آخر مهرجي غزة يحاولون رسم ابتسامة على وجوه أطفال أنهكتهم الحرب

"العم زيزو" و"العم ميكي" و"دكتور علوش" يستخرجون الضحك من بين الأنقاض

"دكتور علوش"

آخر مهرجي غزة يحاولون رسم ابتسامة على وجوه أطفال أنهكتهم الحرب

غزة: لم يتوقف المهرجون وفنانو السيرك الفلسطينيون عن القيام بدورهم في مراكز إيواء النازحين وفي المستشفيات، بهدف استعادة بعض من الفرح المفقود، والتغلب على الحزن الكبير الذي يغمر أطفال غزة منذ بداية الحرب الإسرائيلية على القطاع. يراهن أولئك المهرجون على ضحكة يرسمونها على وجوه الأطفال بين مخيمات النزوح، في ظل ظروف قاتمة، يخيم فيها شبح الموت على الجميع.

يصرخ آخر مهرجي غزة عبد الرحيم البطش، أو "العم زيزو"، كما يناديه الأطفال، مختصرا شهورا طويلة من معاناة الأطفال في غزة: "كفى حزنا، كفى ألما، تعبنا من هذا السواد الذي يحيط بنا من كل صوب".

يضيف "العم زيزو" في حديثه لـ"المجلة": "تعلمنا صغارا أن نبحث عن الفرح في أحلك الظروف، وهذه رسالة يجب أن نوصلها لأطفالنا اليوم: لا بد من ضحكة على الأقل لنستمر"، موضحا أن تردده وزملاءه على مخيمات النزوح هو بدافع استعادة بعض من الحياة التي مسحتها الحرب. فالفرح "لم يخلق لأطفال العالم دونا عن أطفال فلسطين".

أما الفنان علاء مقداد، الملقب بـ"دكتور علوش"، فيؤكد أن الحزن ليس جديدا على أطفال غزة، لا سيما أن الحرب الأخيرة ليست الأولى على غزة وإن كانت الأقسى والأفدح. يقول: "عمل السيرك يتضمن رسالة، واتصالا عميقا مع الطفل، وبإمكانه دوما التغلب على اليأس".

يضيف مقداد: "نعمل في المخيمات على تعزيز صمود الأطفال، وتعليمهم بشكل ترفيهي حفظ أسمائهم الرباعية، للتغلب على ظاهرة ضياع الأطفال بفعل النزوح والتفكك الاجتماعي، كما نسعى إلى إيصال رسائل مهمة للأطفال، بالابتعاد عن الأجسام المشبوهة، وضرورة التوجه للبالغين عند مشاهدتها لعمل اللازم وإزالة الخطر".

يتابع "دكتور علوش": "تركز عملي في الآونة الأخيرة على الأطفال المصابين خلال الحرب، محاولا رسم الابتسامة على وجه طفل يتألم وهو ممدد على سرير المشفى".

أما "العم ميكي"، واسمه معتز جندية، فيشير إلى حالة "الاكتئاب الشديدة التي يعيشها الأطفال خلال حرب الإبادة، نرى وجوها كبرت وصارت تحمل عبئا لا يحتمل".

تعلمنا صغارا أن نبحث عن الفرح في أحلك الظروف، وهذه رسالة يجب أن نوصلها لأطفالنا اليوم: لابد من ضحكة على الأقل لنستمر

العم زيزو

لكنه يضيف: "مهمة لاعب السيرك والمهرج، لا سيما في زمن الحروب، ليست ترفيهية فحسب، وإنما علاجية في المقام الأول، تحاول تضميد الجراح والخروج من سجن الألم والقلق، أبحث عن التعافي لي كما أبحث عنه للآخر من خلال الضحك واللعب، تلك المشاركة تعزز صمودنا في كل مرة".

الفنان أحمد مشتهى في درسة سيرك غزة

خيوط ممتدة

يطلب الطفل الغزي استعادة الشعور بالفرح، كأنه يحاول استخراج الحياة من فم الموت، ليشبه بذلك البهلوان في السيرك في لعبة التوازن مع الطبيعة، حينما يقف على اسطوانة تتأرجح به أمام الجمهور.

يخبرنا "العم زيزو": "تزداد مطالبات الأطفال لنا بالعودة للعب معهم، والضحك وسط المخيمات، ولا نشبع من نظرات الأمل التي تشع من عيونهم، خلال العروض".

أما "دكتور علوش" فيتحدث عن مشاعر نبيلة تتولد بين المهرج والطفل خلال العمل، ذلك التواصل يقول عنه: "أرى خيوطا تمتد بيني وبين الطفل المجروح جسدا وروحا، وأراني أستأصل الخوف من داخله تدريجيا، كي يتذكر الشعور بالفرح من جديد".

فريق "دكتور علوش" في المستشفى المعمداني قبل قصفه

ويشعر "العم ميكي" بفرحة كبيرة وهو يرقص مع الأطفال: "أفرح بكل خلية من جسدي خلال العرض، فالطفل يصدق فرحتي ويتفاعل معها".

هدم مستمر للحياة

كما حدث لمعظم منشآت غزة، دمر الاحتلال الإسرائيلي في حربه المتواصلة على القطاع "مدرسة سيرك غزة" المبنى الذي يتجمع فيه فنانو السيرك في الشمال، لكن الفريق يصر على مواصلة رسالته، ويعاود الاجتماع بين الأنقاض، للتدرب على أفكار جديدة لعروض يقدمونها للأطفال.

