البابا في السينما... صورة العالم في خيره وشره

جدلية التغيير والتسويات والصمت والفساد

AFP
AFP
لبابا فرنسيس يحيّي الحشود من عربة البابا بعد قداس أحد الشعانين في ساحة القديس بطرس بالفاتيكان 2024

البابا في السينما... صورة العالم في خيره وشره

نظرت السينما إلى شخصية البابا بوصفها تمثيلا لشبكة عريضة من السلطات والمصالح والحسابات المتعددة المصادر والمرجعيات التي تشكل شبكة متداخلة يحل فيها المقدس والرمزي والسياسي والاجتماعي والشخصي السيكولوجي في بنية واحدة.

وبذلك فإن كل من يحتل هذا المنصب يمثل مسارا معقدا من التحولات والصراعات والنزعات ويشكل بذلك شخصية جدلية ترتبط بالعالم وتقع فيه على الرغم من تمثيلها بنى رمزية علوية ومقدسة. هذا التقاطع كان دائم الحضور في تركيبة السلطة البابوية وخياراتها حيث يمثل وصول بابا جديد إلى سدة الكرسي الرسولي انتصارا لنهج ديني وسلطوي يتجاوز في مصادره وفي ما يعبر عنه حدود العالم السري والخفي للمؤسسة البابوية لينفتح على العالم وصراعاته.

وعليه، لم تكن المؤسسة البابوية مؤسسة واحدة تورث سلطة ثابتة ومناهج محددة ومتوارثة بل كانت دائما تتجدد مع كل بابا، ولا يشمل هذا التجديد الدائم منطق إدارة شؤون الدين والعقيدة ومراجعة ما يصلح وفرزه مما لم يعد صالحا، بل يشمل كذلك الموقف من طبيعة الإيمان نفسه والسياسات والتكنولوجيا وأسئلة المعنى والهوية واللغة، وكيفية الحفاظ على تماسك عقائدي ينتمي إلى سردية محكمة ومقدسة في زمن تشظي السرديات وتفككها.

التقطت السينما البابوية في سياق سيال وجدلي ومتحرك ورصدت مآزقها وعثراتها وأمجادها وسقطاتها الأخلاقية وحللت طبيعتها وصراعاتها بوصفها جزءا من سياق الأحداث العالمي وبالشراكة معه.

كان القاسم المشترك بين عدد كبير من الأفلام التي تناولت تلك الشخصية المفعمة بالتناقضات، أنها أبرزت تأثير العالم في صناعة تركيبة شخصية البابا والمؤسسة البابوية وقرأت دوره من ناحية أخرى في ما يفعله للتأثير في الأحداث وتحويل وجهتها للتلاؤم مع مشروع عالم أكثر إنسانية وعدالة، كما عرضت كيف وقعت المؤسسة البابوية في فخ الفساد والتعاون مع المافيا والصمت عن الجرائم الكبرى والتستر على الانتهاكات في قلب المؤسسة البابوية.

التقطت السينما البابوية في سياق سيال وجدلي ومتحرك ورصدت مآزقها وعثراتها وأمجادها وسقطاتها الأخلاقية وحللت طبيعتها وصراعاتها بوصفها جزءا من سياق الأحداث العالمي

تفرض التحولات المتسارعة على المؤسسة البابوية التلاؤم مع متغيرات حادة تتطلب إعادة بناء العقيدة نفسها وتحديد مواقف واضحة من مجموعة من المسائل الشائكة والمعقدة التي لا يمكن التوصل إلى طرح رؤية حولها من دون مراجعة العناوين الأعمق في تركيبة القداسة التي ينطوي عليها مقام البابا في طبيعته.

من هنا، فإن صراعات الديني والدنيوي والرمزي والسلطوي تسيطر على شخصية البابا وتؤطر سيرته بكيفية معالجتها والتعامل معها في عالم باتت السرعة عنوانه وميدانه، في تناقض حاد مع طبيعة التروي والتمهل والتأمل الذي يطبع مشهدية المؤسسة الدينية الأعرق في العالم والذي يقع على عاتق البابا إدارتها.

