سنتان على "حرب الجنرالين"

الجيش يغير الميزان العسكري في السودان

 مارك سميث
مارك سميث

سنتان على "حرب الجنرالين"

الصدمة التي تنتظر كثيرا من السودانيين أنهم عاشوا سنتين من الحرب المدمرة في بلادهم بعد أن عزفت على مسامعهم غرف إعلامية عديدة– لديها مصلحة في استمرار الحرب- أن الحرب تبقى لها أسبوع أو أسبوعان وتُحسم أو أنها ستُحسم في القريب العاجل. غير أن هذا "الحسم العاجل" استغرق سنتين. والأكثر أسفا أن الحسم الغائب مرشح إلى مزيد من الغياب بحسب المؤشرات الواردة من أرض الميدان ومن منابر السياسة ومن غرف التفاوض.وتصاعد هذا المنحى بعد تقدم الجيش السوداني في العاصمة الخرطوم وتحقيقه عددا من المكاسب الميدانية.

ولكن أن تعلم أن السجال بين طرفي الحرب الجيش و"الدعم السريع" دخل مرحلة تسابق على التسلح بامتياز. وما كشفته شركة "ماكسار" عبر تقنية التصوير عبر الأقمار الاصطناعية في الأول من مارس/آذار أن ثلاثة مهابط طائرات تم إنشاؤها في مطار نيالا لصالح "الدعم السريع" خلال خمسة أسابيع بين يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط من عام 2025.

وأشار تقرير استقصائي لوكالة "رويترز" أن "الدعم السريع" حصل على مسيرات"CH-95" القتالية عالية الكفاءة صينية الصنع التي تستطيع أن تصيب أهدافها بدقة عالية ولم ينته التقرير عند هذا الحد بل أضاف أن "تدفق الأسلحة مستمر" وعلى الجانب الآخر يسرب الجيش معلومات تفيد بأنه حصل على طائرة"J-10" الصينية قاذفة الصواريخ بعيدة المدى والتي يشبهونها بالأميركية"F-16" إضافة إلى مسيرات"TB2" التركية الصنع ذات السمعة الرائجة.

وبعد عامين من الحرب أعلنت مجموعة من القوى السياسية والمدنية عن إطلاق وثيقة جديدة للحكم مسنودة من "قوات الدعم السريع" تمهيدا لإعلان حكومة موازية لحكومة قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان التي تتخذ مدينة بورتسودان بشرق السودان عاصمة لها. أي إن السودان يحصد بعد 24 شهرا من الحرب نموذج "الحكومتين" في دولة، إن لم يحصد تقسيما جديدا وهذا التطور المتمثل في توجه "الدعم السريع" إلى إعلان حكومة كان له أثر مباشر على تماسك القوى المدنية المنادية بإيقاف الحرب. أما المجتمع الدولي والإقليمي الذي نشط في رعاية مبادرات التفاوض بغية إسكات الحرب في السودان فقد أصابه ما يشبه الإعياء من مداواة الأزمة المتطاولة ووضعها في خانة الانتظار إن لم يكن الإهمال حتى يتموضع مع الرئيس العائد للبيت الأبيض دونالد ترمب.

هل ستنتهي حرب السودان قريبا؟

"قريبا" في هذا السؤال هي المحك، وبات السؤال ملحا وجوهريا بعد سنتين من الحرب وسباق التسلح الذي أشرنا إليه، والتشظي السياسي والمجتمعي الذي يجعل شبح التقسيم يطرق الأبواب بشدة.

والسؤال أعلاه هو ما يسأل عنه الجميع في السودان وخارج السودان. والواقع، جملة، يشير إلى أن انتهاء الحرب قريبا وفق نصر عسكري للجيش أو "الدعم السريع" أمر يصعب حدوثه على الرغم من استرداد الجيش لكثير من المناطق التي فقدها خلال 17 شهرا منذ بداية الحرب وبات يظهر في وضع المبادر مقابل تراجع "الدعم السريع". وإن شئت الدقة يتبدى هذا المشهد في العاصمة الخرطوم وفي ولايات وسط السودان بينما لم يختلف الحال كثيرا في إقليم دارفور وولايات جنوب السودان منذ عامين من الحرب.

