العودة إلى التراث بوصفه حاضرا ومستقبلا لا محض تاريخ

الارتقاء بالعلاقة التاريخية إلى مستوى الوجود التاريخي الأصيل

Aliaa Abou Khaddour
Aliaa Abou Khaddour

العودة إلى التراث بوصفه حاضرا ومستقبلا لا محض تاريخ

"الوصية التي تعين للوارث نصيبه هي التي تحدد للمستقبل ماضيه. من دون وصية، من دون تراث، لا وصل بين أجزاء الزمان. لا ماضي ولا مستقبل، ليس إلا الصيرورة" - حنه آرندت.

كان الناقد الفرنسي رولان بارت نبه، في ما يخص دراسة التراث الأدبي، أن على مؤرخي الأدب أن يستبدلوا نظرة مغايرة بالنظرة التي ينظرون بها إلى التراث الأدبي. فبدل النظر إلى هذا التراث من منظور تكويني، علينا، كما يقول، "أن نجعل من التحول الذي نعيشه مركزا، وننطلق منه كي نجعل تاريخنا الفكري ينتظم حوله. على هذا النحو سنتكلم عن ماضينا انطلاقا من لغة الحاضر، بل انطلاقا من لسان الحال". إلا أننا لن نتمكن من ذلك "ما لم نحرر موروثنا حتى يتمكن من العودة إلى ما اختزن فيه، العودة إلى هذا الذي لم ينفك عن الوجود، هذا الذي يهيمن على التراث منذ بداياته، وكان دوما أسبق منه متقدما عليه، دون أن يفكر فيه بوضوح، ودون أن ينظر إليه كأصل"، كما قال هايدغر. وحدها هذه العودة إلى اللامفكر فيه، هي القادرة على استعادة الذخائر التي حجبها الماضي.

القرب والبعد

لن تجدينا هنا، في طبيعة الحال، النظرة التأريخية الساذجة Historisante التي تقتصر على تبويب الحقب، ورصد المدارس، وتصنيف التيارات، لكي نرتقي بالعلاقة التاريخية إلى مستوى الوجود التاريخي الأصيل، أي إلى ما ينقله مترجمو هايدغر الفرنسيون بلفظ Historial حيث لا نكون، كما كتب هو نفسه، "لا على مسافة بعيدة ولا على مسافة قريبة من موروثنا".

ليست علاقتنا بمن تقدمنا علاقة تأريخية، ونحن لا نعثر عندهم على مبدأ تفسيري نعلل به تسلسل الوقائع في ما بعد

فليست علاقتنا بمن تقدمنا علاقة تأريخية. ونحن لا نعثر عندهم على مبدأ تفسيري نعلل به تسلسل الوقائع في ما بعد. إن استرجاع ما قالوه معناه أن نجد أنفسنا في وحدة القدر الذي هو قدرنا، والذي صدر عنه كلام ما انفك يعود نحونا في الوضوح الغامض للتراث، والحمولة المكتنزة للغة، أيا كان مصدر تلك اللغة: لغة المتون، أو لغة العمارة وأشكال الفنون. في هذا المعنى فإن ماضي الفكر غلاف للحاضر، حاضره هو، وحاضرنا نحن. معنى ذلك أن ذلك الماضي لم يحضر حتى بالنسبة إلى ذاته. إنه ماض ثري، لا بما كان له من امتداد في الحاضر فحسب، بل أيضا بما ظل ينطوي عليه من "أسرار"، وما يغلفه من كثافة.

GettyImages
الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر أثناء نقاش في توبنغن

لا عجب أن يقترن لفظ "تراث" دائما بلفظ "الكنز"، بما تنطوي عليه الكلمة من غنى وخفايا في الوقت ذاته. ههنا لن يعود اللجوء إلى التراث تزكية للوهم بالخلود، ولن يغدو التراث متحفا نزوره ترسيخا لهويتنا، ووعاء نغرف منه ما يلائم حاضرنا، ولن نلجأ إليه بهدف إحياء قيم غابرة، وإنما بغية إعادة إنتاج أصولنا لرصد تكونها، والحفر في ذاكرتنا لمعرفة كيف تشكلت، وكيف ترسخت أصولها، وتحددت نماذجها، وشحنت لغتها.

الماضي يجيء صوبنا

النتيجة الأولى التي تتمخض عن هذا المفهوم للتراث، هي أنه ليس مفهوما زمانيا. فهو لا يتطابق ونمط الزمان الماضي. وهو ليس "شيئا مضى، ليس موضوعا من موضوعات الوعي التاريخي". إنه لا يوجد وراءنا، وإنما "يجيء صوبنا لأننا معرضون إليه، ولأنه قدرنا" كما قال هايدغر.

GettyImages
الكاتب والناقد الفرنسي رولان بارت خلال جلسة تصوير في باريس

وبالمثل، لا يعني مفهوم القدر هنا خلودا سرمديا أو جبرية كونية، وإنما يردنا إلى الأصل التاريخي، لا كبداية زمنية و"أصل أول". فالأصل هنا ليس لحظة متميزة من لحظات التاريخ. الأصل ليس مبدأ تفسيريا، إنه ليس مبدأ ولا علة ولا بداية زمنية، بل إن البداية، على العكس من ذلك، هي الغلاف الذي يحجب الأصل ويغلفه.

