إدوارد مونك صاحب "الصرخة" في عالم الصور الشخصية

كائن اجتماعي رغم عزلته

National Portrait Gallery - David Parry
National Portrait Gallery - David Parry
جانب من المعرض الذي يحمل عنوان "بورتريهات إدوارد مونك"

إدوارد مونك صاحب "الصرخة" في عالم الصور الشخصية

عام 2012 بيعت لوحة "الصرخة" للفنان النروجي إدوارد مونك بما يقارب 120 مليون دولار. لا أعرف ما إذا كانت لا تزال أغلى لوحة بيعت في مزاد علني، لكنها بالتأكيد لا تزال اللوحة الوحيدة التي لا تنافسها في الشهرة سوى لوحة "موناليزا" لدافنشي. مونك الذي عاش بين عامي 1863 و1944 تستعيده "ناشيونال غاليري" لفن البورتريه بلندن في معرض كبير هو الأول من نوعه يضم معظم ما رسمه من صور شخصية له ولأفراد عائلته ولأصدقائه وأشخاص آخرين إما كلفوه رسمهم أو أنه أُعجب بأشكالهم.

هذا المعرض الأول من نوعه في بريطانيا هو بمثابة خلاصة لدرس مونك في رسم الصور الشخصية، يقع خارج صيته المتداول وقد يكون أهم على مستوى المعالجة الجمالية مما هو متداول نقديا، اعتمادا على لوحاته الشهيرة وفي مقدمتها "الصرخة" التي هي واحدة من سلسلة مكونة من أربعة أعمال. لقد أسطرت "الصرخة" كما أسطرت من قبلها لوحة فنسنت فان غوخ التي تمثله بالضماد حول أذنه. حين النظر إلى صور الأشخاص الذين رسمهم مونخ، يغيب عنصر البحث عن المهارة المدرسية. لا مشكلة في الشبه بين الواقع وما يظهر على سطح اللوحة. ما نراه يؤكد أن الرسام كان يبحث عن شيء آخر يقع خارج ما يراه. فرسم أخته الصغيرة أنغر، وهي موديله المفضل، بطريقة ضبابية، كأنه أراد أن يبلغنا أن معالجة الشكل جماليا أهم من الشكل. ذلك ما فعله في كل اللوحات التي يضمها المعرض الذي يحمل عنوان "بورتريهات إدوارد مونخ".

ما لا يُرى

بغض النظر عن انتمائه إلى الأسلوب التعبيري كان مونخ نروجي المزاج، بمعنى ميله إلى الألوان الباردة. ومثلما يُعتقد أن مونك يمثل العصر الذي نعيش فيه، فإنه أيضا يضعنا في إطار لحظته الشعورية الخاصة.

خلاصة درس مونك في رسم الصور الشخصية أنه يقع خارج صيته المتداول وقد يكون أهم على مستوى المعالجة الجمالية مما هو متداول نقديا

ليست كل اللوحات التي يضمها المعرض عظيمة لكنها ستكون كذلك لأنها من خلق واحد من أعظم رسامي الفن الحديث. استخف مونخ بتقاليد المدرسة التعبيرية. وفي هذا المعرض بالذات بدا تأثره واضحا بالنمساوي غوستاف كليمت والهولندي فنسنت فان غوغ. لم يرسم مونك بطريقة متشنجة كما فعل أوسكار كوكوشكا أو كريشنر اللذان كانا واجهة للمدرسة التعبيرية. كان هادئا وعاطفيا في التعبير، غير أنه في الوقت نفسه لم يعر اهتماما للتفاصيل وهو يرسم شخصياته. لم يهتم بالأثاث ولا بالثياب بل في كثير من الأحيان لم يهتم بأجزاء من الوجه الذي يرسمه.

National Portrait Gallery - David Parry
جانب من المعرض الذي يحمل عنوان "بورتريهات إدوارد مونك"

كان يبحث عن الشيء الذي لن تتمكن عيناه من التقاطه، ذلك الذي يمكن أن يغمره بالبهجة حين يتأكد من خلاله أنه بلغ غايته. لم يكن مونك يرسم لوحات لكي يسعد الآخرين بقدر ما كان يعبر عن عزلته. فنادرة هي اللوحات التي رسم فيها أشخاصا في حالة حوار أو مشاركة، بل هناك شعور عميق بالعزلة يبدو واضحا على الوجوه المتأملة بشيء لافت من الغضب.    

