سيوران بترجمة آدم فتحي: عراف اليأس والشقاء القدري

شذرات تستدخل الشعر بالفلسفة العدمية

imdb
imdb
إميل سيوران

سيوران بترجمة آدم فتحي: عراف اليأس والشقاء القدري

من أصل 15 كتابا ألفها الكاتب الروماني الفرنسي إميل سيوران (1911- 1995)، أنجز الشاعر والمترجم التونسي آدم فتحي ترجمة 7 كتب إلى العربية، أصدرتها تباعا "دار الجمل" ابتداء من العام 2010، وآخرها صدر قبل مدة قصيرة. ويعكف فتحي على استكمال مشروعه هذا بترجمة يوميات سيوران التي عثر عليها بعد وفاته، ويربو عدد صفحاتها على ألف صفحة. وفي حال تابع المترجم تعريب ما تبقى من مؤلفات كاتب الومضات أو الشذرات العدمية وصاحب "على ذرى اليأس"، تتوفر لدينا بالعربية ترجمة متكاملة وموثوق بها لأحد كبار كتاب القرن العشرين المؤثرين. أما الكتب التي أنجز فتحي تعريبها فهي: "السقوط في الزمن"، "مثالب الولادة"، "رسالة في التحلل"، "اعترافات ولعنات"، "تمارين في الإعجاب"، "تاريخ ويوتوبيا"، و"المياه كلها بلون الغرق". لكن عنوانه الأصلي "مقايسات المرارة" الذي ترجم منه لقمان سليم (1962 - 2021) مقتطفات إلى جانب مختارات من كتابين لسيوران، ونشرها العام 1991 في عنوان "توقيعات". وقد يكون في العنوان الذي اختاره فتحي للترجمته العربية ميل إلى الصبغة الشعرية للكتاب ولكتابة سيوران عموما، على حساب الصبغة الفلسفية.

الشطح و"الأناقة الجليدية"

آدم فتحي، بين قلة من مترجمين إلى العربية، يعتمد ميله الشخصي الأدبي والفني، في ما يختار ترجمته، إضافة إلى إلمامه الواسع بالمؤلف وأعماله وأساليبه الكتابية. وهذا يمنح ترجماته موثوقية لا تتوافر في أعمال كثرة من المترجمين إلى لغة الضاد. فمنذ سنوات كثيرة تغلب على الترجمات إلى العربية، خصوصا في دمشق والقاهرة وبيروت، خيارات يسودها التقطع والآنية، وأحيانا العشوائية. وهذا إلى جانب ممارسة نقل المعنى الحرفي القاموسي للكلمات والمفردات نقلا مستقلا عن السياقات التي ترد فيها. وبذلك تتحول النصوص المترجمة إلى رصف كلمات ومفردات تفقد المعنى والدلالة، فيما تفتقد كتابة المترجمين الأسلوب الكتابي.

أما ترجمة آدم فتحي أعمال سيوران فتبين قراءتها أنه على دراية معمقة بأسلوب صاحبها الكتابي، بمذهبه أو رؤيته "الفلسفية" للعالم ولتجربة الوجود البشري التي يتصدى لكتابتها بوحشية عارية مكثفة. وبلغة حادة وحاسمة، غير إنشائية ولا بلاغية، وتنفر أو تعادي الفكر الفلسفي المنهجي. وهذا ما يتطلب جهدا كبيرا لأدائه باللغة العربية.

تبين قراءة ترجمة آدم فتحي أعمال سيوران أنه على دراية معمقة بأسلوب صاحبها الكتابي، بمذهبه أو رؤيته "الفلسفية" للعالم

يقول فتحي إنه اكتشف إميل سيوران في بداية التسعينات، ففتنه أسلوب "الأناقة الجليدية" في كتابة ومضاته أو شذراته الفنية التي تستدخل الشعر بالفلسفة العدمية، من دون أن يأخذ أو يستخدم النسق الفكري الفلسفي، بل هو يخرج على الأنساق الفلسفية كافة. وذلك ليتنقل حرا بين النقائض، ونادرا ما يستقر على فكرة محددة. وربما هذا ما يقتضيه فن الومضة أو الشذرة الكتابية، ما دامت وليدة "حال" آنية عابرة، لكنها تتضمن مخزونات جينية من الثقافة والتاريخ والغرائز البشرية. وقد يشبه فن كتابة الومضات ما يسمى "الشطح" في مصطلح الكتابات الصوفية في الثقافة العربية الإسلامية لدى قدامى أعلامها الكبار، أمثال النفري وابن عربي.

