تداعيات إدانة مارين لوبان والتحول الأوروبي نحو "الترمبية"

إعادة تركيب المشهد السياسي الفرنسي

أ.ف.ب
أ.ف.ب
رئيسة الكتلة البرلمانية لـ"التجمع الوطني"، مارين لوبان، باريس في 6 أبريل

تداعيات إدانة مارين لوبان والتحول الأوروبي نحو "الترمبية"

ازداد تخبط المشهد السياسي الفرنسي منذ الحادي والثلاثين من مارس/آذار الماضي، إثر صدور الحكم القضائي بحق زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان الذي يحرمها من الأهلية السياسية لمدة خمس سنوات، ويعني ذلك مبدئيا غيابها عن الانتخابات الرئاسية عام 2027.

وسيؤثر هذا الغياب على الخريطة الانتخابية لأن السيدة لوبان كانت إحدى أبرز المرشحين لخلافة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. لن يكون الأمر مجرد ضربة كبيرة لحزبها، "التجمع الوطني" فحسب، بل سيترك آثارا على تموضع كل القوى وخاصة في معسكر اليمين الواسع.

أحدث هذا القرار تشنجا جديدا في فرنسا التي تشهد حالة تشتت سياسي وتراجع اقتصادي. أما بالنسبة لمارين لوبان تحديدا فالضربة شبه قاضية، لأنه في ظل غياب أفق تراجع القضاء، تشبه هذه الإدانة حكما مبرما ينهي المسيرة السياسية لهذه الشخصية التي ورثت أباها وأسهمت بقوة في تحويل حزبها كي يكون مؤهلا للمشاركة في الحكم وتطبيع وضعه. وتمتد انعكاسات هذه الهزة سلبيا خارج فرنسا بسبب موقع لوبان الشخصي وموقع حزبها في التركيبة الفرنسية والأوروبية في زمن الموجة الترمبية عالميا.

خلط الأوراق

تحول التموضع السياسي في فرنسا منذ 2017، من ثنائية اليمين التقليدي واليسار التقليدي إلى تركيبة جديدة مع صعود منتظم لليمين المتطرف واليسار الراديكالي. وبعد تأكد هذا التحول في استحقاقات 2022 و2024، تأتي قضية لوبان وتخلط الأوراق في المشهد المشتت.

وقد انقسمت الأوساط السياسية الفرنسية بشدة حول الحكم ضد زعيمة اليمين المتطرف، إذ اعتبر الفريق المؤيد أنه ليس سابقة بحد ذاته وأن السلطة القضائية قامت بواجبها في محاسبة المسؤولين عن استخدام الأموال العامة بشكل غير قانوني. بينما يرى معارضو الحكم أن هذه القضية تندرج في إطار لعبة سياسية تهدف لضرب حزب "التجمع الوطني" وإبعاد لوبان عن الساحة الانتخابية.

اعتقد الكثير من المراقبين والسياسيين واليمينيين تحديدا أن هناك تسييسا للحكم، خاصة أنه بدا قاسيا مستنفدا حدوده القصوى لا سيما لجهة التنفيذ الفوري. والأدهى أن حظوظ الاستئناف القضائي تبدو معدومة لعدم وجود سوابق عودة عن الحكم في حالات مشابهة، ولأن المهل القضائية ستجعل من أي إعادة بت في القضية متأخرة عن مواعيد الترشح للرئاسة بعد عامين.

يتبين من مراقبة رد فعل لوبان على قرار المحكمة واعتباره قرارا سياسيا يهدف إلى إقصاء الأفكار الشعبوية من الحياة السياسية، أن هجومها كان على غرار هجمات دونالد ترمب على القضاة الذين لاحقوه

مع هذه الإدانة، تلقت استراتيجية التطبيع التي ينتهجها "التجمع الوطني" ضربة موجعة أيضا. ففي السنوات الأخيرة، أكد كل من مارين لوبان وجوردان بارديلا مرارا وتكرارا على أهمية أن يكون المسؤولون المنتخبون قدوة، وأن لا يكون عندهم سجل جنائي. بالرغم من ذلك هناك انطباع سلبي عام عند جمهور معسكر اليمين بكل فئاته حيال الديمقراطية الفرنسية مع التشكيك في مقوماتها.

