حرب السودان... ماذا بعد فشل مؤتمر لندن؟

يواجه العالم الآن لحظة الحقيقة فيما يخص السودان

رويترز
رويترز
وزير الخارجية الفرنسي جان- نويل بارو ونظيره البريطاني ديفيد لامي ومفوض شؤون السياسة والسلام والامن في الاتحاد الافريقي بانكولي اديويي في مؤتمر لندن للسلام في السودان في لندن في 15 ابريل

حرب السودان... ماذا بعد فشل مؤتمر لندن؟

في الذكرى الثانية لاندلاع الحرب المدمرة في السودان، كشف مؤتمر لندن، الذي دعت إليه واستضافته وزارة الخارجية البريطانية، عن تصدعات عميقة بين الفاعلين الدوليين حول كيفية التعامل مع الأزمة السودانية. تجلت مظاهر الخلاف بشكل واضح في فشل المؤتمر في الخروج ببيان ختامي متفق عليه بين الحاضرين الدوليين، الذين غاب عنهم تمثيل الحكومة السودانية و"قوات الدعم السريع". ومنعت الاختلافات في المواقف الدول المشاركة، من الاتفاق على صياغة نهائية للبيان الختامي للمؤتمر، فاكتفت بريطانيا بإصدار بيان عام يمثل رعاة المؤتمر.

ومع دخول الحرب في السودان عامها الثالث، تستمر المخاطر الإنسانية والسياسية والأمنية في التزايد، بينما يظل المجتمع الدولي عاجزا عن التوصل إلى استراتيجية موحدة للتعامل مع الأزمة السودانية بشكل فاعل وواقعي.

وتكمن المشكلة الجوهرية في المقاربات الدولية تجاه السودان في تبنيها مبدأ "التكافؤ" الزائف بين القوات المسلحة السودانية و"قوات الدعم السريع". هذا النهج ليس معيبا من الناحية التحليلية فحسب، بل هو غير مقبول أخلاقيا. فـ"الدعم السريع"، لا يمكن معاملتها كفاعل سياسي أو عسكري شرعي على قدم المساواة مع القوات المسلحة السودانية، التي تشكل جزءا من جهاز الدولة السودانية. وفي الوقت نفسه، يستمر إصرار الفاعلين الدوليين على التعامل مع القوات المسلحة السودانية ككيان منفصل ومستقل عن حكومة السودان، تمسكا بعدم شرعية الحكومة منذ انقلاب أكتوبر/تشرين الأول 2021. لكن الواقع أن القوات المسلحة جزء أساسي من الدولة السودانية، ومعاملتها بمعزل عن الحكومة يخاطر بزيادة عسكرة المجال السياسي، ويرفع مخاطر الانزلاق نحو حكومة عسكرية بالكامل، مما يعرقل آفاق التحول الديمقراطي ويعزز المسارات السلطوية.

تزامن المأزق الذي شهده مؤتمر لندن مع الهجوم الأخير لـ"قوات الدعم السريع" على مخيم زمزم للنازحين، على بعد خمسة عشر كيلومترا فقط من الفاشر، عاصمة شمال دارفور وآخر معقل للقوات المسلحة السودانية في إقليم دارفور. وفي 11 أبريل/نيسان 2025، اجتاح مقاتلو "الدعم السريع" المخيم، وارتكبوا مذابح ذات طابع عرقي وإعدامات ميدانية للعاملين في المجال الإنساني بحسب شهود، بما في ذلك تسعة من موظفي الرعاية الصحية في عيادة تابعة لمنظمة الإغاثة الدولية، وهي آخر عيادة طبية عاملة في المخيم. وقعت هذه الفظائع في أعقاب حصار تفرضه "قوات الدعم السريع" منذ أكثر من عام على مدينة الفاشر ومخيمات النازحين المحيطة بها، مثل زمزم وأبو شوك، ما دفع بالوضع الإنساني إلى حافة الهاوية. وتم إعلان المجاعة الكارثية (المرحلة الخامسة من التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي) في مخيم زمزم للنازحين في أغسطس/آب 2024، حيث أفادت تقارير منظمة "أطباء بلا حدود" بوفاة طفل واحد على الأقل كل ساعتين بسبب الجوع أو المرض.

