يهود الشام من ملك سوريا إلى حافظ الأسد

التمسك بالهوية وضغط الحركة الصهيونية

ويكيبيديا
ويكيبيديا
عائلة يهودية في دمشق، في منزلها الدمشقي العريق، في سوريا العثمانية عام 1901

يهود الشام من ملك سوريا إلى حافظ الأسد

في عام 1972 وبعد سنتين من تولي حافظ الأسد مقاليد الحكم في سوريا، جاء وفد من وجهاء الطائفة اليهودية إلى مكتب رئاسة مجلس الوزراء اللواء عبد الرحمن الخليفاوي، وعند سؤالهم عن حاجاتهم أجابوه: "نريد أن ننتسب إلى حزب البعث العربي الاشتراكي". ذُهل الخليفاوي من هذا الطلب الغريب وغير المتوقع، فسألهم عن الأسباب وأجاب أحدهم: "ولماذا لا؟ ألسنا مواطنين سوريين؟ هل هناك أي مانع قانوني أو دستوري من انتسابنا إلى الحزب الحاكم؟". رد الخليفاوي بالنفي وطلب مهلة للتشاور مع حافظ الأسد، الذي أجاب برفض قاطع.

في الحقيقة، لم يكن اليهود يريدون الانتساب إلى "البعث"، بل القول أمام السلطات السورية بأنهم مواطنون سوريون، لا يختلفون بشيء عن بقية الأقليات المسيحية والدرزية والشيعية، تثبيتا لحقهم بالمواطنة في سوريا.

يعود اليوم موضوع يهود دمشق إلى الواجهة، بعد زيارة عدد من اليهود السوريين إلى بلدهم الأم فور سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي، ولقاء وزير الخارجية أسعد الشيباني بهم خلال زيارته الأخيرة إلى الولايات المتحدة الأميركية. في شهر فبراير/شباط الماضي، زار دمشق حاخام اليهود السوريين المقيمين في أميركا يوسف حمرا، وجال على حارة اليهود في المدينة القديمة، وفي 29 أبريل/نيسان الماضي، قام وفد من اليهود المغتربين بفتح كنيس الإفرنج التاريخي، الذي أُسس من قِبل الجالية اليهودية التي فرت من الاضطهاد الإسباني بعد سقوط الأندلس أواخر القرن الخامس عشر. صلوا فيه للمرة الأولى من عقود، وهم اليوم في صدد استعادة منازلهم في حارة اليهود، التي كانت في زمن مضى من أبهى وأفخم دور دمشق، بقاعاتها المزخرفة، والنقوش على أسقفها، وبحيرات المياه في أرض ديارها، تتوسطتها أشجار الليمون والكباد والنارنج.

منذ أن غادر اليهود مدينتهم في تسعينات القرن الماضي، رفضوا بيع هذه البيوت أو تأجيرها، وبقيت مغلقة لعقود طويلة، قبل أن يقوم النظام بفتحها بالقوة مع اندلاع الثورة السورية في عام 2011، وإدخال المهجرين إليها.

أثناء سنوات حكم بشار الأسد، كان دخول الحي اليهودي من قبل المهتمين والباحثين والإعلاميين يحتاج إلى تصريح أمني من فرع فلسطين، وقد منعوا من تصوير الدمار الكبير الذي تعرض له كنيس جوبر مثلا، وبقية الممتلكات اليهودية. أما عن عدد اليهود المتبقين في سوريا اليوم، فلا أحد يمكنه أن يعطي جوابا صحيحا ووافيا، فهناك رواية تقول إن عددهم تسعة مسنين فقط لا غير، وآخرون يقولون إن عددهم قد يصل إلى ما بين 17-20 شخصا، رفضوا المغادرة حتى في أحلك الظروف، وتحملوا مشقة الظروف الاقتصادية الصعبة، وشح المواد التموينية، وانقطاع الكهرباء، والغارات الإسرائيلية المتكررة، على الرغم من أنه كان باستطاعتهم اللجوء إلى أي مكان في العالم بعد عام 2011، ولكنهم ظلوا متمسكين بأرضهم وأرض أجدادهم.

