الأيام المئة الأولى لترمب في منصبه...أزمات أصعب من المتوقع

تبنّى ترمب نهجا فريدا في معالجة القضايا انطلاقا من مبدأ "أميركا أولا"

أ.ب
أ.ب
ترمب يتحدث إلى الصحافيين برفقة وزير الداخلية دوغ بورغوم وزوجته كاثرين بورغوم، على متن طائرة الرئاسة حيث أعلن يوم 9 فبراير يوما لخليج أميركا، أثناء سفره من ويست بالم بيتش، فلوريدا، إلى نيو أورلينز في 9 فبراير

الأيام المئة الأولى لترمب في منصبه...أزمات أصعب من المتوقع

تسببت الأيام المئة الأولى لدونالد ترمب منذ بدء ولايته الثانية رئيسا للولايات المتحدة في ما يمكن اعتباره أكبر تحدٍّ للعلاقة عبر الأطلسي بين واشنطن وأوروبا منذ انهيار الستار الحديدي.

بالطبع، عرفت العلاقات الأميركية-الأوروبية في مناسبات سابقة توترات شديدة، مثل أزمة السويس عام 1956، وقبيل الغزو الأميركي للعراق عام 2003، الذي قوبل بمعارضة شديدة من ألمانيا وفرنسا.وأدت الانتقادات الحادة التي وجّهها الرئيس الفرنسي جاك شيراك آنذاك للحرب إلى أن يصف بعض أنصار إدارة بوش المتحمسين الحلفاء الفرنسيين السابقين بـ"قرود الاستسلام آكلة الجبن"، وهي إهانة لا تليق بأحد أقدم الحلفاء الأوروبيين للولايات المتحدة.

ومع ذلك، مقارنة بما أحدثه ترمب خلال الأيام المئة الأولى من ولايته الحالية ضمن التحالف عبر الأطلسي، تبدو تلك الخلافات السابقة محدودة نسبيا، إذ كانت غالبا ما تنتهي سريعا بالمصالحة.

أما الآن، فقد أدى الهجوم غير المسبوق الذي شنه ترمب على بعض الركائز الأساسية لهذا التحالف العريق، الذي تأسس خلال أحلك أيام الحرب العالمية الثانية، إلى دفع الكثير من القادة الأوروبيين للتساؤل عما إذا كانت التغييرات التي فرضها أسلوب ترمب التصادمي ستعني تغييرا في العلاقات بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين.

من حلف شمال الأطلسي إلى الرسوم الجمركية، ومن أوكرانيا إلى غزة، تبنّى ترمب نهجا فريدا في معالجة القضايا العالمية انطلاقا من مبدأ "أميركا أولا"، ما دفعه هو وإدارته إلى اتخاذ مواقف وسياسات تتعارض في كثير من الأحيان مع مواقف نظرائهم الأوروبيين.

معاملة ترمب المتعالية لزيلينسكي تعود إلى شعوره بالإحباط من عدم إحرازه تقدما كبيرا في مساعيه لإنهاء النزاع في أوكرانيا، بعدما تفاخر سابقا بأنه سينهي الحرب خلال 24 ساعة من توليه المنصب

وتُعد الحرب في أوكرانيا مثالا بارزا على ذلك. فبينما تواصل القوى الأوروبية الكبرى التزامها بدعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا، اختار ترمب منذ توليه منصبه السير في اتجاه مغاير تماما. وقد بدا في مناسبات متكررة أكثر حرصا على عقد صفقات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من الحفاظ على الدعم للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وهو ما كان يمثل التوجه الرسمي لواشنطن خلال إدارة بايدن السابقة.

وساد شعور عارم بالاستياء بين القادة الأوروبيين عقب المواجهة العنيفة بين ترمب وزيلينسكي في المكتب البيضاوي في فبراير/شباط، حين اتهم الرئيس الأميركي أوكرانيا فعليا بالتسبب في الحرب مع روسيا، مؤكدا أن زيلينسكي يسعى لإشعال حرب عالمية ثالثة.

رويترز
من اللقاء الذي جمع بين الرئيس ترمب والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض في واشنطن، الولايات المتحدة، 28 فبراير 2025

وقد أدى قرار ترمب اللاحق بتعليق جميع إمدادات الأسلحة وتبادل المعلومات الاستخباراتية مع أوكرانيا إلى تهديد خطير لقدرة كييف على الدفاع عن نفسها ضد روسيا، إذ باتت تعتمد بشكل كبير على الدعم الأميركي في مجهودها الحربي. وقد أسفر قرار ترمب بسحب الدعم العسكري عن تمكين القوات الروسية من أخذ زمام المبادرة ميدانيا، حيث حققت عدة مكاسب في منطقة كورسك جنوب روسيا، وهي منطقة كانت القوات الأوكرانية قد استعادت أجزاء منها لفترة وجيزة في نهاية العام الماضي.

لكن تعليق الإمدادات العسكرية لم يدم سوى أيام قليلة، بعدما حقق هدفه المرجو بإقناع زيلينسكي بالنظر بجدية في خيار الدخول في مفاوضات سلام.