يترافق ذلك مع انخفاض ثقة المواطنين في النظام القضائي. وبحسب مقياس لأحد مراكز الاستطلاع نشر في فبراير/شباط الماضي، فإن 44 في المئة فقط من الفرنسيين يثقون في القضاء. وهكذا نجد أرضا خصبة لحشد الناخبين المنتقدين للنظام لصالح أقصى اليمين أو بعض اليمين. بيد أن خصوم السيدة لوبان يشيرون إلى أن القضاء يصدر أحكامه وفق قوانين تسنها السلطة التشريعية. 

تبعا للنقاش المحتدم والانقسام الحاد، يبدو أنه من الصعب على النجم الصاعد لأقصى اليمين الشاب جوردان بارديلا أن يكون البديل لقلة خبرته وصغر سنه، وزيادة على ذلك من المرجح أن يواجه احتمال التنافس مع ماريون مارش حفيدة جان ماري لوبان. ولذلك سيفيد إقصاء مارين أحد أقطاب اليمين التقليدي القريب من أطروحات اليمين المتطرف. وفي هذا السياق يبرز اسم برو نوريتايو، وزير الداخلية الحالي والمنافس قريبا على رئاسة حزب "الجمهوريين" (اليمين المعتدل).

وفق تركيبة حزب "التجمع الوطني" يعتبر جوردان بارديلا الخليفة الطبيعي للسيدة لوبان التي أكدت لأول مرة قبل دخولها قاعة المحكمة، أن هذا النائب الأوروبي لديه "القدرة على أن يكون رئيسا للجمهورية". ولكن ذلك لا يبدو أمرا مضمونا حتى الآن، إذ لا تزال مارين لوبان تمثل القوة الأيديولوجية الدافعة لحزبٍ هرمي ورأسيٍ للغاية.. ومن هنا، لن تختفي مارين لوبان من الحياة السياسية بين عشية وضحاها. وقد تُرسي خلافة تدريجية، لكن قد تظهر خلافات داخلية أيضا.

مع هذه المحاكمة التي تأتي بعد وفاة مؤسس الحزب جان ماري لوبان هذا العام، يتساءل البعض عما إذا كان الوقت قد حان لطي صفحة تنظيم الحزب حول أسرة لوبان.

أ.ف.ب
جان ماري لوبان، زعيم حزب "الجبهة الوطنية" الفرنسي اليميني المتطرف، وابنته مارين لوبان خلال مسيرة للاحتفال السنوي للحزب، في 1 مايو 2009 في باريس

في السياق نفسه، قد يكون قرار 31 مارس/آذار لصالح مرشحين من اليمين التقليدي على حساب حزب "التجمع الوطني" لأنه حسب المحلل السياسي البارز آلان دوهاميل "إذا ذهب حزب لوبان- بارديلا بعيدا في تحدي المبادئ الأساسية للديمقراطية، فإن الناخبين الأحدث الذين لجأوا إلى الحزب خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة قد يكونون أكثر تحفظا تجاهه". ويشمل ذلك بشكل خاص الناخبين من الطبقة المتوسطة والعليا، الذين سيعودون للتصويت لصالح مرشح أكثر جدية مثل اليميني برونو ريتايو.

وفي الإجمال تبقى اللعبة مفتوحة ومن المبكر توقع سيناريو محدد لعام 2027، خاصة أن "الحزب الاشتراكي" (يسار معتدل) في صدد انتخابات داخلية لتعيين قيادته، وحزب أقصى اليسار "فرنسا الأبية" يدافع دوما عن نهجه المؤدلج تحت زعامة  مؤسسه جان لوك ميلانشون مرشحه الرئاسي الدائم وربما المفضل أيضا هذه المرة. وليس من المستبعد بروز مفاجآت ممثلة بوجود شخصيات جديدة في السباق ومنها دومينيك دوفيلبان من اليمين الديغولي والذي شغل من قبل رئاسة الحكومة ووزارة الخارجية. 