الطائفة اليهودية في نهاية الحرب العالمية الأولى

في ديسمبر 1918، وبعد شهرين من إجلاء آخر جندي عثماني عن دمشق، وصلها وفد من الوكالة اليهودية العالمية، مؤلف من جاك الموصيري (المصري)، وداود يلين نائب رئيس بلدية القدس. هدفت الزيارة إلى معاينة أوضاع يهود المدينة ومعرفة مدى تقبلهم للفكر الصهيوني، وإمكانية فتح مكتب لأعمال الوكالة داخل مدينة دمشق القديمة، والتغلغل في المجتمع الدمشقي عبر التواصل المباشر من وجهاء الطائفة.

كانت دمشق في حينها لا تزال تعاني الأمرّين من ويلات الحرب العالمية الأولى، من جوع وخوف وفوضى، وكان حاكمها الجديد، الأمير فيصل بن الحسين، يطوق إلى تأسيس حكم عربي فيها بعد أربعة قرون ونيف من الحكم التركي

كانت دمشق في حينها لا تزال تعاني الأمرّين من ويلات الحرب العالمية الأولى، من جوع وخوف وفوضى، وكان حاكمها الجديد، الأمير فيصل بن الحسين، يطوق إلى تأسيس حكم عربي فيها بعد أربعة قرون ونيف من الحكم التركي، يُعامل فيه المسلمون والمسيحيون واليهود معاملة متساوية أمام القانون، لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات. وفي عهده، سمح لليهود بدخول الجيش، وأصبح التاجر اليهودي الدمشقي يوسف لينادو ممثلا عن طائفته في المؤتمر السوري العام، أول سلطة تشريعية عرفتها سوريا. كما وقف حاخام اليهود إلى جانب الأمير فيصل، مع مفتي دمشق والبطاركة، يوم تتويجه ملكا على البلاد في 8 مارس/آذار 1920.

كان هذا الرجل، الحاخام باشي، اسمه يعقوب دانون، وهو يهودي مقدسي عين في منصبه قبل ثماني سنوات من قبل حاخام إسطنبول موشي ليفي. كان يعقوب دانون أمينا على مصالح رعيته الدمشقيين وقلقا على تردي وضعهم الاقتصادي والمعيشي، وقد قبل من الوفد اليهودي الزائر معونة مالية قدرها 600 جنيه مصري، لتأمين ملابس وحاجات مدرسية لأيتام اليهود الدمشقيين، وترميم كنيس الإفرنج.

الحالة الاجتماعية

كان عدد يهود دمشق يومها لا يتجاوز الخمسة عشر ألفا من أصل 300 ألف شخص يقيمون في دمشق. في تقريرهم المرفوع للدكتور حاييم وايزمان نهاية عام 1918، وأشار يعقوب الموصيري وداود يلين بأنه "لا يوجد أي يهودي غربي في هذه المدينة"، أو أشكناز، وأن جميع يهود المدينة كانوا مِنَ المزراحيين الشرقيين، وقلة من السفرديم، الذين أُخرجوا من إسبانيا والبرتغال في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، واستقر بهم المقام في حوض البحر الأبيض المتوسط. جاءَ عددٌ منهم إلى حارة اليهود في شرق دمشق وإلى قرية جوبر شمال شرقي المدينة القديمة، وانتشر البعض في مدينة حلب شمالي سوريا، وفي القامشلي شمال شرقي البلاد.

ويكيبيديا
الحاخام الأكبر يعقوب شاول دويك، حاخام باشا مدينة حلب، سوريا، 1907

أشهر مدارس يهود الشام في مطلع القرن العشرين كانت مدرسة "الأليانس"، الواقعة في حارة اليهود، على مفرق حي الشاغور. عرفت بجودة مناهجها وطاقمها التدريسي النموذجي، ولكنها أُغلقت خلال سنوات الحرب العالمية الأولى بأمر منقائد الجيش العثماني الرابع جمال باشا، ولكنه أَبقى على مدرسة "الأليانس للبنات"، بعد توسل مديرتها أوغستين حاياموف لديه. بحجة تفشي الأمراض والأوبئة، منها الكوليرا والطاعون، أَغلق جمال باشا ما تبقى من المدارس العبرية في دمشق، مما شرد نسبة كبيرة من تلامذتها، فصاروا يسرحون في الشوارع بحثا عن طعام أو عمل، وأصبح الفقر والجهل من سمات هذا المجتمع الصغير بعدما كان يُعرف سابقا بمصارفه الحديثة، مثل بنك زليخا خلف قلعة دمشق، ومدارسه الحديثة وجودة منتجاته ومهارة حرفييه.

