العراق... 22 عاما بين "جمهورية الخوف" و"دولة المافيا"

انتصار الأعراف السياسية للمحاصصة وتقسيم الغنائم

أ ب
أ ب
عراقيون يتجولون في سوق الكتب في شارع المتنبي ببغداد، العراق، الجمعة 4 أبريل 2025

العراق... 22 عاما بين "جمهورية الخوف" و"دولة المافيا"

سنتان بعد العشرين عاما على تغيير نظام الحكم في العراق، وهذه المرحلة شكلت ولادة جيل كامل، هو الآن في مرحلة الشباب. وجيل آخر، وأنا منهم، كان ينتظر لحظة سقوط الدكتاتورية، وكنا نحمل الآمال نحو مستقبل نظام سياسي جديد، ينسينا محنة العيش تحت ظل الطغيان والاستبداد والحرمان. وجيل ثالث عايش تجربة الجيلين وأكثر، وهو يرى أن أحلامه بالرفاهية والعدالة، والعيش في دولة تحترم كرامته وإنسانيته، وتهتم بمتطلباته أصبحت أضغاث أحلام، ولم تعد في العمر بقية حتى يشهد هذه الدولة المرجوة.

في مقال كتبه الدكتور جابر حبيب جابر في صحيفة "الشرق الأوسط" قبل 17 عاما، تحت عنوان: "5 سنوات بعد الحرب: التمثال الذي هوى.. الأمل الذي يتلاشى". لخص فيه توصيف لحظة سقوط رمزية حكم الدكتاتور: "كم كان عظيما وهائلا وصادما ذلك الحدث، حيث هوى التمثال على الأرض كصاحبه، معلنا أنه كان مجرد وهم، وأن (جمهورية الخوف) بنت عظمتها على الخوف، وعلى الانتظار... ولكن مجددا كان العراقيون بحاجة إلى من يعينهم على إسقاط التمثال، جاءت الدبابة الأميركية، وسحبت التمثال ليهوي، أعلن احتلال العراق في لحظة تحريره، فتوقف العراقيون عاجزين حتى هذه الساعة عن تعريف ما حدث".

بسقوط تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس سقطت "جمهورية الخوف"، والتي وصفها كنعان مكية في كتابه الذي يحمل العنوان ذاته، ويُعد وثيقة تاريخية، لنمطية إدارة الدولة الدكتاتورية لمنظومة العنف والإرهاب، إذ كان شاهدا على حقبة ملأى بالألم والمآسي من تاريخ العراق المعاصر. يقول مكية في مقدمة كتابه: "إن الخوف، لم يكن أمرا ثانويا أو عَرَضيا، مثلما في أغلب الدول (العادية)، بل أصبح الخوف جزءا تكوينيا من مكونات الأمة العراقية". وبسبب ممارسات العنف من القتل والتهجير "كان (النظام) يغرس في كل من الضحية والجلاد القيم ذاتها، التي يعيش ويحكم من خلالها. فعلى مدار ربع قرن من الزمان، جرت عمليات إرساء الحكم على مبادئ من عدم الثقة، والشك، والتآمرية، والخيانة التي لم تترك بدورها أحدا إلا وأصابته بعدواها".

عندما تنهار سطوة الاستبداد، نجد أنفسنا فجأة في مجتمع يفتقر تماما إلى الإجماع على أي شيء، ونجد أن سقوط الدكتاتورية هو سقوط للدولة؛ لأن الدكتاتور كان هو من يجسد الدولة، والدولة تتجسد في شخصية الدكتاتور

هذا التوصيف، هو حقيقة "جمهورية الخوف" التي سقطت في 9 أبريل/نيسان 2003. ولكن عندما تنهار سطوة الاستبداد، نجد أنفسنا فجأة في مجتمع يفتقر تماما إلى الإجماع على أي شيء، ونجد أن سقوط الدكتاتورية هو سقوط للدولة؛ لأن الدكتاتور كان هو من يجسد الدولة، والدولة تتجسد في شخصية الدكتاتور. وعندها يتلاشى النظام، وتختفي قوة القانون، وتغيب المؤسسات التي تحتكر العنف. ولذلك، نكون مشتتين بين انتماءات طائفية، وقومية، ودينية، وتسعى كل التجمعات تحت لافتة تلك العناوين إلى ضمان مصالحهم ومستقبلهم الشخصي بقوة السلاح لا القانون.

