لماذا لا يزال تسجيل يعود لنصف قرن مهماً لفهم مصر اليوم؟

اتفاق السلام الذي وقعته مصرمع إسرائيل كان في جوهره ثمرة نهج عبد الناصر

أ ف ب
أ ف ب
الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر مع الزعيم الليبي معمر القذافي يصلان معا الى مقر انعقاد القمة العربية في الرباط في 23 ديسمبر 1969

لماذا لا يزال تسجيل يعود لنصف قرن مهماً لفهم مصر اليوم؟

يقدم تسجيل صوتي نُشر مؤخرا لاجتماع بين الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر والزعيم الليبي الراحل معمر القذافي رؤى قيّمة بشأن التحولات التي طرأت على تفكير عبد الناصر في تلك المرحلة.

يسلط التسجيل، الذي سُجّل في الثالث من أغسطس/آب عام 1970، الضوء أيضا على السياسات المصرية الراهنة تجاه ما يُعد تقليديا القضية المركزية في الشرق الأوسط: الصراع العربي-الإسرائيلي.

في ذلك الحين، كان القذافي، الذي لم يتجاوز الثامنة والعشرين من عمره، وافدا جديدا إلى الساحة السياسية الإقليمية، بعدما استولى على السلطة قبل عام واحد بإطاحته نظام الملك إدريس السنوسي المدعوم من الغرب في ليبيا. وقد جاءت حركته انعكاسا مباشرا لحركة "الضباط الأحرار" التي أنهت الحكم الملكي في مصر عام 1952 وأوصلت عبد الناصر إلى السلطة عام 1954.

آنذاك، بدا القذافي مفتونا بعبد الناصر إلى درجة اعتباره مثله الأعلى، مؤمنا بعمق بخطابه القومي العربي. وربما يفسر هذا سبب استحواذ ناصر على معظم الحديث خلال التسجيل، الذي امتد لسبع عشرة دقيقة. أما القذافي، فبدا عندما تحدث ساذجا إلى حد لافت، بما يناسب رئيس دولة عديم الخبرة. مثال ذلك عندما اقترح، في إحدى اللحظات، أن تحشد الدول العربية قوتها العسكرية لمواجهة إسرائيل وحلفائها– الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وغيرها– لاستعادة الأراضي التي احتلتها إسرائيل في عامي 1948 و1967، دفعة واحدة وإلى الأبد، قائلا بحماسة: "إما أن نزيل العدوان، أو أن العدوان سيزيلنا... فإذا أزالنا العدوان، فهذا يعني أننا غير لائقين بالبقاء".

عبد الناصر جديد

لكن الرجل الجالس أمام الزعيم الليبي الشاب كان يكبره بنحو ضعف عمره؛ رجلًا أنهكته الحروب وأثقل كاهله عبء الهزيمة في حرب عام 1967 أمام إسرائيل. فقد حطّمت حرب الأيام الستة بوضوح شعور عبد الناصر بالقوة العسكرية، وأجبرته على مواجهة حقائق الواقع الصعبة. وتجلّى هذا التحول في الطريقة التي تناول بها حل الصراع مع إسرائيل والسبل التي يمكن للعرب من خلالها استعادة الأراضي التي فقدوها في عامي 1948 و1967.

يظهر الزعيم المصري الثوري أكثر هدوءا وحكمة. في هذه المرحلة، بدا وكأنه فتح عينيه على حقيقة التفاوت المحبط بين جيشه، والجيوش العربية من جهة، والجيش الإسرائيلي الذي كان يحظى بدعم من الولايات المتحدة وسائر القوى الغربية، من جهة أخرى

يُبدي عبد الناصر في التسجيل غضبا واضحا من الحكام العرب الذين لم يقدّموا له سوى وعود جوفاء، وفشلوا في تزويده بالدعم العسكري الذي احتاجه في مواجهته مع الإسرائيليين، الذين كانوا يحتلون شبه جزيرة سيناء، ذات الموقع الاستراتيجي في شمال شرقي مصر، والمُطلة على قناة السويس والبحر الأحمر.
رغم ذلك، يظهر الزعيم المصري الثوري أكثر هدوءا وحكمة. في هذه المرحلة، بدا وكأنه فتح عينيه على حقيقة التفاوت المحبط بين جيشه، الذي تلقى ضربة موجعة عام 1967، والجيوش العربية من جهة، والجيش الإسرائيلي الذي كان يحظى بدعم من الولايات المتحدة وسائر القوى الغربية، من جهة أخرى.