كان هذا المجتمع في الماضي القريب ولشدة ثرائه يملك أجمل وأبهى قصور دمشق ويقوم برشوة كبار ضباط وموظفي الدولة العثمانية بسك نقود ذهبية مخصصة لهم كُتب عليها عبارة "ما شاء الله كان".

أصدر جمال باشا قرارات عدة، مَنعَ من خلالها تجديد إقامات المهاجرين اليهود، وحظر تسمية الأماكن بأسماء عبرية. عند طرده لممثل الوكالة الصهيونية آرثر روبين من يافا في شهر سبتمبر/أيلول من عام 1916 قال له الأخير: "أتمنى أن نلتقي مجددا يا عطوفة الباشا". ورد جمال: "ممكن، ولكن في ألمانيا وحتما ليس هنا".

أصدر جمال باشا قرارات عدة، مَنعَ من خلالها تجديد إقامات المهاجرين اليهود، وحظر تسمية الأماكن بأسماء عبرية

حتى قبيل الحرب لم تكن الطائفة اليهودية بأحسن حال، فقد بدا عليها تراجُعا ملحوظا نتيجة هجرة ما لا يقل عن 1500 شاب، أو 10 في المئة من تعدادها، خلال العقد الأول من القرن العشرين، بحثا عن مستقبل أفضل لهم ولأولادهم إما في مصر وإما في أوروبا. ثم جاءت نيران الحرب العالمية لتقضي على ما تبقى من أرزاقهم وأموالهم وتحصد أرواح الكثير من شبابهم، مما أجبر الحاخام يعقوب دانون على طلب العون المالي لأبناء طائفته من الألماني الصهيوني الدكتور آرثر روبين، ممثل الوكالة في يافا والمسؤول عن توزيع المعونات المرسلة من الولايات المتحدة الأميركية إلى يهود الشرق الأوسط. رُفضَ طلبه آنذاك لأن أبناء رعيته كانوا بعيدين كل البعد، عقائديا وتنظيميا، عن المشروع الصهيوني وبذلك كانوا، على حد تعبير الوكالة، لا يستحقون عونا ماديا من صهاينة أميركا.

لجأ الحاخام دانون بعدها إلى هنري مورغنثاو، السفير الأميركي في إسطنبول (وهو يهودي أيضا) مُكررا الطلب نفسه بعد أن علِم بوصول 50 ألف دولار أميركي من مدينة نيويورك إلى يهود فلسطين المُهاجرين. ولكن طلبه هذا قوبل بالرفض أيضا، لإغراق يهود دمشق في مزيد من الفقر والقهر والحرمان لكي لا يجدوا معينا أو معيلا أمامهم إلا الحركة الصهيونية التي جاءت إلى عقر دارهم في ذلك الشتاء من عام 1918 وعَرضتْ خدماتِها عليهم، ولكن وفق شروط سياسية معينة.

أ.ف.ب
حاخام يحمل مخطوطة توراة في كنيس إفرانج في الحي اليهودي بدمشق القديمة، سوريا 29 أبريل 2025

يهود دمشق يرفضون الحركة الصهيونية

كانت الهجرة اليهودية إلى فلسطين قد بدأت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، عندما ارتفع عدد اليهود من 23 ألفا سنة 1882 إلى 85 ألفا مع نهاية عام 1914. في ذلك العام وبسبب وقوع الحرب العالمية الأولى، أُغلقت أبواب الهجرة وبَدأت السلطات العثمانية في ملاحقة النشطاء اليهود داخل فلسطين، المُهاجرين منهم والمقيمين، خوفا من ارتباطهم بالإنكليز.