وإزاء ذلك يتضح أن حرب السودان تندرج بجدارة تحت ظاهرة "الحرب الجديدة" التي لم يعد النصر فيها أن تقتل أكبر عدد من جنود العدو وتدمر آلياته القتالية وتحتل أكبر مساحة من الأرض، فيمكن أن ينتصر طرف تم تدمير آلياته بشكل شبه كامل، وتحولت بلاده إلى أنقاض ولكنه استطاع أن يحافظ على الحرب مستمرة وله القدرة على زعزعة أمان خصمه القوي ولو بأقل عتاد.

كل تجليات حرب السودان تؤكد أنها حرب سياسية بجدارة، وهي نتاج تداعي أحداث سياسية سبقتها وفي مقدمتها الثورة الشعبية التي أطاحت بالجنرال عمر البشير ونظامه في 2019

وهذا ما حدث في حرب إسرائيل الأخيرة على غزة، حيث قتلت إسرائيل ودمرت وانتشرت في حواري وأزقة غزة ولكنها لم تكسب الحرب، وكل ما فعله الغزاويون أنهم أبقوا الأمان معدوما لدى إسرائيل ولدى أسراها عندهم. وبينما كان الجيش السوداني يحرر القيادة العامة كانت مسيرات "الدعم السريع" تضرب سد مروي في أعالى شمال السودان وعند تحرير منطقة شرق النيل بالعاصمة الخرطوم، استهدفت المسيرة مطار مدينة عطبرة في ولاية نهر النيل شمالي الخرطوم، وبالعودة للسؤال أعلاه هل ستنتهي حرب السودان قريبا في حال استمرت الذهنية التي تدير الحرب من الطرفين على حالها، فقطعا الإجابة "لا" غليظة.

قال قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان في خطاب جماهيري يوم 12 مارس/آذار 2025: "لن نفاوض". وتلقفت الغرف الإعلامية المؤيدة لاستمرار الحرب التصريح وروجت له كأنه انتصار حاسم. ومن جانبه يشحذ "الدعم السريع" آلة الحرب يوميا متوعدا المناطق الآمنة بالويل والثبور. وقال القائد الثاني في "الدعم السريع" عبد الرحيم دقلو– الأخ غير الشقيق لمحمد حمدان دقلو قائد "الدعم": "سنواجههم حتى النهاية"، قاصدا الحركة الإسلامية التي تدعم استمرار الحرب.

من زاوية أخرى، وللإجابة على سؤال الحرب في السودان، فإنها ستنتهي ولكن بعد أن يستوعب الجميع أن الحسم العسكري لم يعد سهلا حتى للجيوش المدججة بالتكنولوجيا والعناصر المدربة ولنا في حرب أوكرانيا أسوة حسنة.

حرب السودان السياسية

هل توجد حرب غير سياسية؟ لا أبدا كل الحروب سياسية يقول الجنرال المفكر الاستراتيجي مؤلف كتاب "عن الحرب" كارل كلاوزفيتز: "الحرب هي ممارسة السياسة بأدوات أخرى"، وكل تجليات حرب السودان تؤكد أنها حرب سياسية بجدارة وهي نتاج تداعي أحداث سياسية سبقتها وفي مقدمتها الثورة الشعبية التي أطاحت بالجنرال عمر البشير ونظامه في 2019 وهو نظام استند في حكمه على الجيش والأجهزة الأمنية 30 عاما، وأصيب أعضاؤه بموجدة شديدة وحنق من فقد السلطة وتحولها إلى خصومهم السياسيين.

ديانا استيفانيا روبيو

وفي ظل أجواء رفضهم الملتهبة كان قرارهم أن ينحنوا للعاصفة إلى أن تنقشع سحابة الثورة الشعبية وأن يكتفوا بوضع العصي في الدواليب ولكن لم تفلح الخطة لأن زوال قبضتهم الأمنية أغرى السودانيين بمجاهرتهم بالعداء واستعادة مخازيهم خلال فترة حكمهم الطويل.