الأصل لا ينفك يبتدئ، إنه الفجر الذي لا ينفجر بغتة، والذي لا يفصح عن مكنونه إلا مساء الفكر

الأصل لا ينفك يبتدئ، إنه الفجر الذي لا ينفجر بغتة، والذي لا يفصح عن مكنونه إلا مساء الفكر. فالفجر -كما يقول الفيلسوف ج. بوفري-"يظل معتما بالنسبة إلى ذاته من حيث هو إشراقة أولى، ويأتي الأفول والمغيب كي ينكشف الفجر في حقيقته التي كانت محجوبة". ليس المغيب هنا مكانا تغيب عنده الإشراقة، وهو ليس ثقافة بعينها. "المغيب" ليس وطنا ولا عرقا ولا أمة ولا قومية ولا بلدا، إنه لحظة انكشاف فجر لم يكف عن الإشراق. لذا يقول هايدغر عن اليونان "فجر الفكر الأوروبي": "في الوجود التاريخي الأصيل لا نكون لا على مسافة بعيدة، ولا على مسافة قريبة من اليونان. إننا نكون بالنسبة إليهم في التيه".

هذا التيه يجعل التراث يتصف بخاصية مزدوجة: فهو ينبوع وحاجز. التراث الذي لا يمكن الفكر أن يتجاوزه إلا بمحاورته، والذي هو الكفيل وحده بأن يمهد لما لم يفكر فيه، يشكل في الوقت ذاته حاجزا دون ذلك. التراث الذي يفرض سيادته، بعيدا عن أن يسمح بإدراك ما ينقله، فإنه غالبا ما يساهم، على العكس من ذلك، في تغليفه وحجبه، وهو يحط من محتواه، ويجعل منه مجرد بداهات وعادات، فيحول دون بلوغ المنابع الأصلية التي نهلت منها المقولات والمفهومات التقليدية في جزء منها على الأقل.

GettyImages
المشي وتأمل المعالم في وسط مدينة بريشيا، إيطاليا

صيرورة متسارعة

كتب هايدغر في "تجربة الفكر": "يظل الأقدم في كل ما هو قديم يلاحقنا، ولا بد أن يدركنا". تفيد هذه الملاحقة مفهوما معينا عن التاريخ لا ينحل إلى مجرد حركة صيرورة تقدمية متسارعة، وإنما يغدو، على العكس من ذلك، حركة حاضر يمتد بعيدا نحو الماضي. فلن ينحل التاريخ، مهما كان تسارعه، إلى مجرد حركة صيرورة تقدمية يتجاوز فيها اللاحق السابق، وإنما سيغدو، على العكس من ذلك، حركة حاضر لا يكون تذكرا فحسب، وإنما تنبؤا واستقبالا. عندما بلغ الفيلسوف الألماني سن الثمانين كتبت عشيقته حنه آرندت: "أحدهم، إذ انفصم الحبل الذي يشده إلى التراث، اكتشف الماضي من جديد... فاستعاد الفكر حيويته، وتمكن من استنطاق الذخائر الثقافية للماضي، تلك الذخائر التي كنا نعتقد أنها ماتت، وها هي الآن تقدم لنا أشياء تخالف أشد المخالفة ما كنا نعتقده". قطع الحبل، مثل قطع حبل السرة، لا يعني انفصالا مطلقا، وإنما عملية يربط عن طريقها الوليد بأمه من جديد. يظل التراث مجرد تقليد، وتظل الخيوط الذي تشدنا إليه مجرد قيود، ما لم نعد الوصل به من جديد. لكن، وحده الفكر القادر على خلق الانفصال هو الذي يستطيع أن يعيد الوصل ويتمكن من استعادة الذخائر التي حجبها الماضي.

ليس العود إلى التراث إذن رجوعا إلى ماض تأريخي، فالتراث يعنينا ويهم حاضرنا "في ما ينطوي عليه من غموض وما يقوى عليه من طاقة مستقبلية"

ذلك أن التقليد يسجن التراث ضمن قوالب جاهزة، ويحنطه داخل تأويلات متوارثة مكرورة منغلقة على ذاتها. وحده المستقبل كما قال نيتشه ينير الماضي. ولن يعود قطع الحبل إلا إقامة لعلاقة جديدة للماضي بالمستقبل، علاقة لا تشغل بالها أساسا بثبات الخصائص التي تميز، والحقائق التي تعتنق، والعادات التي تألف، والآراء التي تتداول، علاقة لا تكرس الصورة التي يفرض فيها التقليد سيادته، وإنما تسعى لأن تجعل من التقليد تراثا وتفتحه على آفاق جديدة تحرر ما نقل إلينا كي نتمكن من العودة إلى ما اختزنه ونكشف الماضي من جديد.

GettyImages
صورة عائلية قديمة تعود إلى عشرينات القرن الماضي – اليوم الأول في المدرسة

ليس العود إلى التراث إذن رجوعا إلى ماض تأريخي، فالتراث يعنينا ويهم حاضرنا "في ما ينطوي عليه من غموض وما يقوى عليه من طاقة مستقبلية". لكن ذلك لا يعني مطلقا أن الأمر يتعلق "ببعث نفس خالدة" ترقد فينا، وإنما، على العكس من ذلك، "بإبراز نفوس فانية" طالها النسيان وهمشها التاريخ.

font change

مقالات ذات صلة