في السنوات الثلاث الأولى للحرب وصل إلى دمشق ما لا يقل عن ألفي مهاجر يهودي من فلسطين معظمهم من الأشكناز، إما أميركيون وإما أوروبيون، فكانوا يعملون داخل القرى والمدن الفلسطينية كمدرسين أو صحافيين أو أطباء، لا يتكلمون اللغة العربية ولا يحملون الجنسية العثمانية.

استقبلهم المجتمع اليهودي الدمشقي بفتور، ورفض مُلّاك العقارات اليهودية تأمين مسكن لهم في حارة اليهود، رافعين الإيجار عمدا، كما رفض الأثرياء من عائلات فارحي وطوطح ولينادو الدمشقية التبرع لمشاريعهم الخيرية، خوفا من أن يكون لها أي ارتباط بالحركة الصهيونية.

كان لهذا التعامل القاصي أثر بالغ عند اليهود المهاجرين، وكان من بينهم داود يلين نفسه عضو اللجنة الصهيونية التي جاءت إلى دمشق نهاية عام 1918، والذي لم تَغب عنه معاناتُه ومعاناة أبناء جلدته من اليهود الأوروبيين خلال إقامتهم القسرية والقصيرة في دمشق، فعلق قائلا: "معاناتُنا لم تكن تعنيهم (أي يهود الشام)، فهم لا يعرفون العطاء ولا يحبون الغرباء ولا يثقون بهم". وأضاف إسحاق ليفني، أحد يهود أوروبا المنفيين في دمشق خلال الحرب، والذي تم اعتقاله بتهمة التجسس لصالح الإنكليز: "خلال وجودنا في المعتقل، لم يأتنا منقذ أو مساعد من يهود المدينة، ويبدو أن هذا المكان، دمشق، سيكون قبرنا جميعا".  

وضع اليهود في العهد الفيصلي (1918-1920)

تذكّر داود يلين جميع هذه المشاعر عند عودته إلى دمشق وعلق بسخرية بأن المدينة باتت "موطنا للعجائز"، لأن ما تبقى من يهود الشام كانوا "على حافة القبر". وتابع بالقول: "لا يوجد في حارة اليهود إلا كنيس واحد فقط، وهو فقير وغير مُعتنى به، وصيدلية واحدة فقط أُسست قبل خمسةَ عشرَ عاما والقائم عليها، مع الأسف، شخصٌ  غير يهودي".

في كل التقارير المرفوعة إلى مكاتب الوكالة اليهودية في أوروبا، عن يهود الشام وأوضاعهم، كان التركيز واضحا على حالة الفقر، مع عدم التطرق إلى أثرياء الطائفة ودورهم التجاري والمجتمعي، ولا إلى تمسك الكثير منهم بهويتهم السورية.

مَكث الوفد اليهودي أسبوعا كاملا في دمشق، زار خلالها عددا من الأحياء والأسواق، واجتمع بأعضاء مجلس الطائفة في دمشق: موسى داود طوطح، ويوسف العبادي، ويوسف لينادو، ويوسف فارحي، وموسى مواس، وناثان قطش. جميعهم قالوا إنهم دمشقيون قبل أن يكونوا يهودا، رافضين الارتباط بالوكالة اليهودية العالمية أو قبول المعونة منها.

أرسل حاييم وايزمان في 5 فبراير 1919، وفدا إلى دمشق، لإقناع يهود دمشق بالهجرة إلى "أرض الميعاد"، ليكونوا ضمن الآباء المؤسسين لدولة إسرائيل عند قيامها

لم يستسلم حاييم وايزمان وفي 5 فبراير 1919، أرسل وفدا ثانيا إلى دمشق، مؤلف من يعقوب المصيري وبن زايون ماير أوزيل، حاخام مدينة يافا. هدف الوفد الجديد كان إقناع يهود دمشق بالهجرة إلى "أرض الميعاد"، ليكونوا ضمن الآباء المؤسسين لدولة إسرائيل عند قيامها. في هذه الأثناء ظهر مهندس يهودي يُدعى غليوم هيكر، وعَرض مشروعا تنمويا على يهود الشام بعنوان "إعادة بناء مدينة دمشق". أراد تطوير العاصمة السورية بمال صهيوني قبل إفراغها من مكونها اليهودي، لضمان السوية المالية والعلمية والاجتماعية لليهود عند استقبالهم في فلسطين. الهدف طبعا كان استعراضا للقُدرة المعمارية، والمالية، والفنية للحركة الصهيونية، وإبهار يهود دمشق.

