. لكن الأمور تغيّرت بعد أن بعث ترمب برسالة شخصية إلى خامنئي، الأمر الذي أدى إلى تعديل موقفه. وها هي المفاوضات بين الطرفين قائمة اليوم على قدم وساق، إذ عُقدت الجولة الأولى منها في العاصمة العُمانية، مسقط، يوم 12 أبريل/نيسان، بين وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، ومبعوث ترمب الخاص إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف، فيما يُنتظر أن تُعقد الجولة التالية يوم غد السبت 19 أبريل في روما.

ولا يكاد خطاب لترمب عن إيران يخلو من الجمع بين التهديد والإغراء. فخلال استقباله نظيره السلفادوري نجيب أبو كيلة في البيت الأبيض يوم 14 أبريل، كرر الرئيس الأميركي موقفه، مؤكدا أن إيران ترغب في التفاوض مع بلاده لكنها "تجهل الكيفية"، ثم عاد لاتهامها بـ"استغلال الولايات المتحدة". واللافت أن المفاوضات بالكاد بدأت، ومع ذلك بدا ترمب وكأن صبره بدأ ينفد.

ثم كرّر ترمب عرضه الثنائي لإيران، جامعا بين الوعد والوعيد، فقال: "أريدهم أن يكونوا أمة عظيمة وغنية"، ليتبع ذلك بتحذيره المعهود: "وإذا اضطررنا إلى اتخاذ إجراءات صارمة، فلن نتردد... ولن يكون ذلك في صالح أميركا فحسب، بل العالم أجمع".

ترتكب إيران خطأ جسيما إذا ظنّت أن تهديدات العمل العسكري مجرد خدعة، فترمب يبدو جادا في تهديده إلى حد كبير

ترتكب إيران خطأ جسيما إذا ظنّت أن تهديدات العمل العسكري مجرد خدعة، فترمب يبدو جادا في تهديده إلى حد كبير، وبينما يُفضّل بوضوح الحلول السلمية، ويحرص على تجنب المواجهة العسكرية، فإن ذلك لا ينفي استعداده لخيار الضربات العسكرية، إذا فشلت المساعي الدبلوماسية. وإذا ما نجحت إيران في استفزاز الرئيس المعروف عنه تقلّبه أو ثبت أنها تخادعه– كأن تُطيل أمد المفاوضات دون تقديم تنازلات ملموسة مثلا– فلن يكون غريبا أن يلجأ إلى خيار القوة العسكرية.

ومن الناحية الفنية، ظلت هذه المعادلة قائمة دائما. ففي أثناء المفاوضات مع إيران بين عامي 2013 و2015، أكّد الرئيس باراك أوباما مرارا أن الخيار العسكري لا يُستبعد إذا فشلت المحادثات. وقد تجلى ذلك بوضوح في سبتمبر/أيلول 2013 خلال لقائه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في المكتب البيضاوي، حين صرح أوباما: "لا نستبعد أي خيار، بما في ذلك الخيار العسكري" وهو تصريح أثار استياء المفاوضين الإيرانيين آنذاك.

رويترز
خلال زيارة "المرشد" علي خامنئي، أجهزة الطرد المركزي الإيرانية في طهران، إيران، 11 يونيو 2023

لكن تهديدات أوباما لم تُؤخذ على محمل الجد، خاصة بعد امتناعه عن الرد العسكري في سوريا، رغم تجاوز نظام الأسد ما وصفه هو نفسه بـ"الخطوط الحمراء" باستخدام الأسلحة الكيماوية. ففي ذلك الوقت، كانت الولايات المتحدة لا تزال تتلمس تداعيات مغامرة جورج بوش في العراق، ما دفعها إلى تجنب الدخول في مواجهة جديدة.

بل إن موقف نتنياهو نفسه كان متناقضا، فرغم معارضته الشديدة لاتفاق أوباما مع إيران، لم يُظهر حماسة حقيقية للخيار العسكري. والدليل أن حكومته امتنعت عن تنفيذ ضربات ضد المنشآت النووية الإيرانية، مستمرة في ذلك على نهج رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت.

تهديدات ترمب العسكرية لم تكن مجرد خطابات، بل اقترنت بتعزيز غير مسبوق للوجود العسكري الأميركي في منطقة الشرق الأوسط والمحيط الهندي

أما اليوم، فتختلف المعادلة في واشنطن وتل أبيب. فخلافا لسياسات التردد التي سادت سابقا، يبدو ترمب مستعدا أكثر من أي وقت مضى للمواجهة العسكرية، كما يتضح من هجماته المتكررة ضد الحوثيين في اليمن. بل إن ميله إلى التصريحات المباشرة، قد يجعله أكثر ميلا للحلول العسكرية، بدلا من الانخراط في مفاوضات معقدة وطويلة.

