هل تستطيع واشنطن وبكين التراجع عن حرب التجارة؟

البلدان أبديا رغبة في المفاوضات، لكن الطريق شاقة ومؤلمة

دانيال غارسيا
دانيال غارسيا

هل تستطيع واشنطن وبكين التراجع عن حرب التجارة؟

علق الرئيس الأميركي دونالد ترمب الحرب التجارية العالمية التي أطلقها مطلع الشهر الجاري، ومنح كل الدول تقريبا مهلة 90 يوما في شأن التعريفات الجمركية الأميركية المرتفعة. لكن دولة واحدة استُثنيت من ذلك هي الصين، بسبب "عدم الاحترام الذي أبدته الصين لأسواق العالم"، كما قال. في حين خفض معدل التعريفة على كل الدول الأخرى إلى 10 في المئة. فإن معدل تعريفاته على معظم الواردات الصينية يبلغ في الواقع 145 في المئة نظرا إلى وجود رسوم قائمة بالفعل مقدارها 20 في المئة.

بقدر ما كان القرار الذي اتخذه ترمب غريبا، ليس من المفاجئ أن تنحصر المواجهة التجارية لواشنطن الآن، موقتا على الأقل، لتصبح حربا تجارية بين الولايات المتحدة والصين. فطالما رأى ترمب ومستشاروه أن الصين هي المذنبة الرئيسة في نظام تجاري عالمي غير عادل، لأنها تغرق الولايات المتحدة بسلع مدعومة. وأثار الرئيس الصيني شي جين بينغ غضب ترمب بوصفه الزعيم الوحيد الذي تجرأ على الرد بفرض تعريفات انتقامية ردا على إعلان ترمب التعريفات الجمركية يوم الأربعاء الماضي.

لن يكون التراجع سهلا على مغرورين

سيكون التراجع عن الحرب التجارية أمرا صعبا على دولتين يقودهما زعيمان يتمتعان بقدر كبير من الغرور وسلطة غير مقيدة إلى حد كبير. ومع احتدام المعركة التجارية كل يوم، تحاول كل من الحكومتين تصوير نفسها بأنها صاحبة اليد العليا.

أعتقد أن الصين ربما تكون في وضع أفضل لتحمل الضائقة، لأنها دولة أوتوقراطية. وأعتقد أنك ستبدأ في سماع كثير من شكاوى المستهلكين في الولايات المتحدة عندما نشهد ارتفاع الأسعار في المتاجر الكبرى

ويندي كتلر، نائبة رئيس معهد الجمعية الآسيوية للسياسات

قالت وزارة التجارة الصينية في بيانات متعددة إنها لن ترضخ "للتنمر" الأميركي. وتشير وسائل الإعلام الرسمية الصينية والبيانات الرسمية إلى أن بكين مستعدة لتحمل الضغوط الاقتصادية، حتى لو تراجع نمو الناتج المحلي الإجمالي قليلا هذا العام في ظل خلفية اقتصادية ضعيفة بالفعل.

شي جين بينغ أكثر راحة من ترمب

وقالت ميلاني هارت، المديرة الأولى لمركز الصين العالمي التابع للمجلس الأطلسي، في إحاطة صحافية قبل إعلان تعليق التعريفات: "لقد استعدوا طويلا لهذا الموقف. وهم في مأمن الآن، ولو كنت شي جين بينغ، لشعرت براحة أكبر بكثير من دونالد ترمب اليوم"، وأشارت إلى الجهود التي بذلتها بكين في السنوات الأخيرة لخفض الاعتماد على الأسواق الخارجية وتعزيز الابتكار المحلي.

أ.ف.ب.
حاويات مكدسة في ميناء جيرسي، في ولاية نيوجرسي الأميركية بعدما فرض ترمب موجة الرسوم الجمركية على دول العالم، 8 أبريل 2025

وعلى الرغم من كل الصلاحيات التي حشدها ترمب، فإنه لا يزال أكثر عرضة لضغوط الأسواق والناخبين الأميركيين، مقارنة بالرئيس الصيني، الذي عزز سلطته وبلغ مكانة لا مثيل لها منذ أيام ماو تسي تونغ.

وقالت ويندي كتلر، نائبة رئيس معهد الجمعية الآسيوية للسياسات والمفاوضة السابقة في مكتب الممثل التجاري الأميركي: "أعتقد أن الصين ربما تكون في وضع أفضل لتحمل الضائقة، لأنها دولة أوتوقراطية. وأعتقد أنك ستبدأ في سماع كثير من شكاوى المستهلكين في الولايات المتحدة عندما نشهد ارتفاع الأسعار في المتاجر الكبرى ومتاجر البيع بالتجزئة".