"المجمع المغلق"

يعالج فيلم المخرج إدوارد بيرغر، "المجمع المغلق"  conclave (2024) مسألة انتخاب بابا جديد بعد وفاة البابا السابق من خلال الصراع الحاد بين دعاة التجديد والمدافعين عن التقاليد في قلب الكنيسة الكاثوليكية.

Alamy
رالف فينس في فيلم Conclave

يقود التيار التقليدي الكاردينال الإيطالي تيديسكو بأفكار تدعو إلى التمسك بالأصول والرفض المطلق للإصلاح والتجديد، وبأن الماضي قدم تجربة نقية ومتكاملة لا بد من العودة الدائمة إليها.

تتجلى في هذا الصراع أصداء ما يجري في العالم وكيف تبلور كل مجموعة في الكنيسة مواقفها منه، وتصنع من خلالها تصوراتها الخاصة عن العقيدة، تنسجم مع طبيعة هذه المواقف وتشرعنها وتعتبر أنها تنبع منها وتعبر عنها. لذا وانطلاقا من الحدود القصوى التي يجد كل طرف نفسه مدفوعا إلى الدفاع عنها، يبدو أن كل شيء مباح وخاضع لإعادة النظر فيه حتى الأصول المحكمة للعقيدة نفسها. يعرض الفيلم إمكان تحول كل شيء إلى تأويل خالص يستند إلى شبكات مصالح وانحيازات تعكس منظومة قيم لا يمكن إرجاعها إلى معطى ديني وأخلاقي وكنسي، بقدر ما تعكس بنية سلطة تبحث عن تثبيت مواقعها وتمكين خياراتها.

يرفع المدافعون عن التقاليد لواء الثبات دفاعا عن انتظام السلطة وأشكالها والعالم الذي تمثله، حيث يكون كل شيء مفسرا ومكتملا وواضحا ولا مجال لإعادة النظر فيه ونقده، وتاليا فإن عملية انتخاب بابا جديد في نظرهم ليست بحثا عن تجربة جديدة وعن أفق آخر للنظر في شؤون الكنيسة والعالم بقدر ما هي استمرارية لنهج محكم وثابت ودائم ومتواصل ولا يتحمل الانقطاعات.

يعرض الفيلم إمكان تحول كل شيء إلى تأويل خالص يستند إلى شبكات مصالح وانحيازات تعكس منظومة قيم

في مثل هذا النسق من التفكير يمكن تبرير كل شيء بدعوى الانسجام مع النص المرجعي الذي يمثله التقليد الكنسي الذي يقف على رأسه البابا، حيث يمكن أن يكون الإرهاب مشروعا والحقد على أتباع الديانات الأخرى مبررا ومنطقيا، ويمكن أن يشكل أصلا عقائديا قياسا على لحظات تاريخية وعقائدية سابقة تقدم بوصفها متجاوزة للزمان ولمفهوم التقدم وصالحة على الدوام. التقليديون يبحثون في البابا الجديد عن أشباح البابوات السابقين في لحظات معينة، وتاليا فإنه غير قائم بالفعل بالنسبة إليهم في ذاته وشخصه بل في أنه تعبير عن سياق سابق محدد سلفا بشكل نهائي وحاسم، فهو ينفذ الأحكام ولا يصنعها. البابا لا يحضر في اللحظة بل في الماضي، وبذلك فإنه ليس سوى ظل.

يمثل التيار التجديدي الإصلاحي الكاردينال الأميركي الليبيرالي بيليني الذي يدافع عن فكرة كنيسة متجددة ومتسامحة منفتحة ومواكبة للتغيرات. التناقض بين التيارين يعبر عن رؤيتين متناقضتين للعالم لا يمكن التوفيق بينهما لأنهما ينطلقان من عالمين مختلفين لا يمكن أحدهما الوجود تحت ظلال الآخر.