ورغم أن الرأي العام الأميركي لا يزال حذرا من التورط في نزاعات الشرق الأوسط، فإن ما يُعرف بـ"متلازمة ما بعد العراق"، التي كبّلت القرار الأميركي لعقود، لم تعد مهيمنة كما كانت. والأكثر إثارة للاهتمام أن بعض مسؤولي إدارة أوباما، باتوا اليوم من المدافعين عن تعزيز الخيار العسكري. فقد كتب السفير الأميركي السابق لدى إسرائيل، دانيال شابيرو، مؤخرا عن احتمال توجيه ضربة لإيران، معتبرا أن "التوقيت والحاجة والفرصة قد لا تكون أبدا أكثر ملاءمة مما هي عليه اليوم"، مضيفا أن "الخيار العسكري أصبح الآن أكثر جدوى من أي وقت مضى خلال العقود الأخيرة". كما دعا ريتشارد نيفيو، مسؤول العقوبات السابق في إدارة أوباما ومهندس الاتفاق النووي لعام 2015، إلى تجربة الدبلوماسية مع طهران، دون استبعاد الاستعداد الجاد للعمل العسكري.

أما نتنياهو، الذي كان في بداية ولايته الثانية حينها، فقد أصبح اليوم أطول رؤساء وزراء إسرائيل خدمة، غير أنه يواجه تحديات غير مسبوقة، وهو يصارع من أجل البقاء السياسي في ظل ضغوط متزايدة من خصومه المحليين ومن المجتمع الدولي.

وقد تفاقمت أزمات نتنياهو الشخصية؛ إذ يواجه محاكمة بتهم الفساد والرشوة أمام القضاء الإسرائيلي، بينما تترقبه محاكمة أخرى أمام المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي. وفي هذا السياق، قد يرى في أي مواجهة عسكرية مع إيران فرصة ذهبية، سواء لتعزيز إرثه السياسي، أو لصرف الأنظار عن مشكلاته القانونية المتصاعدة.

أما تهديدات ترمب العسكرية، فلم تكن مجرد خطابات، بل اقترنت بتعزيز غير مسبوق للوجود العسكري الأميركي في منطقة الشرق الأوسط والمحيط الهندي. ففي مارس/آذار الماضي، نشرت واشنطن ست قاذفات استراتيجية من طراز "B-2" في قاعدة دييغو غارسيا- وهي خطوة بالغة الدلالة، نظرا لأن الولايات المتحدة لا تمتلك سوى 19 قاذفة من هذا الطراز، الذي يُعدّ الأكثر تطورا في العالم، ويتيح مداها الكبير تنفيذ ضربات في العمق الإيراني والعودة بسهولة. وقد أثبتت هذه القاذفات فعاليتها في الهجمات الأخيرة التي شُنّت على اليمن.

إيران تمرّ بمرحلة من الضعف الاستراتيجي. فقد أسفرت المواجهات العسكرية مع إسرائيل في عام 2024 عن أضرار جسيمة لحقت بجزء من منظومتها الدفاعية الجوية، كما تعرّض ما يُعرف بـ"محور المقاومة" لانتكاسات حادة

كما كشفت قناة "الحدث" السعودية، في تقرير حصري، عن نشر الولايات المتحدة منظومة الدفاع الجوي المتقدمة "ثاد" (THAAD)، مدعومة ببطاريات "باتريوت"، في الأراضي الإسرائيلية. ويأتي هذا الانتشار استكمالا للإجراءات التي اتخذتها إدارة بايدن العام الماضي، حين نشرت النظام ذاته في إسرائيل، والذي أثبت فاعليته في اعتراض صواريخ الحوثيين في ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، ومؤخرا في مارس/آذار.