 أ ف ب
جنود اسرائيليون مع اسير عربي في يونيو 1967

يشير ناصر إلى هذه الفجوة من خلال مقارنة حجم الإنفاق العسكري الإسرائيلي بذاك الذي تبذله الجيوش العربية، بما في ذلك الجيش العراقي. ويوضح هذا التفاوت أكثر عبر إشارته إلى تقديرات مصر بأن خسائرها البشرية خلال حرب الاستنزاف، بين عامي 1967 و1970، كانت تعادل عشرة أضعاف خسائر إسرائيل. ومع ذلك، لم يشكُ عبد الناصر من الأمر، بل قال: "إذا خسرنا عشرة جنود مقابل كل جندي إسرائيلي، فسنكون نحن الرابحين". بيد أنه كشف في الوقت ذاته عن ميزان قوى يميل بشكل صارخ لصالح الإسرائيليين.
لذا، ألمح إلى أن مصر لن تستمر في القتال، وستكتفي باستعادة سيناء مقابل الاعتراف بإسرائيل، مطالبا بقية العرب، إن رغبوا في القتال، أن يفعلوا ذلك بمعزل عن مصر، متعهدا بتقديم خمسين مليون جنيه مصري دعما للجيوش العربية إن قررت خوض الحرب مع إسرائيل، مضيفا: "فقط اتركونا وشأننا".
قبل بضعة أشهر من ذلك اللقاء، اقترح وزير الخارجية الأميركي ويليام روجرز، خطة لإنهاء حرب الاستنزاف بين مصر وإسرائيل، وتعزيز تسوية شاملة للصراع العربي-الإسرائيلي، استنادًا إلى قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 242، الذي دعا إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها عام 1967.
ما عُرف حينها بـ"خطة روجرز" قدّم لعبد الناصر مخرجا يحفظ ماء الوجه، يقوم على استعادة الأراضي المصرية المحتلة دون قتال، مقابل الاعتراف بإسرائيل. ويدافع ناصر، في التسجيل الصوتي، عن هذا الخيار السلمي لتسوية الصراع، رغم إدراكه العميق للمخاطر الشخصية التي قد تترتب على ذلك، لا سيما احتمال اتهامه من قبل معظم العرب بالتخلي عنهم وخيانة القضية الفلسطينية.

صلة وثيقة جدا 


وفي كل الأحوال، وبصرف النظر عن إبراز حجم التحول في تفكير ناصر، تُظهر حجته لصالح تسوية سلمية أن اتفاق السلام الذي وقعته بلاده مع إسرائيل بعد تسع سنوات كان في جوهره ثمرة نهجه هو. ومن المفارقات، أن خليفته، أنور السادات، هو من دفع حياته ثمنا لصنع ذلك السلام، عندما اغتاله متطرفون إسلاميون في أكتوبر/تشرين الأول 1981.

مقاربة عبد الناصر، التي اقتربت من فكرة أن السلام قد يُحقّق ما عجزت عنه الحرب، وضعته على خلاف مع أولئك الذين نادوا بالمقاومة المسلحة كخيار دائم