يرى دعاة التجديد أن العقيدة ليست أصلا ثابتا بل يخضع للمراجعة وإعادة التقييم للانسجام مع المتغيرات الثقافية والاجتماعية، ويعتبرون أن الماضي لا يمكن أن يشكل مرجعا للحاضر وأصلا للمستقبل بل يمثل حالة تقرأ في زمنها ولحظتها وحسب. فهم يرون أنه لا يمكن تبرير ما يتناقض مع الأخلاق والحريات والإنسانية تحت أي شكل، وأن العقيدة يجب أن تنفتح على مسائل الحريات والأخلاق والاعتراف بالآخر والعدالة، وأن تبني موقعها من خلال مقاربة شاملة لحاجات الناس وآمالهم وأن تتجنب التمييز والأحكام المطلقة وتنفتح على الجديد بكل ما يحمله. البابا في هذا المقام هو ابن الحاضر ومؤسس المستقبل ويخضع لشروطهما ويتفاهم معهما ويمثل تاليا تجربة خاصة ومختلفة.

يذهب الفيلم إلى أبعد من الصراع الثنائي بين تيارين ليدفع الأمور إلى نسق جدلي صاخب مع انتخاب بابا متحول الجنس برز من خارج الثنائيات ليطرح الجديد المطلق، ويحمل خطابا شديد المعاصرة حول الانفتاح والسلام والحريات والمحبة.

دفع المخرج فيلمه إلى حدود قصوى وجدلية وحية لا تمانع مناقشة أحد أصول البابوية الثابتة تاريخيا والتي تقتضي أن يكون البابا ذكرا، طارحا مسألة الهوية الجندرية ومسألة حضور الصوت الأنثوي في العالم كمسألة تجديد ضرورية للكنيسة وحاجة ملحة لها، لأنها تنسجم مع عقيدة التفاهم والمحبة والسلام وتنفتح على التفاهم والحلول والتسويات.

Alamy
الحبران الأعظمان (2019) من إخراج فيرناندو ميريلس وبطولة أنطوني هوبكنز في دور البابا بنديكتوس وجوناثان برايس في دور الكاردينال خورخي برغوليو (البابا فرنسيس لاحقًا)

"الحبران الأعظمان"

أما فيلم "الحبران الأعظمان"  The Two Popes (2019) الذي أخرجه فرناندو ميليس وألفه أنتوني مكارتن، فيحمل الصراع عبر حوار متخيل بين البابا بنديكت السادس عشر والبابا فرنسيس الذي كان حينها الكاردينال بيرغوليو. يتمسك البابا بنديكت بالأصول اللاهوتية الكنسية والتقليدية وينظر إلى مفهوم التجديد على أنه بمثابة نسف للهوية الكاثوليكية المركزية. يعبر عن موقفه من خلال خطاب يقول "التغيير من أجل التغيير ليس فضيلة بل هو خيانة".

يلاحق الفيلم التناقضات بين المشروعين عبر بنية حوارية مكثفة تستعرض فيها كل من الشخصيتين آراءها في مواضيع العزوبية الكهنوتية ودور الكنيسة في العالم الحديث

يتبنى الكاردينال بيرغوليو مقاربة مختلفة إصلاحية وتجديدية تقوم على رفض تعقيد الطقوس الكنسية وتبسيطها والاقتراب من الناس انطلاقا من خطاب يعتبر أن "الكنيسة يجب أن تكون قريبة من الناس لا أن تعيش في أبراجها العاجية".

يلاحق الفيلم التناقضات بين المشروعين عبر بنية حوارية مكثفة تستعرض فيها كل من الشخصيتين آراءها في مواضيع العزوبية الكهنوتية ودور الكنيسة في العالم الحديث ومسألة الشفافية وغيرها. فيدافع بنديكت عن المعرّف والواضح ويعتبر أن الهوية الكنسية والإيمانية قد تمت وأنجزت، بحيث يمثل التغيير تدميرا للإيمان لأنه يضعه في مواجهة السؤال والشك، ويخرب بنيته المغلقة التي يرى أنها منجزة بشكل نهائي.