وتُظهر التقديرات العسكرية الأميركية والإسرائيلية، أن إيران تمرّ بمرحلة من الضعف الاستراتيجي المتعدد الأبعاد. فقد أسفرت المواجهات العسكرية مع إسرائيل في عام 2024 عن أضرار جسيمة لحقت بجزء من منظومتها الدفاعية الجوية، رغم استمرار الجدل حول حجم الخسائر. كما تعرّض ما يُعرف بـ"محور المقاومة" لانتكاسات حادة، مع تراجع قدرات "حزب الله" و"حماس" بفعل الضربات الإسرائيلية، وانحسار نفوذهما في لبنان وفلسطين وعلى المستوى الإقليمي، فضلا عن سقوط نظام الأسد في سوريا. ويُذكر أن "حزب الله"، الذي لطالما تباهى بامتلاك أكثر من 100 ألف صاروخ موجّه نحو إسرائيل، بات يُعلن استعداده لنزع السلاح لتفادي ضربات إضافية.

أ ب
تُظهر هذه الصورة التي نشرتها البحرية الأميركية إطلاق طائرة إف-35 من حاملة الطائرات "يو إس إس كارل فينسون" أثناء عملها في الشرق الأوسط في 10 أبريل 2025

وفي خضم هذه التحديات، تجد إيران نفسها مضطرة للعودة إلى طاولة التفاوض، مع استعداد غير مسبوق لتقديم تنازلات. غير أنها تدرك تماما أن مظاهر الضعف هذه قد تُضعف موقفها التفاوضي. ولتعويض هذا الخلل، تسعى طهران إلى تصعيد خطابها التهديدي واستعراض جاهزيتها العسكرية. فقد كشف تقرير نشرته صحيفة "التلغراف" البريطانية عن مناقشات بين القادة الإيرانيين حول خيار توجيه ضربات استباقية. وكجزء من هذا التهديد، نشرت وسائل إعلام موالية للنظام مقاطع فيديو مُولدة بالذكاء الاصطناعي تُصوّر هجمات افتراضية، من بينها مقطع يظهر فيه قائد القوات الجوية في الحرس الثوري، الأمير علي حاجي زاده، وهو يوجّه ضربات إلى قاعدة دييغو غارسيا باستخدام صواريخ خرمشهر الباليستية.

كما تتبع إيران تكتيكا آخر يتمثل في التحذير من تداعيات حرب شاملة، إذ حذر مسؤول مقرب من النظام من أن أي هجوم على إيران، قد يؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط إلى أربعة أضعاف، ويتسبب في كساد اقتصادي أسوأ من أزمة عام 1929، فضلا عن موجات هجرة غير شرعية ضخمة إلى الولايات المتحدة، وهي تحذيرات تُصاغ بوضوح لاستهداف الحساسية السياسية لدى قاعدة ترمب الانتخابية.

رغم حرص ترمب على تجنّب زجّ بلاده في صراع جديد في الشرق الأوسط، فلن يتردد في التصعيد العسكري إذا توصل إلى قناعة بأن المسار التفاوضي قد فشل

ورغم أن هذه التهديدات تُعد في جانب منها أدوات للحرب النفسية، فإنها لا تخلو من مخاطر حقيقية. ففي حال شعرت طهران بأنها محاصَرة، فإن بوسعها إشعال اضطرابات ليس في المنطقة فحسب، بل على مستوى عالمي، ما سيؤثر سلبا على استقرار الاقتصادات العالمية.

ويأتي هذا التصعيد في لحظة حساسة، مع استعداد الرئيس ترمب للقيام بجولته الخارجية الأولى في ولايته الثانية الشهر المقبل، والتي يُتوقَّع أن تشمل السعودية وقطر والإمارات. وستسعى هذه الدول الحليفة، رغم تركيزها على برامج التنمية الاقتصادية، إلى تحذير واشنطن من العواقب الكارثية المحتملة لأي تصعيد عسكري مع إيران. وهو منطق يفسر دعمها الصريح– إلى جانب البحرين ومصر– للمسار التفاوضي والمباحثات الجارية في مسقط، باعتباره خيارا أكثر أمنا لاحتواء الأزمة دون تعريض استقرار المنطقة للخطر.

ورغم حرص ترمب على تجنّب زجّ بلاده في صراع جديد في الشرق الأوسط، فلن يتردد في التصعيد العسكري إذا توصل إلى قناعة بأن المسار التفاوضي قد فشل. إذ يُجسد نهجه تجاه إيران مفارقة صارخة: وعد بتحقيق مكاسب استراتيجية كبرى للولايات المتحدة، يرافقه خطر اندلاع صراع كارثي قد يُشعل المنطقة بأسرها. لذا، لا بد لطهران أن تتحلى بحكمة بالغة، وتتفادى أية حسابات خاطئة قد تُفاقم أزمتها وتُشعل المواجهة.

font change