في هذا السياق، اعتبر الكثير من ممثلي الدول المشاركة في اجتماعات لندن، أن أي نص يوحي بالتطبيع مع "قوات الدعم السريع" أو يضعها على قدم المساواة مع حكومة السودان المعترف بها دوليا، ينضح برائحة التواطؤ. وهو ما عكس أن الحضور في المؤتمر، الذي انعقد في قصر لانكستر، يخفي معضلات أعمق واختلافات أكبر من المجاملات الدبلوماسية. واستمرار بعض دول الإقليم في تقديم الدعم العسكري واللوجستي لـ"قوات الدعم السريع"- بما في ذلك شحنات الأسلحة المستمرة والمسيّرات التي تُستخدم في الهجوم على البنية التحتية- أصبح غير مقبول لدى أوساط دبلوماسية وسياسية دولية واسعة. بل إن بعض أعضاء الكونغرس الأميركي، وعلى رأسهم النائبة سارة جاكوبس والسيناتور كريس فان هولن، أكدوا أن هذا الدعم هو السبب الرئيس في استمرار الحرب في السودان.

سجل القوات المسلحة السودانية ليس خاليا من الانتهاكات، لكن تقارير الرصد الكمية المستقلة تظهر الفرق الشاسع بينها وبين ميليشيا "قوات الدعم السريع"

لكن التطور الأخطر بالنسبة لدول المنطقة هو ما حدث في فبراير/شباط 2025، حيث عقدت "قوات الدعم السريع" في نيروبي، مع قوى أخرى، تحالف "تأسيس" بهدف إعلان حكومة موازية للحكومة السودانية تتخذ من دارفور مقرا لها. وهو ما يفسر تصاعد جهود الميليشيا للاستيلاء على الفاشر. لكن هذا بدوره يهدد بزيادة احتمالات تقسيم السودان، وهو خطر جيوسياسي يؤثر على جيرانه المباشرين بشكل أكبر من غيرهم من الفاعلين الدوليين، كما أنه سيخلق واقعا جديدا يساهم في إطالة أمد الحرب.

أثناء انعقاد المؤتمر، احتشد الآلاف من السودانيين للتظاهر الاحتجاجي خارج مقره، لا رفضا للتفاعل الدولي بحد ذاته، بل اعتراض على مشاركة دول بعينها موصومة بتأجيج الصراع المستمر في السودان. ومع ذلك، قوبلت هذه الاحتجاجات الشعبية بتجاهل ملحوظ؛ إذ سارع بعض الدبلوماسيين الغربيين إلى التقليل من شأنها، معتبرين إياها امتدادا لمواقف رسمية صادرة عن الحكومة السودانية، وليست تعبيرا حقيقيا عن مشاعر الغضب الشعبي. وهو ما يكشف عن سوء التقدير الغربي الذي يستمر في إنكار متعمد لحقيقة المشهد، وتجاهل لإرادة السودانيين وحقهم الأصيل في تقرير مصير وطنهم وصون سيادته.

 رويترز رويترز
سوادنية واطفال حولها بعد مهاجمة "قوات الدعم السريع" مخيم زمزم للنازحين في شمال دارفور في 15 ابريل

تكشف هذه الديناميكية عن فشل تحليلي عميق ومنهجي قوّض باستمرار مقاربات الفاعلين الغربيين والكيانات الدولية في معالجة النزاع السوداني. فقد ظلت تقييماتهم مرتبطة بتطلعات سياسية لدائرة ضيقة من النخب السودانية ذات العلاقات الوثيقة مع الدوائر الدبلوماسية الغربية، والذين ينظرون إلى الصراع ليس كمأساة وطنية بقدر ما هو وسيلة لاستعادة السلطة السياسية المفقودة. خلقت هذه التطلعات عدسة تحليل دولية للنزاع في السودان تحاول الترويج لأطروحة المساواة الزائفة والتكافؤ الخادع بين القوات المسلحة السودانية وميليشيا "قوات الدعم السريع".

العيب المنهجي الأساسي في هذا النهج هو جموده العنيد: فهو يظل غير مبالٍ بالحقائق المتكشفة باستمرار ولا يتغير على الرغم من تزايد الأدلة التي تناقضه. وبدلا من التكيف مع الحقائق المتكشفة، تمسك الفاعلون الدوليون بتقييماتهم الأولية بحماس أيديولوجي يقترب من العقائدية، حتى مع تفكيك الحقائق لمصداقيتها. أدى هذا التحيز المعرفي إلى مناخ من الشك تجاه النوايا والتدخلات الأجنبية، ليس فقط في أوساط الحكومة السودانية ولكن أيضا بين الجمهور السوداني الأوسع. والأخطر من ذلك، أنه أضعف قدرة الفاعلين الأجانب على تصميم تدخلات تعالج الوقائع الفعلية للصراع. فالأساس التحليلي الذي تقوم عليه هذه الجهود مشوه بشكل جوهري، ومتجذر في تصور مشوه للواقع يختلف اختلافا صارخا عن الواقع الذي يعيشه ملايين السودانيين، مما أدى إلى استدامة دورة من الانخراط الدولي غير المثمر وغير الفعال.