اقترح هيكر شراء منازل وعقارات من الحكومة العربية في دمشق، في حارة اليهود تحديدا وحي العمارة ومنطقتي باب توما وباب شرقي، مع دفع معونات شهرية لفقراء الحي اليهودي، وتطوير المدارس العبرية، وبناء منازل حديثة ليهود الشام، وإنشاء كنيس جديد، مع ترميم وإعادة تأهيل الكنيس القديم، ورُبط الحي اليهودي بترامواي دمشق. رُفض مشروع هيكر من قِبل المكتب المالي في اللجنة اليهودية، لأن الأولوية كانت لإنشاء مستعمرات جديدة في فلسطين وتطوير المساكن اليهودية القائمة هناك.

يهود سوريون تعاملوا مع الوكالة اليهودية

لكن عند سماعهم بتلك المشاريع الضخمة، تفاءل الدمشقيون بالعموم واليهود بالخصوص، فظن رجال الأعمال منهم أن المدينة مُقبلةٌ على استثمارات خارجية، ووجد الفقراء فرصة للعمل وتحسين مدخولهم. هنا بدأ بعضهم يهمس بالسر: "لو لم نكن من سكان دمشق لما حُرمنا من هذا المال".

وكان بين من عمل مع الوكالة اليهودية وقتها كل من نعيم عدس، أحد المدراء الإداريين في محطة الحجاز، ويعقوب موشلي المراقب في هذه المحطة، والقاضي في المحاكم التجارية يوسف العبادي.

عَمِل هؤلاء الثلاثة على بث الروح الصهيونية في المجتمع اليهودي الدمشقي من خلال الاستثمارات، مثل فتح دار للأيتام اليهود في أبريل/نيسان 1919، برئاسة تاجر يهودي روسي مقيم في دمشق يدعى باروخ باييس، كان يملكُ محلا لبيع الإنارة في ساحة المرجة. وفي كتابه المرفوع لحاييم وايزمان، قال باروخ باييس: "دمشق ليست مثل غيرها في علاقتها مع الحركة الصهيونية، فهي على حدود فلسطين، ومن العار علينا أن تكون قريبة منا إلى هذا الحد وأن يعيش سكانها اليهود في أوضاع كهذه. لا نتوقع أي عون من أي طرف آخر، ولن يفعلوا معنا كما فعلوا مع الأرمن الهاربين من المجازر العثمانية قبل أعوام، ولو فعلوا فأرواحنا سوف تكون الثمن".

الاستثمارات اليهودية

بناء على هذه التوصيات، قررت الوكالة اليهودية عدم الفصل من ذلك التاريخ فصاعدا بين يهود دمشق ويهود الخارج، وبأن تتعامل مع المنظمات الأهلية اليهودية في دمشق لاختراقها وشراء ولاء أعضائها، وتحديدا من الشباب. أمرت الوكالة بصرف مبلغ 800 جنيه مصري شهريا لدعم تلك المنظمات وجُمعت لهم التبرعات من جمعيات يهودية أميركية. ظهرت في دمشق "لجنة الهجرة"، و"المجلس العبراني" الذي تم تأسيسه في مايو/أيار عام 1919.

سعى هذا المجلس إلى تقوية اللغة العبرية عند الأطفال اليهود وتنظيم المحاضرات الثقافية والأدبية في حارتهم. في 26 يوليو 1919 أعلن "المجلس العبراني" عن أول نشاطاته، وهو حفل في الذكرى الخامسة عشرة لوفاة ثيودور هرتزل، مؤسس الفكر الصهيوني الحديث.