السؤال إذن هو: هل ستنتظر الدولتان حتى لا تعودا قادرتين على تحمل الألم الاقتصادي، أم أن في وسعهما سلوك طريق مختصر إلى المفاوضات؟

عانى المزارعون الأميركيون من عواقب حروب ترمب التجارية السابقة. ففي ولايته الأولى، أسفرت حربه التجارية مع الصين عن خسارة صادرات زراعية تتجاوز قيمتها 27 مليار دولار بين سنتي 2018 و2019

مع أن من المرجح أن تلحق التعريفات الجمركية ضررا أكبر بالصين، لأنها تصدر سلعا أكثر إلى الولايات المتحدة مما تستورد منها، فإنها ستؤثر أيضا على الولايات المتحدة. فقد ردت الصين بفرض تعريفات إجمالية بنسبة 84 في المئة على الولايات المتحدة، ومن المرجح أن ترد مرة أخرى على إعلان ترمب الأخير في شأن التعريفات بمزيد من الإجراءات الانتقامية.

وقالت كتلر: "أعتقد أن كلا الجانبين اقتربا من الحد الأقصى تقريبا لاستخدام أداة التعريفات الجمركية، لأن معدلاتها الحالية بلغت ارتفاعا شديدا الآن يعوق حدوث أي تجارة تذكر بين الولايات المتحدة والصين"، وأضافت أن بكين ستلجأ ثانية على الأرجح إلى تدابير أخرى في ترسانتها، مثل العقوبات على الشركات الأميركية والمعادن.

المزارعون الأميركيون سيعانون

وبموجب التعريفات الجمركية الصينية الحالية على الواردات الأميركية، من المؤكد أن يعاني المزارعون الأميركيون الذين يشكلون قسما رئيسا من قاعدة ناخبي ترمب. فالقطاع الزراعي يعتمد اعتمادا شديدا على التجارة مع الصين، وهي من أكبر مشتري السلع الزراعية في العالم، وكانت في سنة 2023 أكبر سوق للصادرات الزراعية الأميركية، وخاصة فول الصويا.

.أ.ب
مزارع يعرض برتقال ومنتجات مزارع كاليفورنيا، في مدينة غليندال 10أبريل 2025

في مقابلة مع أخبار "هوجر آغ توداي"، قال كالب راغلند، رئيس الجمعية الأميركية لفول الصويا: "نحن نواجه بالفعل فترة عصيبة في الاقتصاد الزراعي، واجتماع الأضرار اللاحقة بالصادرات مع المعاناة التي يواجهها الاقتصاد الزراعي بالفعل أمر خطير للغاية ويثير مخاوف شديدة لدينا".

لقد عانى المزارعون الأميركيون من عواقب حروب ترمب التجارية السابقة. ففي ولايته الأولى، أسفرت حربه التجارية مع الصين عن خسارة صادرات زراعية تتجاوز قيمتها 27 مليار دولار بين سنتي 2018 و2019. ودفع ذلك إدارة ترمب في النهاية إلى تقديم خطة إنقاذ بقيمة 28 مليار دولار للمساعدة في تخفيف حدة تلك الضربة.

إذا تمسك كلا البلدين بمواقفهما في النهاية، "فلا بد من أن يشعر الجانبان بمعاناة اقتصادية كبيرة على ما أعتقد، في الأسواق المالية أو الاقتصاد الحقيقي"

جوش ليبسكي، المدير الأول للمركز الجيواقتصادي التابع للمجلس الأطلسي

وقالت وزيرة الزراعة الأميركية بروك رولينز إن إدارة ترمب تدرس تقديم مساعدة مماثلة للمزارعين الآن، مع أنها أضافت، "نحن نمر في فترة من عدم اليقين بخصوص ما سيبدو عليه ذلك". وأبلغت "بلومبرغ نيوز" أن "الهدف الذي نتوخاه هو ألا نحتاج إلى القيام بذلك على الإطلاق، وأن تؤدي هذه التغييرات وإعادة تنظيم الاقتصاد إلى مرحلة غير مسبوقة من الازدهار لجميع الأميركيين، وخاصة لمزارعينا ومربي الماشية".

العين على سوق العمل والركود

ومع ذلك، حتى لو قدمت إدارة ترمب حزمة مساعدات طارئة أخرى للمزارعين، فسيكون من الصعب إزالة آثار الأضرار الأخرى. ففي أعقاب حرب ترمب التجارية الأولى، خسر القطاع الزراعي الأميركي حصة كبيرة في سوق فول الصويا لصالح البرازيل، وقد يستمر المشترون الصينيون في البحث عن أماكن أخرى إذا استمر تصاعد حدة الحرب التجارية.