سجل القوات المسلحة السودانية ليس خاليا من الانتهاكات، لكن تقارير الرصد الكمية المستقلة تظهر الفرق الشاسع بينها وبين ميليشيا "قوات الدعم السريع". فقد أورد مشروع بيانات مواقع النزاع المسلح وأحداثه (ACLED)  أن القوات المسلحة السودانية كانت مسؤولة عما يقرب من 200 حادثة تنطوي على خسائر في صفوف المدنيين في عام 2024، مقارنة بحوالي 1300 حادثة منسوبة إلى "الدعم السريع".

في الوقت الذي تمارس فيه "قوات الدعم السريع" حملة إرهاب حقيقية، يتظاهر رعاتها بأنهم حُماة ضد حملة محتملة

إن تعامل المجتمع الدولي الحالي مع السودان يشبه بشكل لافت للنظر تعامله مع حرب البوسنة في بداياتها، حيث تبنت القوى الغربية سياسة التكافؤ الزائف بين الحكومة البوسنية والميليشيات الصربية، على الرغم من الأدلة الواضحة على التطهير العرقي المنهجي والإبادة الجماعية التي كانت تمارسها الأخيرة. 
ومن خلال معاملة جميع الأطراف على أنها مذنبة بنفس القدر، عرقل الفاعلون الدوليون التدخل الواقعي الحاسم لإيقاف الفظائع، وأضفوا الشرعية على مجرمي الحرب من خلال خلق وهم تكافؤ مماثل لما يتم الترويج له في السودان، وسمحوا للفظائع- وأبرزها الإبادة الجماعية في سريبرينيتسا- بالاستمرار دون رادع. هذا التخبط الأخلاقي لم يشجع الجناة فحسب، بل جعل التدخل في نهاية المطاف أكثر تكلفة وتعقيدا، وبلغ ذروته في الضربات الجوية لـ"الناتو" واتفاقيات دايتون بعد سنوات من المعاناة التي كان يمكن تجنبها. إنه يقف كدرس صارخ في كيف يمكن للحياد الدبلوماسي في مواجهة العدوان الواضح أن يمكّن الجرائم ذاتها التي تعهد العالم بعدم التسامح معها مرة أخرى. ومع ذلك، حتى بعد الإبادة الجماعية للمساليت على أيدي "قوات الدعم السريع" في عام 2023  واقتحام مخيم زمزم للنازحين مؤخرا، والفظائع المنهجية التي لا حصر لها بينهما، يواصل العالم الوقوف موقف اللامبالاة.
وساهم في تغذية هذا الخلل ما اتّسمت به حرب السودان، في جوهرها، من تسليح المعلومات والسرديات البديلة واستخدامها كأداة في الحرب. ولعل أبرز تجليات ذلك يتمثل في الحملة الإعلامية التي تسعى إلى تصوير هذه الحرب بوصفها معركة ضد جماعة الإخوان المسلمين والتطرف الإسلامي، بينما تجتاح المجاعة الحقيقية والإبادة الجماعية إقليم دارفور، ويُغض الطرف عن الحضور المتجذر "للإخوان المسلمين" في صفوف "قوات الدعم السريع" وفي أعلى مواقع قيادتهم. يتم استدعاء شبح التطرف الإسلامي بصورة ممنهجة كستار دخاني استراتيجي، يهدف إلى صرف أنظار المجتمع الدولي عن الفظائع المرتكبة وتبرير استمرار الدعم الخارجي الممنوح لـ"قوات الدعم السريع". تهدف هذه السردية إلى تخويف الغرب من عودة الإسلام السياسي المتطرف وشبح الإرهاب إلى السودان، في حين تتعامى عن حقيقة أن "الدعم السريع" ذاتها ترتكب، في الحاضر المنظور، أفعالا إرهابية ممنهجة: من مذابح جماعية، وعنف عرقي، واستعباد جنسي، إلى تدمير واسع للبنية التحتية المدنية. هي مفارقة مذهلة في وقاحتها: ففي الوقت الذي تمارس فيه "قوات الدعم السريع" حملة إرهاب حقيقية، يتظاهر رعاتها بأنهم حُماة ضد حملة محتملة. هذا التشويه المدروس للواقع لم يقتصر أثره على تضليل الإدراك الدولي، بل أتاح كذلك التستر على الإبادة الجماعية خلف خطاب مضلّل باسم "مكافحة الإرهاب".