قاطع أعيان اليهود هذا النشاط واعتبروه عملا استفزازيا وغير مجدٍ، لا ينفع إلا في تعكير علاقاتهم مع المسلمين ووضعهم تحت مراقبة الدولة أو في صدام مباشر معها. كما حاولت الوكالة اليهودية اختراق جمعية "الأمل" المعنية بتدريس البنات اليهوديات، و"جمعية عاشقي المسرح اليهودي" التي نَظمت عروضا مسرحية لموليير على مسرح "الأليانس".

وكان أشهر وأقوى تنظيم أهلي يهودي عرفته دمشق في تلك المرحلة نادي كاديما (وهي كلمة عبرية تعني "إلى الأمام") الذي أُسس يوم 14 أكتوبر/تشرين الأول 1918، وكان يهدف إلى نهضة شباب الطائفة وتنظيم العمل الأهلي لخريجي مدرسة "الأليانس".

قامت الوكالة اليهودية بتعيين الطبيب أريه آفرون مسؤولا عن القطاع الصحي في حي اليهود، براتب شهري مقداره خمسة عشر جنيها مصريا. كان مهاجرا من بيلاروسيا، وقد أَسس مستوصفا خاصا بالحي اليهودي في دمشق وقام بفتح عيادة طبية لمعاينة المرضى مجانا. وتعاقدت الوكالة اليهودية أيضا مع الطبيب جيامكو أرتوم، المدير السابق للمشفى الإيطالي في القاهرة، وأرسلَته إلى دمشق لدراسة الحالة البيئية والصحية لحارة اليهود ومعه فريق من الممرضين وقابلة يهودية، وصيدلي، ومدراء جُدد لدار الأيتام اليهودي.

قاطع أعيان اليهود هذا النشاط واعتبروه عملا استفزازيا وغير مجدٍ، لا ينفع إلا في تعكير علاقاتهم مع المسلمين ووضعهم تحت مراقبة الدولة أو في صدام مباشر معها

جريدة الشرق

تَقدم عدد من اليهود بطلب تأسيس جريدة اسمها "الشرق"، تَصدُر ثلاث مرات في الأسبوع باللغتين العربية والعبرية. عُين إبراهيم طوطح مديرا لتحرير الصحيفة، يعاونه الصحافي الشاب إلياس ساسون، خريج مدارس "الأليانس" وجامعة بيروت اليسوعية. كان ساسون شابا طموحا لا يتجاوز عمره العشرين في حينها، وكان مقربا من وجهاء دمشق وعلى معرفة شخصية بالأمير فيصل. وعند سؤاله عن ميوله السياسية كان يقول: "في الوطنية نحن والمسلمون إخوة، وفي الدين نحن وإياهم أولاد عم".

تعهد القائمون على جريدة "الشرق" بأن يهتموا فقط بالقضايا السورية العامة وبأن لا يتطرقوا نهائيا لقضية فلسطين والهجرة اليهودية، وبأن لا يقتربوا من الصهيونية إلا بما يتناسب مع الموقف الرسمي للحكومة.

أ.ف.ب
الحاخام خضر شحادة الكباريتي يقرأ نصا دينيا في كنيس يهودي بدمشق القديمة، 11 يونيو 2001

مع ذلك، وبالرغم من الغِطاء الحكومي الممنوح للصحيفة، دارت شكوك عند البعض حول الهدف الحقيقي من وراء تأسيس جريدة سورية ناطقة باللغة العبرية، وتحديدا بعد شراء مطبعة حديثة لأجلها بالأحرف العربية في شهر مارس/آذار من عام 1920. صدر العدد الأول من "الشرق" بأربع صفحات، اثنتين بالعربية واثنتين بالعبري، وحَملت مقالا افتتاحيا عن يهود الشام ودورهم الوطني، مُوقع من قِبل إلياس ساسون.

ترأس الحملة المناهضة لهذه الجريدة الصحافي الفلسطيني المقيم في دمشق يوسف عيسى وتساءل: "هل يُعقل أن يصدر في دمشق، وهي قلب العُروبة وعاصمتُها، صحيفة عبرية لها أهداف مشبوهة؟". صدر العدد الثاني من الصحيفة في 9 يوليو 1920 واختُصرت صفحاتها إلى ثلاث، اثنتين بالعربية وواحدة بالعبرية. ثم جاء العدد الثالث في 12 يوليو، وسقطت منه جميع الصفحات العبرية، ولم يصدر العدد الرابع.