أما بيرغوليو فينظر إلى الثبات بوصفه وهما إيمانيا وواقعيا، ويعتبر أن إبقاءه من شأنه تخريب علاقة الناس بالكنيسة ودفعهم إلى الابتعاد عنها، لأنها لا تتناسب مع ما استجد في واقعهم من تطورات وأنماط عيش وتفكير تتطلب من الكنيسة تعديل منطقها وأساليبها لمواكبتها والتلاؤم معها. الفرق بين الرؤيتين يتحدد في ما يعتبره كل منهما أصلا ومرجعا، فالأول يعتبر الناس في خدمة الكنيسة بينما يرى التيار الآخر العكس.

"أصبح عندنا بابا"

يفجر المخرج ناني موريتي في فيلمه "أصبح عندنا بابا"  Habemus Papam We Have a Pope' (2011) مسألة شخصية الكاردينال ميلفيل الذي ينتخب لمنصب البابا، فيجد نفسه محاصرا بحدود طبيعته الشخصية ونظرته إلى ذاته وقدراته وبين ما تتطلبه المؤسسة الكنسية وما تتوقعه منه. يأتي الانهيار النفسي ليضع الحدود بين نظرة الفرد الى نفسه وقدرته على تمثلها في دور البابا الذي يفترض تبددا كاملا للسمات الشخصية لصالح الدور.

 يبرز هذا الفيلم حضور العالم بشكل جلي ويلاحق التأثيرات المختلفة التي يمكن أن يتعرض لها من نال لقب البابوية، فيدخل التحليل النفسي إلى هذا العالم ليخترق حدوده ويسائله ويطرح مسألة التجديد من داخل فكرة الاعتراف بالحدود الشخصية والمؤسساتية والاعتراف بأن الإنسانية هي الأصل الذي تنبثق منه الكنيسة والذي يبنى العالم من أساسه.

استعرضت السينما تاريخ بعض البابوات والمؤسسة البابوية في علاقاتها مع السلطة وفي خياراتها، واضعة الخلاصات أمام الرأي العام بعيدا من التمجيد والإدانة

 يطرح الفيلم العودة إلى الفن كشكل من الاعتراض على دور البابا وفق السياقات الصارمة التي يتطلبها والتي يأتي الاعتراض عليها وإعلان العجز عن القيام بمتطلباتها كدفاع لامع عن التجديد.

ميشيل بيكولي ويرزي ستور في فيلم أصبح عندنا بابا

"حذاء صياد السمك"

نظرت السينما إلى المؤسسة البابوية من خلال أدوارها ووظائفها ولاحقت سيرتها الحافلة بالمتناقضات بين السعي إلى العدالة والخير والوساطة لحل النزاعات وبين الصمت والتواطؤ والفساد، استعرضت تاريخ بعض البابوات والمؤسسة البابوية في علاقاتها مع السلطة وفي خياراتها، واضعة الخلاصات أمام الرأي العام بعيدا من التمجيد والإدانة.

تناول فيلم "حذاء صياد السمك" The Shoes of the Fisherman (1968) من إخراج مايكل أندرسون وكتابة موريس ويست، قصة متخيلة للسجين كيريل لاكوستا الذي يخرج من أحد مراكز الاعتقال السوفياتية متوجها إلى روما حيث ينتخب لمنصب البابا في مرحلة تشهد أزمات المجاعة وتلوح في أجوائها أشباح الحرب النووية.

يعرض الفيلم خيارات البابا المنحازة الى الضمير الأخلاقي وقضية محاولة إنقاذ العالم من الحرب والدمار كعنوان يمكن التضحية في سبيل تحقيقه بكل الأعراف والتقاليد التي تحكم عمل المؤسسة البابوية، معتبرا أن ثروات الفاتيكان يجب أن تُصرف لإطعام الجائعين، كما يأخذ على عاتقه القيام بدور الوساطة في عالم الحرب الباردة.

يحدد الفيلم فكرة العالمي والكوني في شخصية البابا، قياسا على المسؤولية الإنسانية والأخلاقية، ولكنه لا يصوره رجلا خارقا، بل رجلا محكوما بدور متطلب وقاس، يكرر على لسان بطل الفيلم أنطوني كوين: "أنا رجل، ولست إلها، ولكن علي أن أتصرف وكأنني أكثر من رجل". يصطدم البابا في هذا الفيلم بظروف العالم القاسية، محاولا اختراقها بالضمير الأخلاقي والدفاع عن مفهوم السلام والتصالح، ولكنه لا يسقط في وهم التأليه والقدرة على صناعة المعجزات، بل يبقى في حدود الرجل الذي وجد نفسه داخل دور استثنائي.