الانعكاسات في أوروبا 

نتلمس من خلال ردود أفعال بعض شخصيات معسكر اليمين تحديا مباشرا للعدالة والمؤسسات وشرعية الديمقراطية الليبرالية. وقد يُنذر هذا بتحول في حزب "التجمع الوطني" اليميني المتشدد نحو شكل من أشكال الإفراط، أو ما يُشبه الترمبية. 

يتبين من مراقبة رد فعل لوبان على قرار المحكمة واعتباره قرارا سياسيا يهدف إلى إقصاء الأفكار الشعبوية من الحياة السياسية، أن هجومها كان على غرار هجمات دونالد ترمب على القضاة الذين لاحقوه.

وقد التف أنصار لوبان حولها، واصفين الحكم بأنه اعتداء على المسار الديمقراطي. وكتب جوردان بارديلا، على منصة "إكس": "ليست مارين لوبان وحدها من أُدينت ظلما، بل إن الديمقراطية الفرنسية هي من تُعدم".

لن يؤثر إقصاء لوبان بشكل مباشر على القارة القديمة التي تواجه صعود الأفكار الشعبوية، لكن كل اليمين المتطرف الأوروبي أصيب بالصدمة من المجر إلى إيطاليا مرورا بهولندا وألمانيا والنمسا وإسبانيا

هذا بالضبط هو الصراع الذي يريده أقصى اليمين الذي قال بعض معلقيه إن تقويض الثقة في النظامين القضائي والسياسي، من خلال تصويرهما على أنهما فاسدان، متحيزان ومنفصلان عن الشعب، هو استراتيجية ناجحة على خطى استراتيجية ترمب.

وقد تعاطف الكثيرون مع مارين لوبان في أوروبا والعالم، واللافت أن موسكو وواشنطن توافقتا على التضامن مع لوبان. ووصل الأمر بالرئيس دونالد ترمب للتغريد قائلا: "إنه أمر سيئ للغاية بالنسبة لفرنسا ولشعب فرنسا العظيم، فقبل تحقيق لوبان نصرها الكبير، قاموا بملاحقتها بتهمة بسيطة أقرب إلى الخطأ الحسابي". 

وعلى ما يبدو فإن أممية أقصى اليمين التي تجمع ترمب وأقصى اليمين الأوروبي اعتبرت الضربة موجهة لها، ويذكرنا ذلك بالخطاب العاصف لنائب الرئيس الأميركي الأيديولوجي جيه دي فانس في مؤتمر ميونيخ في فبراير الماضي، حينما انتقد ضمورَ الديمقراطية في أوروبا وما سماه تراجع حرية التعبير، وحينها صب دي فانس جام غضبه على رومانيا بسبب إيقاف القضاء لانتخابات كانت تحمل في الصدارة مرشحا يمينيا متطرفا مقربا أيضا من ترمب ومن بوتين. 

أ.ف.ب
تجمع لدعم مارين لوبان، بعد إدانتها بقضية وظائف وهمية في البرلمان الأوروبي، في مرسيليا في 5 أبريل

هكذا يتشابك البعد السياسي الداخلي مع البعدين الأوروبي والعالمي في مقاربة إعادة تركيب المشهد السياسي الفرنسي بعد استبعاد لوبان. 

في ظل الوضع السياسي المتأزم داخليا، قد يتأثر وزن فرنسا داخل الاتحاد الأوروبي، ويمكن أن تؤدي التحولات في التوجهات السياسية داخل فرنسا إلى تحولات في السياسات الأوروبية الكبرى، ما قد يعقد مستقبل الاتحاد الأوروبي في السنوات القادمة.

في مطلق الأحوال، لن يؤثر إقصاء لوبان بشكل مباشر على القارة القديمة التي تواجه صعود الأفكار الشعبوية قبل هذا الحدث، لكن كل اليمين المتطرف الأوروبي أصيب بالصدمة من المجر إلى إيطاليا مرورا بهولندا وألمانيا والنمساوإسبانيا. ويتوجس هذا التيار من تكرار سابقتي فرنسا ورومانيا وأن تسلك "الدولة العميقة" في أوروبا تشددا تجاه ارتسام سيناريو التقارب الاستراتيجي بين الترمبية والبوتينية.

font change