وهنا رجعوا للأدوات القديمة مستفيدين من استثمارهم المديد في الجيش وأقنعوا قادته وقادة "الدعم السريع" بتنفيذ انقلاب عسكري والاستيلاء على السلطة بالقوة كما حدث في 30 يونيو/حزيران 1989 عندما انقلبوا على الحكم الديمقراطي. وفعليا وقع الانقلاب في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021 ولكن ما لم يضعه منفذوه في الحسبان أن الانقلابات العسكرية أيضا خضعت للتغيير ولم تعد كما كانت في الماضي. ومن هذا الباب علق الاتحاد الأفريقي فورا عضوية السودان وتوقفت جميع العروض والمنح الاقتصادية الداعمة للسودان الخارج للتو من حكم دكتاتوري والذي يعاني من اقتصاد على حافة الانهيار.

مؤخرا ظهر في علوم الحرب ما يعرف بـ"حرب السردية" وتعني ما تقدمه الجيوش للجمهور من تبريرات لحربها وهي خليط من الإشاعة والأكاذيب الصريحة والموروثات الثقافية والدين والقيم القومية

وفوق ذلك خرجت الجماهير رافضة للانقلاب ووضعت المتاريس في الشوارع وقدم الثوار الشهداء لأجل إنهاء الانقلاب وتعثر الانقلاب في كل ذلك ولكن القشة التي قصمت ظهره وربما ظهر البلاد برمتها انشقاق كتلة الانقلاب نفسها وكان هذا الانشقاق متوقعا لأن أبرز سمات انقلاب 25 أكتوبر أنه كان "انقلابا برأسين" على حد تعبير السياسي السوداني المعروف الحاج وراق، رأس يمثله قائد الجيش عبد الفتاح البرهان ورأس آخر تحت إمرة قائد "الدعم السريع" محمد حمدان دقلو (حميدتي) الذي سرعان ما قال في لقاء تلفزيوني: " فشلنا"، وأن ما حدث ليس "تصحيح مسار للثورة"، كما يعرف البرهان أن ما جرى صبيحة 25 أكتوبر انقلاب على الحكومة الانتقالية على حد تعبير حميدتي.

مرك سميث

هنا قررت القوات المسلحة الانحناء للعاصفة خشية الصدام وعادت إلى التفاوض مع القوى السياسية وأخرجوا ممثليها من المعتقلات وبدأوا الترتيب لمرحلة سياسية جديدة قائمة على اتفاق سياسي جديد عرف بـ"الاتفاق الإطاري". غير أن النظام القديم كان له رأي آخر هذه المرة وحرك أعضاءه داخل الجيش وخارجه نحو التصعيد وإن أدى إلى الحرب والتي بالنسبة لهم تبقى أفضل من عودة خصومهم السياسيين بالاتفاق مع الجيش و"الدعم السريع". وفعلا انطلقت رصاصة من بندقية تبرأ منها الجميع ولكنها أشعلت حربا سياسية هي الأسوأ في الألفية الأخيرة. وبإجماع الخبراء لا تنتهي الحرب السياسية إلا بالحلول السياسية.

بعد عامين... ضرب الأمان مستمر 

ما لا يقال هو الذي يقتلنا. آنفا أوردنا أن الجيش وعد أنصاره وطمأنهم بأن النصر قريب والنصر في عرف الجيش السوداني القضاء على ميليشيا "الدعم السريع" على حد تعبيره، وإخضاع قواته للاستسلام، كذلك وعد "الدعم السريع" مشايعيه بالنصر والذي يعني القضاء على فلول النظام السابق وتحرير البلاد منهم وهزيمة "جيش الكيزان" وتحقيق الديمقراطية... ما لا يقال والذي يقتلنا أن كليهما لم يحقق شيئا مما وعد وبالأحرى لم يقترب من تحقيق وعده، وخاصة أن السودان وشعبه يكملان العام الثاني في ظل الحرب والدمار والقتل واللجوء والنزوح والجوع والمرض وضياع المستقبل. والأكثر مدعاة للأسف أن كليهما يعلم أن ما يروج له وعد غير واقعي يستخدمه فقط لإبقاء التأييد الشعبي لكل طرف منهما قائما.

