لم يكن الكتاب يوما مجرد حاوية لحروف صامتة، أو وسيلة تقنية لتخزين المعارف، بل هو كائن نابض بالمعنى، حامل لذاكرة الشعوب ولسردياتها الكبرى والصغرى على حد سواء. فهو ليس أداة فحسب، بل كينونة ثقافية تختزن تحولات الإنسان الفكرية والاجتماعية، وتوثّق صراعاته الوجودية مع ذاته ومع الآخر، وتؤرخ لرحلته الطويلة في سبيل فهم العالم وإعادة صياغته. فالكتاب يُعدّ وسيطا بين الأجيال، ينقل تجارب الأفراد والجماعات، ويحوّل القصص المتفرقة إلى نسيج جامع يربط الماضي بالحاضر، ويؤسس لرؤية أوسع للمستقبل. ومن خلاله تحفظ الأمم ذاكرتها، وتوثّق لحظات انتصارها وهزائمها، وتسائل نفسها في المرآة التي يعكسها النص المكتوب.
في ظل هذا الوعي، تحتفل دول العالم، في 23 من شهر أبريل/نيسان من كل عام، بـ"اليوم العالمي للكتاب وحقوق المؤلف"، احتفاء بالكلمة، وتقديرا للجهد الإبداعي الذي يساهم في صوغ العالم عبر الحروف. وقد اعتمدت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) هذا التاريخ يوما عالميا منذ عام 1995، انطلاقا من إيمانها العميق بأهمية تشجيع القراءة وتعزيز حضور الكتاب في الحياة العامة. اختيار هذا اليوم جاء تحديدا لأنه يصادف ذكرى وفاة نخبة من رموز الأدب العالمي، أمثال وليم شكسبير (1064-1616 )، ميغال دي ثيربانتس(1547-1616 )، وغارثيلاسو دي لا فيغا (1539-1616 )، ولم يكن هذا التزامن اعتباطيا، بل انعكاسا لفكرة جوهرية: أن الكتابة ليست مجرد فعل فردي يمارسه المؤلف في عزلته، بل هي ممارسة إنسانية متصلة بالحركة الجماعية للمعرفة، وبالسعي إلى صوغ الوعي والذاكرة المشتركة للبشرية.
الاحتفاء بالكتاب
في هذا المعنى، فإن الاحتفال السنوي بالكتاب لا ينبغي أن يُختزل في مظاهر احتفالية أو فعاليات موسمية، بل يجب أن يُفهم على أنه دعوة متجددة لاستعادة مكانة الكلمة في زمن تتآكل فيه تقاليد القراءة العميقة، وتزدهر فيه ثقافة "التصفح السريع" على الأجهزة الذكية والاستهلاك اللحظي للمعلومة. فالتراجع الملموس في نسب القراءة، خصوصا في عدد من الدول العربية، كما يشير العديد من الإحصائيات، يفتح الباب واسعا للتساؤل حول البنية الثقافية، ودور المؤسسات التربوية، ومدى توفر السياسات الوطنية الكفيلة بتحفيز القراءة كعادة يومية.