آمين

آمين""

يرصد فيلم "آمين" Amen  (2002) للمخرج كوستا غافراس مواقف البابا بيوس الثاني عشر، الذي اختار الصمت عن الجرائم النازية خلال الحرب العالمية الثانية تحت دعوى الحفاظ على مصالح الكنيسة. وقد سبق أن أثارت مسرحية الكاتب الألماني رولف هوخهورث، "النائب"، التي بُني الفيلم على أساسها، جدلا كبيرا حين صدرت في السينما، إذ تتضمن اتهاما مباشرا للبابا بالامتناع عن إدانة الجرائم النازية.

يطرح الفيلم العودة إلى الفن كشكل من الاعتراض على دور البابا وفق السياقات الصارمة التي يتطلبها

يروي الفيلم قصة الضابط النازي كورت غيرسشتاين الذي كان طوّر غاز زيكلون بهدف تنقية المياه، لكنه بات يُستخدم في سياق إبادة جماعية، ويحاول إبلاغ الفاتيكان بهذا الأمر عبر التواصل مع القس ريكادرو فونتانا، لكن البابا يلاقي جهودهما بالصمت ورفض الخروج بموقف علني ضد النازيين.

 البابا في هذا الفيلم يتخلى عن الخطاب الأخلاقي والإنساني دفاعا عن نظام مصالح المؤسسة الفاتيكانية، في تعبير واضح كيف تفرض ظروف معينة استجابة محددة في لحظات تاريخية معينة، وأن البابا في النهاية يمثل نظام مصالح يتأثر بالسياسة والظروف التاريخية على نحو يفرض عليه اتخاذ قرار براغماتي خارج الأطر المرجعية والروحية والأخلاقية الكنسية.

"ملائكة وشياطين"

يطرح فيلم رون هوارد "ملائكة وشياطين" Angels & Demons (2009) مسألة الفساد الداخلي في مؤسسة الفاتيكان، حيث تشتد الصراعات على تولي منصب البابوية، ويظهر الكرادلة بوصفهم ممثلين لسلطة مقفلة محكومة بالتحالفات والمؤامرات، مما يخلق جوا مضطربا يسمح بتسلل المتنكرين إلى داخل المؤسسة، ويخلق البيئة المناسبة التي تسمح لشخصية فاسدة ومتلاعبة مثل شخصية كامرلنجو باتريك مكينا، الذي يلعب دوره إيوان ماكريغور، الترشح إلى منصب البابا عبر الجريمة والخداع. يعرض هذا الفيلم مسألة البابوية كصراع سلطوي بحت تُستخدم فيه الرموز الدينية كوسيط.

ملائكة وشياطين

بابا كوبولا

وكان سبق للجزء الثالث من فيلم "العراب" The Godfather Part III (1990) لفرنسيس فورد كوبولا أن طرح علاقة الفاتيكان بالمافيا بشكل صريح، عبر استثمار الزعيم المافيوي مايكل كورليوني في بنك الفاتيكان. ويُظهر الفيلم البابا يوحنا بولس في هيئة إصلاحي، قبل أن يشير إلى ارتباط وفاته الغامضة بعلاقته بملفات فساد تربطه بالمافيا.

يُظهر الفيلم المؤسسة البابوية كواجهة لتبييض أموال المنظمات الإجرامية والرشاوى عبر معهد الأعمال الدينية، كما يعرض لمسألة اعتقاد زعيم المافيا أنه يشتري الخلاص الروحي. الفساد كما يصوره الفيلم ليس عابرا وسطحيا واستثنائيا، بل متأصل وعام، وتتجاوز خطورته حدود تمرير المصالح، لأنه يمثل سلطة إيمان وخلاص تُباع للمجرمين، حيث تسمح بإظهارهم في هيئة المحسنين والمصلحين، كما يجعل المؤسسة الفاتيكانية من ناحية أخرى رهينة لمصالح لا تقيم وزنا لأي اعتبار إنساني وأخلاقي.