العيش في ظل "جمهورية الخوف" يدمر ثقة الناس ببعضهم البعض، ويميت الأمل في المستقبل، إذ يكون الناس ميالين إلى الحذر من التعبير الصريح عن آرائهم، أو السعي للتغيير، كما يبالغون في تصوير الخطر المحدق بمن يعارض سياسات الدولة. ينعكس هذا على الجيل الجديد، فيكون مثاله البارز هو الفرد المتوحد والمهمش، المنكر لكل شيء، والغاضب من كل شيء. الفرد الذي يبحث عن الاستقرار واليقين، لكنه لا يستطيع رؤية المسارات الطبيعية، لا يستطيع تحديد مصالحه، ولا يستطيع تنظيمها، كما لا يستطيع الثقة بالآخرين، كي يعمل معهم على مصلحة مشتركة.

أ ف ب
عراقيون يمرون بجدارية تُظهر الرئيس صدام حسين يصلي أمام مسجدي كربلاء الشيعيين الرئيسيين في العراق، 9 أبريل 2000

هناك تناقض في طبيعة الأنظمة الشمولية، إذ إنها تفرض نمطها في استقرار نظام الحكم بالقوة، لكن القوة التي تفرض فيها الاستقرار، تعمل على تغذية التفكك، وانعدام الثقة في المجتمع الذي تحكمه، وحين تنهار ركائز النظام، تبرز إلى المجال العام كل الخلافات والصراعات الاجتماعية، التي كان يغطي عليها النظام الشمولي. وهذا ما شخصه كنعان مكية في كتاب "جمهورية الخوف"، إذ إن نظام "البعث" وعلى نحو مثير، وصل إلى مرحلة الضعف في سنواته الأخيرة، فلم "يعد قادرا على السيطرة على المجتمع، مثلما اعتاد أن يفعل دائما، لم تعد حتى قوانين العقوبات الوحشية تفي بالغرض، لذلك لجأ النظام إلى غرس الطائفية، والشللية، والعشائرية، كأدوات جديدة لشرعنة حكمه. ولأن العراقيين تحت قبضة حكم صدام حسين لم يعودوا يخشون الطاغية وشرطته السرية، كما هو معتاد، لزم الأمر تشجيعهم على أن يخشى بعضهم البعض الآخر".

تختزن ذاكرة العراقيين الكثير من الحكايات عن "جمهورية الخوف" التي وثقها كنعان مكية في كتابه، ولا يزال الكثير منهم يعيشون مع تلك الذكريات. والعراقيون كغيرهم من سكان المعمورة، يهيمون في هوس المقارنة بين الماضي والحاضر. وربما يكون كنعان مكية قد اختصر تلك المقارنات في هذين العنوانين: "جمهورية الخوف" قبل 2003، و"دولة المافيا" بعد عشرين عاما على تغيير النظام الدكتاتوري.

في لحظة "الوعي المتأخر" كما يصفها الصحافي العراقي سهيل سامي نادر، وهي اللحظات التي نستذكر فيها الماضي بإدراك الحاضر. يكتب كنعان مكية مقالا مطولا في مجلة "Journal of Democracy" الأميركية، في الذكرى العشرين على تغيير النظام في العراق، عنوانه: "دولة المافيا العراقية" نشر في عدد أبريل 2023.

بدأ مكية مقاله باستذكار تفاصيل اجتماع المعارضة، قبل بدء العمليات العسكرية الأميركية ضد نظام صدام حسين، وسجالات الخلاف بين فصائل المعارضة، وبين الإدارة الأميركية في مرحلة ما بعد إسقاط النظام. يقول: "كان يفترض أن يكون العراقيون (محرَرين) من الاستبداد، لا أن يكونوا (محتلين)، بيد أن هذه الفروقات الدقيقة في معاني الكلمات، لم يفهمها الأشخاص العاديون الذين لهم تاريخهم الخاص المر، فيما تعنيه كلمة (الاحتلال)".