يقول "العم زيزو": "تحديات كبيرة نواجهها، باستمرار القصف والقتل الهمجي بحقنا، والتدمير الكبير للمبنى الذي نصوغ بداخله أفكارنا، لكن لا مفر لنا من المواصلة، فهنالك بين الخيم أطفال يحتاجون إلى الدعم النفسي في كل لحظة".

مهمة لاعب السيرك والمهرج، لا سيما في زمن الحروب، ليست ترفيهية فحسب، وإنما علاجية في المقام الأول، تحاول تضميد الجراح والخروج من سجن الألم والقلق

العم ميكي

أما "العم ميكي" فيخبرنا: "ننتقل الى مناطق مهددة بالقصف، ونعمل تحت أنظار الكواد كابتر، يروننا نضحك، يجب أن يرونا دوما هكذا صامدين، ندعم أطفالنا، حياتنا دوما في خطر، ونعمل في ظروف شبه مستحيلة، وكثيرا ما نفتقر للألوان والأقمشة اللازمة لصنع أزياء العروض، لكننا مصممون على الاستمرار بأقل المتاح".

ضحكات لم تكتمل

لكن، أمام القصص المأسوية التي يعيشها أطفال غزة، تبدو الضحكة أمرا مستهجنا، لكنها تحدث لأن هنالك من يبحث عن استخراجها من بين الركام، ومشاركتها مع الأطفال بكل حفاوة.

العم زيزو

يقول "العم زيزو": "نحمل القصص المؤلمة معنا حين نخرج من مخيمات النزوح، نحمل آلام الأطفال، تدمع أعيننا، ونحتفظ بذكريات العروض الى الأبد، وقد صادفت خلال عملي طفلة فقدت جميع أفراد عائلتها تحت القصف، نجت وحيدة بجسد مبتور القدم، رأيتها تضحك للحظات خلال العرض، وكأن جسدها وأفراد عائلتها عادوا إليها من جديد خلال تلك اللحظات".

فيما يحمل "دكتور علوش" داخله قصصا أليمة خلال عمله، إذ يغادر مستشفيات الأطفال التي يرتادها لبث الفرح في نفوس الاطفال الجرحى، وفي داخله أسئلة كثيرة حول ما يحدث لأطفال غزة: "إنه لأمر بالغ القسوة، أن نعود للعب مع أطفال مصابين في كل مرة، فنجدهم استشهدوا، غادروا هذا العالم أخيرا، دون أن يستمتعوا بالضحكات التي كانت تنتظرهم".

إنه لأمر بالغ القسوة، أن نعود للعب مع أطفال مصابين في كل مرة، فنجدهم استشهدوا، غادروا هذا العالم أخيرا، دون أن يستمتعوا بالضحكات التي كانت تنتظرهم

دكتور علوش

بدوره، يعبّر "العم ميكي" عن حزنه الكبير، لأن الاحتلال يحاول أن يجتث قصص الضحك أيضا من جذورها. يقول: "لدي فيديو أرقص فيه مع أطفال مدرسة الأرقم شرق غزة، فرحنا يومها ولعبنا، رقصنا بكل شغف، وهمّشنا صوت الحرب لوقت قليل، بعد أيام قصف الاحتلال تلك المدرسة، واكتشفت لاحقا، أن عددا غير قليل من الأطفال الذين رقصوا معي وضحكوا، استشهدوا خلال القصف، لقد قصفت الضحكات جميعها، وبقي لي فيديو وحيد لي معهم، وتملؤني الحسرات كلما شاهدته".

مستقبل

"لا يجد فن السيرك في غزة صدى كبيرا، وقبل الحرب، كانت ممارسة هذه المهنة تتم على نطاق ضيق، لكن خلال الحرب التف حولنا الأهالي إلى جانب أطفالهم، لقد عرفوا أخيرا قيمة ما نفعل". هذا ما يقوله "العم زيزو"، مؤكدا أن الحصول على ضحكة خلال الحرب أشبه المعجزة.

"العم ميكي"

ويرى "العم زيزو" في الضحك "فعل مقاومة وصمود، ورسالة عريضة أمام الاحتلال الإسرائيلي والعالم الصامت بأنه مهما طالنا العذاب والقتل والنزوح والدمار، سنبقى نرسم على وجوه أطفالنا ضحكة، لأنهم يستحقون الحياة مثل سائر أطفال العالم".

يقول "دكتور علوش": "نحن نقدم علاجا نفسيا من خلال الضحك، لقد أثقلت الحرب نفوس الأطفال والناس، ومهما تكاثرت الاحزان وأحاطتهم الكوارث خلال الإبادة، فإن الضحك وسيلة لا بد منها، ولا بد من وجود لاعب السيرك والمهرج، فبذلك التفاعل نستعيد شيئا من الحياة، حرب الإبادة أنتجت شيئا غريبا، جوعا للضحك يشبه الجوع للطعام تماما، فما من فعالية شاركت بها، إلا ووجدت رجالا وسيدات، يقفون حولي، يضحكون مثل الاطفال تماما".

لكن الأطفال يبقون الجمهور الأهم بحسب "العم ميكي": "نعمل من أجل المستقبل ولذلك فإننا نعتبر الضحك والترفيه ولو في أحلك الظروف، وسيلة رئيسة، لا يجب التخلي عنها".

font change