أ.ف.ب.
متجر أبل يعرض منتجاته في واشنطن، وأسعار الهواتف الى ارتفاع بعد فرض الرسوم الجمركية، 8 أبريل 2025

وقال جوش ليبسكي، المدير الأول للمركز الجيواقتصادي التابع للمجلس الأطلسي، إنه إذا تمسك كلا البلدين بمواقفهما في النهاية، "فلا بد من أن يشعر الجانبان بمعاناة اقتصادية كبيرة على ما أعتقد، في الأسواق المالية أو الاقتصاد الحقيقي" قبل أن يرفع أي من البلدين غصن الزيتون. وستكون المؤشرات الرئيسة التي يجب مراقبتها في الولايات المتحدة في الاقتصاد الحقيقي - أكان ذلك ضعفا في سوق العمل أو اقتراب البلاد من حالة الركود بسبب الحرب التجارية. وأضاف أنه "إذا كانت مؤشرات الاقتصاد الحقيقي أسوأ بكثير من التوقعات التي أعقبت الانتخابات مباشرة – فسيؤدي ذلك إلى تغير الحسابات".

ترمب يراهن على لقاء بينغ

لا يزال ترمب يأمل في أن تتراجع بكين تحت ضغط تعريفاته المتصاعدة قبل بلوغ تلك المرحلة، ويبدو منفتحا على صفقة مع الصين، لكنه أشار إلى أن المسؤولية تقع على بكين. وقال: "الصين تريد إبرام صفقة. لكنها لا تعرف كيف تفعل ذلك... أنهم شعب ذو أنفة وطنية. والرئيس شي رجل معتز بنفسه. أنا أعرفه جيدا، إنهم لا يعرفون كيف يفعلون ذلك، لكنهم سيجدون حلا. وسيتم إبرام صفقة مع الصين".

إقرأ أيضا: لماذا لن تنجح استراتيجية "كيسنجرية معكوسة" ضد الصين؟

وعلى الرغم من التوتر، يرغب ترمب في لقاء الرئيس شي جين بينغ، لكنه يريد مرة أخرى أن يخطو الزعيم الصيني الخطوة الأولى. وقال ترمب للصحافيين في حدث منفصل في المكتب البيضاوي: "أعتقد أن الرئيس شي يعرف ما يجب فعله بالضبط. وهو يدرك ذلك تماما. أعتقد أنني سأتلقى اتصالا هاتفيا في مرحلة ما، وعندئذ ستتحرك الأمور بسرعة".

المأساة تكمن في أن الولايات المتحدة والصين اقتصادان كبيران بالقدر الكافي لتحمل هذا النوع من حرب الاستنزاف

جاك تشانغ، أستاذ مساعد في العلوم السياسية في جامعة كانساس

أفيد أن الجانب الصيني واجه صعوبة في إيجاد محاور داخل إدارة ترمب. لكن كتلر أوضحت أن وجود قناة اتصال خلفية أمر بالغ الأهمية، لأنه يسمح للجانبين بالجلوس إلى طاولة المحادثات في وقت واحد ومن ثم حفظ ماء الوجه.

المفاوضات تنتظر العروض الصينية السخية؟

وقال مارك وو، مدير مركز فيربانك للدراسات الصينية في جامعة هارفرد ومستشار أول سابق في مكتب الممثل التجاري الأميركي في عهد إدارة بايدن، إن على بكين أن تكون مستعدة لتقديم حزمة كبيرة لفريق ترمب من أجل إعادة إطلاق المحادثات بنجاح.

وأضاف: "أعتقد أن إدارة ترمب أوضحت أنه على الرغم من أنكم لم تفوا بشروط الصفقة الأخيرة، فإننا لا نزال راغبين في بدء المفاوضات معكم، لكن يجب أن نرى المزيد من العروض على الطاولة هذه المرة، لا سيما أنه لم يتم الوفاء بشروط الصفقة الأخيرة تماما". ففي اتفاق المرحلة الأولى، الذي تم التوصل إليه في نهاية حرب ترمب التجارية الأولى مع الصين في سنة 2020، تعهدت الصين بشراء سلع وخدمات إضافية بقيمة 200 مليار دولار من الولايات المتحدة في غضون عامين، لكنها لم تلتزم بتعهداتها في النهاية.

ديانا استيفتنيا روبيو
إنفوغراف "المجلة"

عندما سأل أحد الصحافيين قبل أسبوعين عما يرغب ترمب في أن تقوم به الصين تحديدا، أجاب الرئيس الأميركي: "أنا من سيخبر الصين بما هو، وليس أنت".

حرب استنزاف بين اقتصادين جبارين

ربما يستغرق الأمر بعض الوقت، وجولات عدة من التصعيد الإضافي، قبل أن يصبح الجانبان مستعدين لأن يناقشا بجدية الخطوط العريضة الحقيقية لصفقة تجارية جديدة. ويقول جاك تشانغ، أستاذ مساعد في العلوم السياسية في جامعة كانساس: "المأساة تكمن في أن الولايات المتحدة والصين اقتصادان كبيران بالقدر الكافي لتحمل هذا النوع من حرب الاستنزاف".

وأضاف أن "حروب الاستنزاف تضع أوزارها في النهاية، وينكسر الجمود بطرق غير متوقعة. ومع أن من الصعب التنبؤ بموعد حدوث ذلك، فإن من المؤكد أن الولايات المتحدة والصين ستكونان في حالة أسوأ عند الخروج منها".

font change