ويُقال إن معاملة ترمب المتعالية لزيلينسكي تعود إلى شعوره بالإحباط من عدم إحرازه تقدما كبيرا في مساعيه لإنهاء النزاع في أوكرانيا، بعدما تفاخر سابقا بأنه سينهي الحرب خلال 24 ساعة من توليه المنصب.

وقد أثار السعي الأحادي الذي انتهجه ترمب من أجل التوصل إلى اتفاق سلام لأوكرانيا استياء الأوساط الدبلوماسية الأوروبية، إذ إن قراره فتح محادثات مباشرة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وتكليفه المبعوث الأميركي الخاص ستيف ويتكوف بقيادة محادثات وقف إطلاق النار الحساسة مع الكرملين، أدى فعليا إلى تهميش الدور الأوروبي في هذه العملية.

كما أن القادة الأوروبيين لم يُظهروا إعجابهم بمسودة اتفاق وقف إطلاق النار التي خرجت من البيت الأبيض، والتي تقترح أن تتنازل أوكرانيا عن الأراضي التي استولت عليها القوات الروسية في شرق أوكرانيا وشبه جزيرة القرم منذ اندلاع الأعمال العدائية عام 2014، وأن تعترف واشنطن بهذه الأراضي كأراضٍ ذات سيادة روسية.

تُعد منطقة الشرق الأوسط مثالا آخر على التبايناتالتي أفرزها إصرار ترمب على اتباع نهج منفرد، خصوصا في موقفه من النزاع في غزة، حيث أثارت مواقفه المنحازة لإسرائيل مخاوف متزايدة من العواقب المحتملة لهذا النزاع

وسيؤدي مثل هذا الإجراء إلى تقويض كامل للنظام الدولي القائم منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، والذي يقدّس مبدأ وحدة أراضي الدول واستقلالها.

وفي المقابل، وضع القادة الأوروبيون- الذين لا يزالون ملتزمين بدعم أوكرانيا في نضالها للحفاظ على استقلالها- خطة خاصة بهم، تقضي بتقديم قوة ضمان معينة لأوكرانيا في حال التوصل إلى وقف لإطلاق النار، بهدف ردع أي اعتداءات روسية جديدة.

وقد ارتفعت الآمال بإمكان إقناع ترمب بتخفيف نبرته الموالية لروسيا في مساعيه للتوصل إلى وقف لإطلاق النار، عقب لقائه المفاجئ مع زيلينسكي في الفاتيكان خلال جنازة البابا فرانسيس. حيث وجه ترمب، بعد اللقاء، نداء مباشرا إلى بوتين لوقف الهجمات الروسية ضد المدنيين الأوكرانيين، ما يشير إلى احتمال أن يكون البيت الأبيض أقل استعدادا مستقبلا لتلبية مطالب موسكو.

أ ب
الرئيس دونالد ترمب يتحدث خلال الإعلان عن "يوم التحرير" والرسوم الجمركية الجديدة في حديقة البيت الأبيض، 2 أبريل 2025

ومع ذلك، فإن الموقف العدائي الذي تبناه ترمب تجاه أوروبا خلال الأيام المئة الأولى من ولايته دفع الكثير من القادة الأوروبيين إلى التفكير بجدية في مدى إمكانية الاعتماد على المظلة الأمنية التي وفّرتها الولايات المتحدة تقليديا لحماية المصالح الأوروبية ضمن إطار حلف شمال الأطلسي.

وقد أثارت دهشة الأوروبيين الاتهامات التي وجهها أعضاء بارزون في إدارة ترمب، مثل نائب الرئيس جيه دي فانس والتي زعمت أن الأوروبيين يعيشون منذ عقود على نفقة الأميركيين.

ودفعت هذه التصريحات حكومات باريس وبرلين ولندن إلى دراسة جدية لزيادة ميزانيات الدفاع، واتخاذ تدابير لتحسين قدرتها على حماية نفسها من التهديدات المستقبلية، سواء بدعم أميركي أو من دونه.

وقد يتحول هذا التوجه إلى أولوية في حال أصر ترمب على تهديده بتقليص الوجود العسكري الأميركي في أوروبا، ذلك الوجود الذي حافظت عليه الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة.

وأدى ذلك إلى أن تستنتج دول حليفة قديمة مثل ألمانيا وفرنسا أنها لم تعد قادرة على الاعتماد على واشنطن. وتُعد ألمانيا الأكثر تضررا في حال سحب ترمب القوات الأميركية، نظرا لاعتماد سياستها الأمنية والدفاعية على استمرار الوجود العسكري الأميركي في أوروبا، فضلا عن استضافتها لأكبر تجمع للقوات الأميركية في القارة ووجود أسلحة نووية أميركية على أراضيها.

وقد أثار عدم اكتراث ترمب الواضح بالحفاظ على دعم الولايات المتحدة لحلف شمال الأطلسي شكوك الحلفاء في أوروبا، إلى جانب كندا واليابان وكوريا الجنوبية، حول مدى إمكانية الاعتماد على واشنطن، وما إذا كانت الالتزامات التقليدية التي طال أمدها لا تزال قائمة.