يمكننا القول إنه لا توجد اليوم (دولة) في العراق بالمعنى المتعارف عليه لهذه الكلمة، وذلك لأن وسائل العنف لا تتركز في يد سلطة واحدة، والتي هي من أهم مقومات أي دولة

وبعد أن ينتهي من سرد خطأ الأميركان في الإعداد للمرحلة الانتقالية، يبدأ بنقد الفاعلين في العملية السياسية بعد 2003، ومنظومة الحكم التي تم تشكيلها والأعراف السياسية التي أنتجوها. ويلخص هذا الموضوع بالقول: "ملخص الأمر، يمكننا القول إنه لا توجد اليوم (دولة) في العراق بالمعنى المتعارف عليه لهذه الكلمة، وذلك لأن وسائل العنف لا تتركز في يد سلطة واحدة، والتي هي من أهم مقومات أي دولة. إن الغالبية العظمى من القرارات الحاسمة، ليست بأيدي كبار المسؤولين في الدولة؛ بل يبت فيها سماسرة السلطة الغامضون، وهم (زعماء) المافيات العراقية، الذين يديرون ويترأسون (جيوشا) خاصة بهم".

يعتقد كنعان مكية أن المشكلة الرئيسة، هي في نظام المحاصصة، الذي يرتبط ارتباطا وثيقا بالفساد، لأن "المحاصصة هي نظام مصمم خصيصا للفساد واسع النطاق؛ إذ إنه مُعد لتحويل موارد الدولة إلى خزائن الأحزاب، والكتل الطائفية والميليشيات، وليس إلى مشاريع على أرض الواقع. وبالتالي، فإن الفساد في هذه الحالة منهجي، وليس عرضيا، أو مستشريا فقط. أصلا، يصعب تسميته (فسادا)، إذ إنه مشرع قانونيا". لذلك "استمرت المحاصصة المبنية على (إجماع) رؤوس الكتل، لتُمثل النظام المفضل في أوساط النخبة. أما مشاكل مثل هذا النظام، فقد نشأت بسبب عدم قدرته على تقديم السلع والخدمات إلى الناس بشكل عام".

رويترز
رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي يلقي كلمة خلال التصويت على الحكومة في مقر البرلمان ببغداد، العراق، 7 مايو 2020

ويصف الأزمة في التأسيس والممارسة السياسية في العراق، بأنها أصبحت "ملعبا للجماعات التي تتبنى سياسة الهوية (والكتل البرلمانية المقابلة لها)، حيث تتنافس هذه الجماعات فيما بينها على أساس ما تتخيله من معاناتها في عهد صدام. خلالها، كان يكمن السؤال المركزي في من مظلوميته أكبر من الآخر؟ ولذلك يحق له الحصة الأكبر من غنائم الدولة (أي موارد النفط)".

في مقال كنعان مكية، تبدو واضحة فكرة الدفاع عن تجربة مصطفى حكومة الكاظمي، ومحاولة إدانة حكومة عادل عبد المهدي. وكأنما يريد أن يصف تجربة الكاظمي، بأنها كانت تمثل فرصة لتصحيح المسار! وهنا يقول مكية: "يعد الكاظمي أكبر أمل للعراق في السنوات العشرين الماضية". لكنه "كان مكبلا في منصبه"! ويصف من كان يكبله بأنهم: "أصحاب النفوذ اليوم في العراق، هم من جيل عبد المهدي، ويشاركونه العقلية نفسها. إن هذا الجيل– وليس الغزو الأميركي عام 2003– هو ما دفع الشعب العراقي إلى حافة الهاوية".

مكية يعترف بأن الكاظمي، لم ينجح في مواجهة المعضلة، والتي يعترف باستحالة حلها، والتي "تتمثل في محاولة استرضاء كل من الطبقة الحاكمة الراسخة في مقاعدها، حسب نظام المحاصصة، والشباب العراقي المنتفض ضد نظام المحاصصة، والمنتشر في الشوارع". واللافت أن مكية الذي شخص أزمة منظومة الحكم من خلال الفاعلين السياسيين، يحاول إقناع نفسه بأن مصطفى الكاظمي، كان يحمل بادرة أمل نحو التغيير، حتى وإن كان بسيطا. وهنا القفز على حقيقة أصبحت واضحة أمام أنظار الجميع، أن المنظومة المأزومة التي أسست "دولة المافيات" وصادرت الدولة ومؤسساتها، وحولتها إلى إقطاعيات تتقاسمها فيما بينها على أساس "الغنيمة"، والقوى الخارجية المؤثرة في قرار هذه المنظومة وتشكيلها، لا يمكن لها أن تقدم رجالات دولة قادرة على إعادة الاعتبار للدولة. ففي كل دورة حكومية تنتصر الأعراف السياسية للمحاصصة وتقسيم الغنائم، ويتحول منصب رئيس الوزراء إلى مجرد موظف يدير شؤونها، وينظم عملية تقاسم الاقتصاد الريعي بين الأوليغارشيات الحاكمة.

font change