لكن سيوران ابن الثقافة الغربية الحديثة وفلسفاتها وتراثها الديني والحضاري والفني، لا سيما في مجال الموسيقى، التي يبدو أنه يعتبرها أصفى الفنون، ربما لأنها على عكس الكلام الذي يعتبره صاحب "مثالب الولادة" أصل سوء التفاهم بين البشر.

غلافا "مثالب الولادة" و"المياه كلها بلون الغرق"

من صفات كتابات سيوران حسب فتحي أنه "مشعل حرائق" و"مفكر الكارثة"، و"كاتب العتمة والأفول". وهو في هذا المعنى لم يكن معنيا مطلقا بإصلاح أي شيء، ما دام الإنسان في رأيه "كائنا شيطانيا". لذا استنكف عن اعتناق أو الدفاع عن أي مذهب وعقيدة. وبدل أن يحاول في شذراته رؤية ضوء ما يُخرج المنهارين من هوة انهيارهم المعتمة، كتب ومضاته لمساعدتهم على المضي في الانهيار. وهو المتأثر في شبابه بفريدريك نيتشه (1844 - 1900)، بفلسفته وشذراته، سرعان ما طلق النيتشوية لاحقا، معتبرا أن صاحبها كائن "يحب الحياة حبا هستيريا"، فيما خلص سيوران إلى أن "الولادة هي الخطيئة الأصلية"، وأنجز كتابا خصصه لهجاء الولادة وسماه "مثالب الولادة"، حسب ترجمة فتحي.

الزمن ومأساة التقدم الحضاري

كتب سيوران في "المياه كلها بلون الغرق" أننا "في بداية الشباب نحاول ممارسة الفلسفة، ونجدّ في مطاردة الأفكار، ونحدس بالهذيان الذي أنتجها، ونحلم بمحاكاته والإفراط فيه". وهو يرى أن "عبادة القوة" النيتشوية تعود إلى "توتر داخلي ألقي به إلى الخارج". أو تعود إلى "نشوة تؤول المستقبل وترضى به".

imdb
ميرتشا إلياده، يوجين يونسكو، وإميل سيوران

كتب سيوران في رسالته إلى صديق بعيد: "بدأت مسيرتي كمصلح للبشرية بارتطام تام بسوء الطالع". وقد يتبادر إلى الذهن أن سوء الطالع المقصود هنا هو مسألة شخصية أو ذاتية تخص صاحبها. لكن سرعان ما نكتشف في سياقات كتابات سيوران، من منطقها الداخلي ورؤيته، أن الوجود البشري برمته، تاريخه وما قبل التاريخ، ليس سوى سوء طالع متواصل. أما السعي في الإصلاح في المذهب السيوراني فهو "خيانة للقدرات البيولوجية"، وخيار للعيش "فوق الزمن أو تحته". أي "كبح جماح الذات، والتصرف ضد الفطرة، وإضعاف النفس" (تاريخ ويوتوبيا).

سرعان ما نكتشف في سياقات كتابات سيوران، من منطقها الداخلي ورؤيته، أن الوجود البشري برمته ليس سوى سوء طالع متواصل

والفطرة السيورانية هي الغرق في متاهة أو دوار الزمن الأبدي الذي لا وجهة له. أما من يتوهم أنه يتقدم إلى الأمام، أي الإنسان الحديث أو المعاصر، فليس سوى "نسخة دنيوية للعنة". فيما "الشعوب التي تجاوزها التاريخ، ولم تعد تتعجل اللحاق به"، هي وحدها من تبقت لديها "فضلات من إنسانية"، ومكثت في "مؤخرة الأمم، ولا تراودها إطلاقا غواية أي مشروع". لكن أبناء تلك الشعوب "يحرمون من ذلك. والمتقدمون" هم الذين يحرمونهم. ذلك أن الحضارة الحديثة "ألزمت نفسها أن تصنع لنا دائما حاجات جديدة، وأن تضاعفها بدون انقطاع". لماذا؟ "لأن تبعات الممارسة الشاملة للسكينة أخطر عليها من حرب دمار شامل". ذلك ما دام القبول "باختزال حاجاتنا والاقتصار على تلبية الضروري منها (يؤديان إلى انهيار) حضارتنا على الفور" (السقوط في الزمن).

وفي ختام كتابه هذا الذي جعل معظم فصوله أقرب إلى كتابة فلسفية بعيدة عن أسلوب الومضات، يعود سيوران إلى ومضاته، فيكتب: "أراكم الغابر ولا أكف عن صناعته وإلقاء الحاضر فيه، من دون أن أمنحه متسعا من الوقت. (...) فأن نعيش يعني (...) أن نرى الممكن غابرا مقبلا، حتى يتحول كل شيء إلى ماض، على سبيل الافتراض، فلا حاضر بعد ذلك ولا مستقبل (...) أنا أحضر زمنا ميتا وأتمرغ في اختناق الصيرورة".