Alamy
طاقم تمثيل العراب الجزء الثالث

"في دائرة الضوء"

يدخل فيلم "في دائرة الضوء" Spotlight (2015) للمخرج توم مكارثي في حقل ألغام، عبر طرحه موضوع تستر الكنيسة على الاعتداءات الجنسية على الأطفال، عبر بنية قمع شاملة تشمل كل التراتبية الكنسية لتصل إلى البابا الذي لا يظهر مباشرة، ولكنه يحضر من خلال مفهوم التواطؤ والصمت، إذ إنه يعرف ولكنه لا يتخذ أي رد فعل.

الفساد كما يصوره الفيلم ليس عابرا وسطحيا واستثنائيا، بل متأصل وعام، وتتجاوز خطورته حدود تمرير المصالح، لأنه يمثل سلطة إيمان وخلاص تُباع للمجرمين

يكشف الفيلم كيف توظف الكنيسة موقعها لفرض الصمت وإسكات الإعلام والقضاء، ويعرض كيف تستطيع الصحافة نسف لغة الصمت ووضع الحقائق في متناول الرأي العام، حيث يمكن الحقيقة وحدها أن تتكلم. ويطرح الصمت عن الجرائم بوصفه نظام هدم يدمر الإيمان والكنيسة وصورة البابوية التي تظهر كمؤسسة متقادمة تدافع عن شبكة مصالح ضيقة.

... ومسلسلان

قدم المخرج الإيطالي باولو سورينتينو معالجة درامية لشخصية البابا في مسلسلي "البابا الشاب" (2016( The Young Pope و"البابا الجديد"The New Pope(2020)  حيث تناول تعقيدات السلطة الدينية في عصر تتسارع فيه التحولات الاجتماعية والاقتصادية، وكيف تؤثر التنشئة الشخصية والبيئة على مواقف البابا وخياراته.

يستعرض الأول شخصية البابا ليني بيلاردو، أحد أصغر من تولوا المنصب، ويروي كيف أثرت نشأته في ملجأ أيتام على شخصيته بعد أن خلفت فيها صدوعا عميقة جعلته باطنيا ومتشددا وميالا إلى الغموض وتبني المواقف المتشددة، من قبيل الرفض التام للمثلية الجنسية والطروحات الليبيرالية، والدعوة الصارمة لإعادة الكنيسة إلى أصولها الروحية الماضوية.

وتختلف شخصية البابا في المسلسل الثاني الذي يروي سيرة البابا جون برونكس الأريستوقراطي الإنكليزي المثقف، الغارق في الشعور بالذنب بعد وفاة شقيقه التوأم، مما يجعله عاجزا عن اتخاذ القرارات بصرامة. يدفع في اتجاه تحديث البنية الكنسية واستيعاب زواج المثليين داخلها، لكنه يواجه بمعارضة شديدة، ويبدو ضعيفا وغير ميال للحسم، مما يجبره على التنحي في نهاية المطاف والاعتراف بعجزه عن تحمل تبعات المنصب.

في النهاية، حرصت معظم الأفلام والمسلسلات التي تناولت شخصية البابا على مقاربتها في سياق جدلي تاريخي وسياسي واجتماعي، ومعالجة تعاملها مع الوقائع والتغيرات، وكيفية تقدير المواقف انطلاقا من اللحظة التي وجدت نفسها فيها.

ويُلاحظ رفض السينما النظر إلى شخصية البابا كشخصية مستقلة عن العالم، بل على العكس من ذلك، فقد أدخلته فيه وجعلته مشاركا في إنتاجه بكل ما فيه، من خير ونضال من أجل السلام والعدالة، ومن فساد وصمت. وقد ابتعدت في غالبية المقاربات عن التبجيل أو الإدانة، واضعة الأمور في سياق جدلي يسمح بالتراكم والإضافة وإعادة النظر، بحثا عن قراءة جديدة لمسار شخصية لا تزال حتى هذه اللحظة تمتلك التأثير الروحي والمعنوي الأبرز في العالم.

font change