أ ف ب أ ف ب
رئيس المجلس السيادي السوداني عبد الفتاح البرهان اثناء اطلاق مبادرة لدعم عائلات ضحايا الحرب في بورتسودان في 26 ابريل

وانتشار الترويج لهذه السردية، وخصوصا بين السياسيين السودانيين المرتبطين برعاة الميليشيا، لا يتحدى المنطق فحسب، بل يكشف أيضا عن مدى تأثير تسليح التأثير الإعلامي والرسائل الاستراتيجية لتصنيع الشرعية. هذه التناقضات- المخفية بعناية تحت قشرة من الهيمنة الإعلامية- شوهت بشكل عميق التصورات الغربية للأزمة السودانية، وقوّضت تماسك ومصداقية استجابات السياسة الغربية. في هذه البيئة، يجب على الفاعلين الخارجيين مضاعفة الجهود للتحقق من الحقائق على الأرض.

علاوة على ذلك، سعت دوائر السياسة الغربية باستمرار إلى هندسة وتمويل تحالف سياسي تسيطر عليه في السودان كشريك مفضل لتدخلاتها- عبر إنشاء وتمويل تحالف "تقدم"، بقيادة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك. استمر هذا النهج على الرغم من التحذيرات الواضحة بشأن وجود متعاطفين صريحين مع "الدعم السريع" داخل صفوفه.
كانت النتيجة متوقعة ومدمرة: بعد تلقي دعم مالي كبير، ودعم دولي، وشرعية سياسية، انقسم التحالف، مفسحا المجال لتشكيل سياسي جديد باسم "تأسيس" أعلن عن تحالف سياسي وعسكري صريح مع "الدعم السريع" بهدف تشكيل حكومة موازية معه؛ الميليشيا ذاتها المسؤولة عن أخطر الفظائع في الصراع الحالي. دعم الغرب الوصول إلى هذه النتيجة تحت شعار تعزيز المعسكر المدني، وهو ما يثير تساؤلات ملحة حول حكمة واستراتيجية تعامل الفاعلين الدوليين الذين اختاروا تجاهل الإشارات الواضحة على أرض الواقع. والأهم من ذلك، كيف يمكن تصحيح ذلك؟
يواجه العالم الآن لحظة الحقيقة فيما يخص السودان. هل ستستمر دوائره في التمسك بـ"التكافؤ" الزائف المصطنع بين القوات المسلحة السودانية و"الدعم السريع"، وهو نهج يقوّض المساءلة ويكافئ المجرمين الذين يرتكبون الإبادة الجماعية وجرائم الحرب بوعود سياسية لا تضمن السلام ولا استعادة الاستقرار؟ أم إنها ستعيد تقويم استراتيجيتها لتتماشى مع تطلعات السودانيين العاديين، الذين لا يسعون إلى رعاة خارجيين ولا مفاوضات بالوكالة، بل إلى سلام سيادي ومستدام؟
يؤكد فشل مؤتمر لندن على حدود الإجراءات الجزئية. ويجب على العالم أن يختار: إما الاستمرار في متابعة الحلول قصيرة الأجل التي تترك فاعلين مثل "قوات الدعم السريع"، ورعاتهم الخارجيين، دون مساءلة، بشكل يسمح لهم بالاستمرار في ممارسة الجرائم، وإما الالتزام بسياسة مبدئية قائمة على الحقائق تعطي الأولوية لرفاهية وفاعلية الشعب السوداني. تُعرّف الأمم المتحدة مفهوم التنمية المستدامة بأنها الجهود المبذولة لتلبية احتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها الخاصة. يتطلب تحقيق السلام المستدام في السودان إطارا فكريا مشابها، عبر تحقيق السلام الآن دون المخاطرة به في المستقبل. لن ينبثق السلام المستدام في السودان من بيانات نمطية أو وساطات قوى خلف أبواب مغلقة؛ إنه يتطلب صدقا لا يتزعزع بشأن من يرتكب جرائم الحرب، ورفضا قاطعا لفظائع الميليشيات، وتضامنا حقيقيا مع أصوات أولئك الذين عانوا أكثر من غيرهم.

font change