غلافا "تمارين في الإعجاب" و"السقوط في الزمن"

لكن سيوران سرعان ما يبادر إلى الاعتراف بمأساته وأمثاله الذين "سقطوا" من الزمن وصاروا خارجه، على خلاف من يعيشون ويتخبطون فيه. وهو يعترف تاليا، شأن أمثاله، بأن "رغبة وحيدة" تراوده: "العودة إلى الزمن". ثم بعد أن يكتب أنه أقصي "من الزمن"، يكتب أيضا: لقد "جعلته مادة وساوسي". أما "العهد الذي كان فيه الزمن مألوفا بالنسبة إلي، فأصبح غريبا عني وهجر ذاكرتي ولم يعد منتميا إلى حياتي".

ولا يفصح صاحب "تمارين في الإعجاب" متى حدث ذلك. والأرجح أن الشيخوخة هي التي تخرج الكائن البشري من الزمن، وترميه في جحيم دنيوي. أي في فراغ زمن يتمطى ولا ينقضي. وهذه حال سيوان الذي أصيب منذ شبابه بداء الأرق وعذابه الذي أسس لكتابته شذراته العدمية التي لا يجاريه فيها أحد. وعن الأرق كتب: "كلما لفظت من النوم، لا أملك أي قوة لمواجهة العذاب اليومي للزمن".

وفي يومياته المكتشفة بعد رحيله، كتب ما يرجح أنه يعود إلى شيخوخته: "قضيت الظهيرة في حالة نوستالجيا حادة: حنين لكل شيء، للوطن والطفولة، لكل شيء أضعته، لكثير من السنين العقيمة، لكل يوم لم أبك فيه... الحياة لا تناسبني. لقد خلقت من أجل حياة موحشة في عزلة مطلقة، خارج الزمن، في جنة مغتربة. وجعلت من موهبة الحزن لدي رذيلة".

أن نرى الممكن غابرا مقبلا، حتى يتحول كل شيء إلى ماض، على سبيل الافتراض، فلا حاضر بعد ذلك ولا مستقبل

وفي مذكراته كتب الشاعر الروماني قسطنطين نويكا (1909 - 1997): "أتذكر أني قلت لسيوران إنني قد تابعته باهتمام أخوي طيلة حياتي"، وتابع: "واقع أنك لم تضع حدا لحياتك بعد 40 سنة من رثائك شقاء الولادة، يؤكد لي أن الحياة لا تزال جميلة. جذبني جانبا وأجاب: اسمع يا رجل، لا تخبر أحدا، أنا أحب الحياة".

النفري وسيوران

إميل سيوران إبن شرعي لعظمة القرن العشرين الأوروبي ورعبه. إنه نيتشوي ومتمرد على نيتشه. ونوع من الكتاب الذين يتحقق في كتاباتهم قول المتصوف العربي الإسلامي الشهير النفري: "كلما اتسع المعنى ضاقت العبارة". وهو القائل في "المواقف والمخاطبات": "أوقفني في الاختيار وقال لي كلهم مرضى". أما سيوران فكتب أن "الألم من يتمتع بميزة الحضور في كل مكان". وكتب أيضا: "وحدها الكائنات التي تعيش بلا ذاكرة لم تغادر الفردوس بعد" (المياه كلها بلون الغرق).

imdb
إميل سيوران

في الشكل أو في الأسلوب الكتابي، ربما ثمة قرابة ما بين شذرات سيوران المكثفة، المصفاة والمتقشفة والقاطعة النبرة، وبين بعض ما كتبه النفري. أما في المضمون وفي الحقل التعبيري واللغوي، وفي الحمولة الفكرية والفلسفية والأخلاقية، فيبلغ الاختلاف بين ما كتبه الرجلان حد التعارض التام. وهذا طبيعي بين "فيلسوف" صوفي عربي إسلامي في القرن العاشر من العصر العباسي، وكاتب نهل من ثقافة القرن العشرين الأوروبية، طولا وعرضا، ومن مسبقاتها الفلسفية في عصر التنوير، وعاصر النازية الألمانية ومحارقها وحروبها، وكان في شبابه الأول من حاملي لوائها. ثم عاصر الستالينية ومعتقلاتها وترويعها. لكنه خرج من كلتا الظاهرتين المدمرتين مرتاعا يائسا شكاكا في إنسانية الإنسان حتى العبثية والعدمية.