وتُعد منطقة الشرق الأوسط مثالا آخر على التبايناتالتي أفرزها إصرار ترمب على اتباع نهج منفرد، خصوصا في موقفه من النزاع في غزة، حيث أثارت مواقفه المنحازة لإسرائيل مخاوف متزايدة من العواقب المحتملة لهذا النزاع.

بعد الاضطرابات الدبلوماسية التي خيمت على علاقات الولايات المتحدة بأوروبا خلال الأيام المئة الأولى من ولاية ترمب، لا يوجد أي ضمان بأن محاولاته المقبلة لاجتذاب القادة الأوروبيين ستنجح في ترميم الثقة داخل التحالف عبر الأطلسي

وقد أثارت بشكل خاص مقترحاته بتحويل غزة إلى "ريفييرا الشرق الأوسط" ونقل مليوني فلسطيني يعيشون في القطاع إلى دول عربية مجاورة مثل الأردن ومصر، مخاوف جدية بشأن مستقبل القضية الفلسطينية.

وبعد إصراره على أن يوافق الطرفان على وقف لإطلاق النار قبل توليه المنصب، يبدو أن ترمب يحمّل حركة "حماس" الآن مسؤولية عدم الحفاظ على السلام في غزة، إذ منح الرئيس الأميركي فعليا الضوء الأخضر للجيش الإسرائيلي لتحقيق هدفه المعلن بالقضاء التام على "حماس"، وهو هدف يرى معظم القادة الأوروبيين أنه غير قابل للتحقيق.

وفيما يتعلق بإيران، فقد أصدر ترمب إشارات متناقضة. فبينما حذّر طهران من أنها ستواجه عملا عسكريا مباشرا من الولايات المتحدة إذا لم تفكك برنامجها النووي بالكامل، ألمح لاحقا إلى استعداده لإبرام اتفاق مشابه لذلك الذي تفاوض عليه الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عام 2015، والذي سمح لإيران بالاحتفاظ ببعض عناصر أنشطتها النووية مقابل ضمانات تحول دون تطويرها لأسلحة نووية.

أ.ب
ترمب يلقي كلمة في جلسة مشتركة للكونغرس في قاعة مجلس النواب بمبنى الكابيتول الأميركي بواشنطن، في 4 مارس

وقد شكَّل مجال التجارة أحد أبرز الميادين التي خضعت لامتحان عسير في علاقات إدارة ترمب مع الجانب الأوروبي، حتى كادت أن تتهاوى تحت وطأة التحديات.إذ أدى فرض الرسوم الجمركية بشكل أحادي، مع استهداف الاتحاد الأوروبي بشكل خاص، إلى دفع الكثير من القادة الأوروبيين للتساؤل عما إذا كان بإمكانهم مجددا اعتبار الولايات المتحدة شريكا تجاريا موثوقا.

وقد اتهم ترمب الاتحاد الأوروبي مباشرة بتحقيق مكاسب تجارية غير عادلة على حساب الولايات المتحدة، وفرض في البداية رسوما جمركية بنسبة 20 في المئة ضد بروكسل بهدف إعادة التوازن إلى العجز التجاري.لكنه تراجع في نهاية المطاف عن هذا النهج التصادمي، ووافق على تعليق النسبة لمدة تسعين يوما، مقابل فرض نسبة مخفّضة تبلغ 10 في المئة.

ومع ذلك، فإن استعداده لإشعال حرب تجارية مع أحد أقرب حلفاء واشنطن أثار استياء واسعا في الأوساط الأوروبية. وأظهر استطلاع للرأي أُجري في تسع دول أوروبية أن 63 في المئة من الأوروبيين يعتقدون أن ترمب يجعل العالم "أقل أمانا"، بينما يرى 5 في المئة أنه "عدو لأوروبا".

ويبقى أن نرى ما إذا كان ترمب قادرا على تغيير هذه الصورة السلبية. إذ تُظهر علاقته الدافئة مع رئيسة الوزراء الإيطالية ذات التوجه اليميني جورجيا ميلوني، التي وصفها بأنها "قائدة رائعة وشخص مميز"، أنه قادر في بعض الظروف على بناء علاقات إيجابية مع حلفائه الأوروبيين.

ويقول ترمب إنه يتطلع أيضا إلى إجراء زيارته الرسمية الثانية إلى المملكة المتحدة، والمقررة في وقت لاحق من هذا العام، حيث سيكون ضيفا على الملك تشارلز والحكومة البريطانية.

لكن، وبعد الاضطرابات الدبلوماسية التي خيمت على علاقات الولايات المتحدة بأوروبا خلال الأيام المئة الأولى من ولاية ترمب، لا يوجد أي ضمان بأن محاولاته المقبلة لاجتذاب القادة الأوروبيين ستنجح في ترميم الثقة داخل التحالف عبر الأطلسي.

font change