ومؤخرا ظهر في علوم الحرب ما يعرف بـ"حرب السردية" وتعني ما تقدمه الجيوش للجمهور من تبريرات لحربها وهي خليط من الإشاعة والأكاذيب الصريحة والموروثات الثقافية والدين والقيم القومية، وهي لا تعني بأي حال تحقيق النصر، وما تم وعد الجماهير المؤيدة به. ومن سوء حظ السودانيين أن الحرب بات لها تعريف جديد وكذلك النصر الذي لم يعد له علاقة فعلية بما يتحقق في ميدان القتال ويمكن أن يخسر القوي أمانه بفعل الخصم الضعيف، وهذا يعني هزيمة سردية الأعداء المسلحين وإنكار نصرهم العسكري بتهديد مصالحهم وهذا ما حدث في حرب جنوب السودان الطويلة وعلى الرغم من أن الجيش السوداني لم يهزم في المعركة وتمكن دائما من إبقاء الحرب في جنوب السودان إلا عند اكتشاف النفط في جنوب السودان وفي تخوم جنوب السودان.

العام الذي تستشرفه حرب السودان سيكون الثالث، وكل ما توفر من معلومات يشير إلى أن الطرفين أصبحا أكثر استعدادا للفتك والدمار باستخدام مسيّرات حديثة وطائرات فتاكة

وباتت هنالك ثروة اقتصادية جديدة كان النظام في أشد الحاجة إليها. بكلمات أخرى، كانت هناك مصالح حقيقية مهددة جنح نظام البشير للسلام من أجلها، ويمكن أن نقول إن الجيش السوداني كسب المعركة ولكن الجيش الشعبي الذي كان يقاتله كسب الحرب وحقق هدفه السياسي منها المتمثل في الاستقلال بجنوب السودان وتأسيس دولة جديدة لذلك من الوارد أن تفرح بانتصار الجنود على الأرض وتصفق لهم ولكن النصر يتحقق في مكان آخر.

بعد مرور سنتين... كل الأطراف ليست بخير

الحقيقة خلال عامين من القتال أن كل شيء لم يعد كما كان، لا الجيوش المتحاربة ولا المجتمع الدولي الذي فرض عقوبات على العسكريين من الطرفين وعلى الإسلاميين الذين أشعلوا الحرب وعلى الشركات الموردة للسلاح. ولفت نظر الدول التي تؤجج الحرب بتوفير الدعم والمسيرات. لكن الحرب لم تنته والموت مستمر في حصد أرواح السودانيين.

ديانا استيفانيا روبيو

وبعد سنتين من القتال فشل المجتمع الإقليمي والدولي في إنهاء أبشع حرب داخلية في بلد أفريقي فقير ممزق أصلا بسبب حروب قديمة ولا يقل فشل المجتمع الدولي عن فشل الجيوش في تحقيق النصر الحاسم. وعلى الرغم من ذلك عادت الآمال وتعلقت بالعائد إلى البيت الأبيض دونالد ترمب الذي نجح في فرض تسوية في غزة ومضى خطوات في فرض حلول في الحرب الأوكرانية الروسية، عله يلتفت للأزمة في السودان ويلحقها بالحروب القائمة في العالم.

في عامها الثالث كيف ستكون؟ 

العام الذي تستشرفه حرب السودان سيكون الثالث، وكل ما توفر من معلومات يشير إلى أن الطرفين أصبحا أكثر استعدادا للفتك والدمار باستخدام مسيّرات حديثة وطائرات فتاكة وحشد ومعسكرات تدريب، وقد تمكن "الدعم السريع" من خلق اصطفاف جديد بعد تحالفه مع "قوات الحركة الشعبية" بقيادة عبد العزيز الحلو وقوات الطاهر حجر والهادي إدريس في دارفور. والجيش لم يتوقف عن تأسيس الكتائب الجهادية والجيوش القبلية ولا تعدم الحرب سردية تحشد لها التأييد في وجود وسائل التواصل الاجتماعي. إلا أن الجديد في عام الحرب الثالث وهو ما سينتبه الجميع إليه وخاصة السودانيين، يتلخص في أن كل وعود النصر لن تساوي نذرا يسيرا من معاناتهم وسيكون لهم موقف من استمرار الحرب في عامها الثالث.

font change