الرسام باعتباره صانع صور

نفذ مونخ لوحاته بضربات سريعة كأنه كان يخشى أن يختفي الإلهام أثناء الرسم. تلك طريقته التي وسع من خلالها المناطق التي تتحرك فيها المدرسة التعبيرية. كان تعبيريا إنما من طراز خاص. ففي غير لوحة، تظهر ضربات في غير مكانها كأن تغطي بقعة بيضاء جزءا من العين، كأن الرسام ارتكب خطأ ولم يصححه. غير أن مونخ كان يعرف ما يفعل بدقة فهو يقول "لا تنسوا أبدا أن هذه صورة شخصية قبل أن تكون شخصا". غير أن صورته الشخصية شابا التي عرضت في صدارة المعرض تبدو منضبطة مدرسيا أكثر من سواها. ربما لهذا السبب ظل نقاد الفن يصرون على أنها واحدة من أسوأ لوحاته.

National Portrait Gallery - David Parry
جانب من المعرض الذي يحمل عنوان "بورتريهات إدوارد مونك"

تلك لوحة لا تمثل الفنان في نضوجه ومرحلة تطور أسلوبه الفني العاصف. ربما كان يومها يسعى إلى السيطرة على أدواته، وهو أمر طبيعي يقع قبل أن يصل الفنان إلى حقيقة أن فعل الرسم ينتج لوحات ولا يعيد خلق أشخاصها. ذلك ما عناه بمقولته عن الصورة الشخصية. في كل الصور التي رسمها لكبار المبدعين في عصره (السويدي سترندبرغ والفرنسي مالارميه والنروجي إبسن) لا تخرج الصورة بعيدا عن العناصر التي تتميز بها شخصيته اليائسة والساخرة والعنيفة والعبثية والناكرة أي معنى.

نادرة هي اللوحات التي رسم فيها أشخاصا في حالة حوار أو مشاركة، بل هناك شعور عميق بالعزلة يبدو واضحا على الوجوه المتأملة

كانت الصورة الشخصية جزءا من حياته وليست جزءا من حياة الشخصية المرسومة. كل الذين جلسوا أو وقفوا أمامه ليرسمهم، يعرفون هذه الحقيقة ولكنهم فعلوا ذلك من أجل  أن يكون لهم مكان في تاريخه.

الكائن الاجتماعي لم يكن كئيبا

لم يكن مونخ كئيبا وهو ما يبدو واضحا من خلال ألوانه الزاهية. صحيح أنه فكر في الموت كثيرا، غير أن ذلك لم يدفعه إلى استعمال ألوان ميتة. فتبرز ألوان الأصفر والبرتقالي والأحمر في لوحات هذا المعرض الاستثنائي، من جهة تسليط الضوء على علاقة الرسام بالأشخاص الذين يرسمهم: والده الكئيب الذي يدخن غليونا  وأخته لورا المصابة بالانفصام وأخوه الذي يتأمل جمجمة. أما حين رسم إليزابيث فورستر نيتشه، شقيقة الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، فيقال إنه كان يتحدث طوال جلسة الرسم ولم يسمع منها كلمة واحدة.

National Portrait Gallery - David Parry
جانب من المعرض الذي يحمل عنوان "بورتريهات إدوارد مونك"

هل كان مونك يتعرف الى نفسه أثناء الرسم ويتعرف الى الأشخاص الذين يرسمهم من خلال ضرباته السريعة المنتشية؟ هناك الكثير من الأسئلة التي تنطوي على الإثارة والتشويق. وصف الطبيب الذي عالج مونخ من إدمانه الكحولي صورته الشخصية بأنها صورة مجنونة. لم تحظ الصور الشخصية الأخرى بما يشبه ذلك التعليق المرح. فالسويدي سترندبرغ غضب حين رأى صورته وظن أن صديقه حط من شأنه.

National Portrait Gallery - David Parry
جانب من المعرض الذي يحمل عنوان "بورتريهات إدوارد مونك"

ذلك لم يكن ليحزن مونك لأنه كان يدرك أنه من خلال ما يرسمه لا يوثق علاقاته بقدر ما يعبر عن مشاعر كان يظن دائما أنها لن تظل تحت سيطرته. وكما يبدو، فإن منسقة المعرض أليسون سميث كانت مسرورة حين جربت أن تثبت أن الرسام النروجي الشهير بعزلته، كان في الوقت نفسه كائنا اجتماعيا جلس الكثير من مشاهير عصره أمامه ليرسمهم. 

font change