الحياة مهنة حشرات؟

يصف فتحي سيوران بأنه "عاشق الحياة الانتحاري بامتياز"، مشددا على أننا "نحتاج إلى كتاب (مثله) في هذه العتمات التي تحوط الإنسانية من كل جانب". فصاحب "غروب الأفكار" (1938) و"غواية الوجود"، ليس مبشرا بالضوء، بل هو على عكس ذلك ونقيضه: عراف في محراب اليأس من الإنسان الشقي شقاء وجوديا وقدريا لا فكاك له منه، وخصوصا في الأزمنة الحديثة.

أغلفة "مثالب الولادة" و"المياه كلها بلون الغرق"

وقد تكون حاجتنا إلى سيوران هي الحاجة إلى كاشف عتمات الوجود البشري وسبر أغواره، ما دامت "الحياة - بحسبه - مهنة حشرات". فهو غالبا ما يقلب الحقائق والمعاني الراسخة على قفاها، وعلى ركامها يجلس محدقا في أفعال البشر وأقوالهم ومعتقداتهم، في غرائزهم الدهرية وأحوالهم المتقلبة وأهوائهم وحاجاتهم وشهواتهم الرجراجة، في مثلهم العليا والسفلى، فيعتصرها في شذرات كتابية حادة في معناها ودلالتها على اللايقين الذي يغمر العالم، وعليه يتأسس الوجود البشري الهش والمدوخ.

لكنه في رحلته هذه يعبر الفلسفات والأخلاقيات والجماليات، ليرى أن "ما من شيء إلا وهو موسيقى، باستثناء المادة".

قد تكون حاجتنا إلى سيوران هي الحاجة إلى كاشف عتمات الوجود البشري وسبر أغواره، ما دامت "الحياة - بحسبه - مهنة حشرات"

والأرجح أن النواة الكامنة، المتلونة والجوابة في شذرات سيوران، مستلة من ليل الوجود وتاريخ الفلسفة والأديان، ويمتزج فيها اللاهوت بالناسوت، وتضرب في أرض وضاعة الكائن الجوهرية، وتساميه المتعالي. ذلك أنه يرى أن لا معرفة إلا عبر الحواس. وكل تجربة عميقة تصاغ بعبارات فيزيولوجية. أما "الحكمة (فهي) أن نتحمل بكبرياء (تلك) المذلة التي تسلطها علينا ثقوبنا". الثقوب المقصودة هنا، هي "الفتحات التسع" في أجسام الكائنات الحية. وفي هذه الحال "ماذا يصنع الحكيم؟"، يتساءل سيوران، ثم يجيب: "يستسلم إلى الفرجة والأكل". أين؟ "في قاعة النوم الكبيرة"، وهي "الكون". وهذا وفقا لنص من الفلسفة الطاوية الهندية، حيث "الكابوس هو الطريقة الوحيدة للوعي". أما "أن تكون إنسانا حديثا فهو أن تبحث عن عقار لما أفسده الدهر". ويتساءل سيوران: "من أين جاء رعبنا من الحشرات؟"، ويجيب متسائلا: "ألا يكون من خوفنا من إغواء أخير، من سقطة وشيكة لا قيام بعدها، تجعلنا نفقد حتى ذكرى الفردوس؟". لذا يعلن: "كم أتمنى أن أكون نبتة، حتى وإن استوجب ذلك أن أحرس كتلة براز".

ليالي الأرق

هل تكمن في ما كتبه سيوران أصداء كارثة أوروبا الكبرى في النصف الأول من القرن العشرين، عندما استفاقت منها وسارعت إلى الشفاء منها في سرعة قصوى، فيما لم يكتف هو بالتشكيك بشفائها، بل راح ينعيه؟

AFP
إميل سيوران في غرفته في باريس

وذلك بقدر ما هو ذاك الناعي قارض كتب وفلسفات وتاريخ أفكار وفنون. وهذا ما مكنه من أن يصب مخزون الثقافة الاوروبية وسواها من الثقافات في شذراته الجليدية الأسلوب، متناولا - وفقا لمترجمه آدم فتحي - "دوار الزمن" في "توليف عجيب بين الحكمة والهذيان (…) وسخرية الوعاظ الكلاسيكيين".

في مقدمة كتابه الأول "على ذرى اليأس" (1934)، أشار سيوران إلى ليالي أرقه الطويلة بلا هدنة ولا قاع، فاضطر إلى التجوال ليلا في شوارع خالية سوى من "بنات الليل الوحيدات". من وحي تلك الليالي وضع للأرق التعريف الآتي: "وعي مدوخ قادر على تحويل الفردوس غرفة تعذيب".

font change

مقالات ذات صلة