بالنسبة للمراقبين المتابعين عن كثب للشأن المصري، يقدم التسجيل الصوتي رؤى ثمينة بشأن النهج الراهن للقاهرة إزاء الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وكيفية تصوّرها لحلّه. لطالما أثبتت مصر، القوة العسكرية الأبرز في العالم العربي، أن حشدها العسكري يُوظَّف للدفاع عن حدودها، لا للانخراط في مغامرات عسكرية متهورة.
وفي أكتوبر 2024، شارك الرئيس عبد الفتاح السيسي في عرض عسكري بمدينة الإسماعيلية على قناة السويس، حيث جدّد التزام مصر بالسلام كخيار استراتيجي، مؤكدا أن بلاده لا تضمر أية أجندات خفية تجاه أي طرف. كما أشار إلى أن اتفاق السلام مع إسرائيل قد أنجز ما لم تستطع الحروب تحقيقه.
من الممكن القول إن مصر، حتى في ذروة قدراتها العسكرية، استوعبت دروس الماضي المؤلمة. ويبدو الموقف الحالي للرئيس السيسي منسجما إلى حد بعيد مع الموقف ذاته الذي عبّر عنه عبد الناصر في حواره المسجل مع القذافي.
في التسجيل، يُسمَع الزعيم المصري الراحل وهو يسأل الحاكم الليبي الشاب عن سبب رفضه تجربة مسار بديل قد يُفضي إلى استعادة الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967 دون اللجوء إلى الحرب. ويبدو أن عبد الناصر اختار في النهاية طريق السلام، بعدما قاد مصر عبر خسائر عسكرية واقتصادية جسيمة جرّاء ثلاث حروب مدمّرة مع إسرائيل. وحتى بعد وفاته، استمرّت مصر في دفع ثمن تلك الصراعات لعقود طويلة، دون أن نغفل الحملة العسكرية المكلفة التي أطلقها عام 1962 في اليمن.
ومع ذلك، فإن مقاربة عبد الناصر، التي اقتربت من فكرة أن السلام قد يُحقّق ما عجزت عنه الحرب، وضعته على خلاف مع أولئك الذين نادوا بالمقاومة المسلحة كخيار دائم. واليوم، يتكرّر هذا الانقسام؛ إذ تجد مصر نفسها على خلاف مع تجسيد معاصر لتلك القوى ذاتها، يُعرف اليوم بـ"محور المقاومة" وأنصاره في أنحاء العالم العربي.
يفرض هذا المحور مقاربة متصلبة: إما التحرير الفوري والكامل لجميع الأراضي التي احتلتها إسرائيل عبر السنين، أو لا شيء على الإطلاق، ما يضعه في مواجهة مباشرة مع الرؤية المصرية الأكثر واقعية، التي تقبل مسارا تدريجيا يسير خطوة بخطوة نحو الهدف نفسه.

يُصرح عبد الناصر للقذافي في التسجيل أنه لو كان مكان الملك حسين، الذي أدارت بلاده الضفة الغربية بين عامي 1950 و1988، لوافق على ضفة غربية منزوعة السلاح كحل مؤقت. ذلك، من وجهة نظره، كان خيارا أفضل من الخسارة الكاملة للأرض لصالح إسرائيل، وخطوة عملية نحو استرجاع المزيد في المستقبل.
عندما دخل أنور السادات مفاوضات مع إسرائيل عام 1978، سعى إلى ضمان حكم ذاتي للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، مستندا إلى قرار مجلس الأمن رقم 242. وتواصل مصر إلى اليوم السعي لتحقيق الهدف نفسه، داعية إلى إقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.
وفي أول رد رسمي له على الهجمات التي نفذتها حركة "حماس" على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023، وصف الرئيس السيسي العنف بأنه "لعبة محصلتها صفر" لا منتصر فيها ولا مهزوم حقيقةً. وهذا الموقف المصري ليس دعوة للاستسلام، بل نداء إلى الواقعية في مواجهة صراع طويل الأمد أدى إلى تمزيق العالم العربي، وتغذية التطرف، وسفك الدماء على الجانبين.
في الأثناء، جاء التسجيل الصوتي لاجتماع عبد الناصر مع القذافي، الذي نشرته قناة "تلفزيون ناصر" على "يوتيوب" في 25 أبريل/نيسان، وتديره عائلة الرئيس الراحل، وانتشر منذ ذلك الحين على نطاق واسع، بمثابة تذكرة في وقتها المناسب: من لا يتعلم من دروس الماضي، محكوم عليه بتكراره.

font change