في عام 1936، عاد يوسف لينادو، نائب دمشق في عهد الملك فيصل، وانتخب عضوا في مجلس إدارة غرفة تجارة دمشق وفي المجلس النيابي حتى سنة 1943، عندما نُقلت حصة اليهود البرلمانية من دمشق إلى حلب قبل إلغائها كليا بعد حرب فلسطين. وكان اسمه في الحملات الانتخابية يظهر على قوائم الكتلة الوطنية المعارضة للانتداب، والتي كانت تضم شكري القوتلي، وجميل مردم بك، وفارس الخوري، وغيرهم من قادة الحركة الوطنية.

يهود الشام في عهد الاستقلال بعد عام 1946

بعد جلاء الفرنسيين على سوريا عام 1946، ابتعدت الوكالة اليهودية عن أي نشاط يذكر في دمشق بسبب الأوضاع السياسية الداخلية وإرهاصات الانقلابات المتكررة بعد سنة 1949، وانشغال إسرائيل بشؤونها الداخلية خلال مرحلة التأسيس. خلال سنوات الوحدة السورية المصرية (1958-1961)، كان عدد يهود سوريا قد تراجع إلى 2000 شخص في دمشق، و3000 في حلب، و1300 في القامشلي. عاودت الوكالة اليهودية نشاطها في شهر مارس من عام 1958، من خلال حاييم شادمي ويعقوب شاموش الذين شجعوا يهود الشام مجددا على الهجرة، بنفس الحجج والبراهين القديمة، مشيرين إلى خطورة العيش والعمل في ظل دولة يقودها الرئيس جمال عبد الناصر. ومع حلول شهر نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1958، استطاعت الحركة الصهيونية إخراج 44 عائلة يهودية من دمشق، ولم تمانع السلطات في سفرهم. وقبل انهيار "الجمهورية العربية المتحدة" في 28 سبتمبر 1961، غادرت 23 أسرة يهودية أُخرى مدينتي دمشق وحلب، واتجه جميع أفرادها إلى الولايات المتحدة الأميركية.

توقفت هجرة اليهود مجددا في عهد الانفصال (1961-1963)، واستمر المنع في عهد "البعث" إلى أن سمح حافظ الأسد لمن يرغب منهم في المغادرة، شرط أن لا يذهبوا إلى إسرائيل

توقفت هجرة اليهود مجددا في عهد الانفصال (1961-1963)، واستمر المنع في عهد "البعث" إلى أن سمح حافظ الأسد لمن يرغب منهم في المغادرة، شرط أن لا يذهبوا إلى إسرائيل. كان هذا الأمر قد طرح على الأسد للمرة الأولى عند لقائه بالرئيس جيمي كارتر في جنيف سنة 1977، وفي اللقاء الذي جمع بينه وبين الرئيس جورج بوش الأب في سويسرا عام 1990، بعد احتلال الكويت، وصولا إلى قمة الأسد وبيل كلينتون بدمشق في أكتوبر/تشرين الأول 1994، حيث أعطى الأسد موافقته على سفر اليهود.

غادر أكثر من 2500 يهودي سوري بيوتهم وحاراتهم القديمة، وبين ليلة وضحاها أُفرغ الحي اليهودي الدمشقي من مكونه السكاني وصارت الرياح تلعب في قاعات قصوره الفخمة. في السنوات 2000-2010 قُدر عدد يهود سوريا بحوالي 200 شخص: 150 في دمشق، و30 في حلب، و20 في القامشلي. أُقيمت بعض المشاريع السياحية في منازلهم المهجورة، كقصر شطح الذي صار اسمه "فندق تاليسمان"، وقصر فارحي الذي تم تحويلُه إلى فندق، أما مدرسة "الأليانس" فقد تقاسم بناءها كل من وكالة "الأونروا" وروضة للأطفال الفلسطينيين.

font change