مانشستر يونايتد... السياسة والسلطة واللعبة الجميلة

لا يقتصر حضوره على المستطيل الأخضر

أ ف ب
أ ف ب
يحتفل لاعبو مانشستر يونايتد بالكأس بعد الفوز بنهائي دوري أبطال أوروبا لكرة القدم ضد بايرن ميونيخ، في 26 مايو 1999 في ملعب كامب نو في برشلونة

مانشستر يونايتد... السياسة والسلطة واللعبة الجميلة

تتشابك قصة مانشستر يونايتد بعمق مع المشهد السياسي في المملكة المتحدة. فقد تحول النادي من فريق يمثل الطبقة العاملة إلى قوة كروية عالمية، في تحوّل لا يعكس نجاحه الرياضي فحسب، بل يعكس أيضا التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدها المجتمع البريطاني، ولا سيما فيما يتصل بنهج الحكومة تجاه صناعة كرة القدم والهوية الوطنية الأوسع.

على مدى العقود الأخيرة، كان لجملة من السياسات الحكومية تأثير بالغ على كل من صناعة كرة القدم والأنشطة التشغيلية لمانشستر يونايتد. ففي تسعينات القرن الماضي، دفعت الحكومة باتجاه تسويق الرياضة، مما أحدث تغييرات جذرية في بنية كرة القدم، وتزامن صعود مانشستر يونايتد إلى الصدارة مع هذه التحولات. وقد شكّل تأسيس الدوري الإنجليزي الممتاز عام 1992 بداية مرحلة جديدة من التسويق، مدفوعة بإصلاحات حكومية شملت قطاع البث الإعلامي، حيث شجعت الدولة خصخصة الأندية الكروية وإنشاء سوق تلفزيونية مخصصة للرياضة، ما أدى إلى تدفّق هائل للثروة إلى أندية الدوري الممتاز. وبينما جاءت هذه السياسات لتعزيز قدرة الكرة الإنجليزية على المنافسة على الساحة العالمية، فإنها غيّرت كذلك البيئة التي تنشط فيها أندية مثل مانشستر يونايتد تغييرًا جذريًا.

وفي العام ذاته، صدر قانون "مخالفات كرة القدم"، الذي شدّد الرقابة على سلوك المشجعين والسيطرة على الحشود، وذلك استجابة لظاهرة الشغب التي ابتليت بها الملاعب البريطانية في الثمانينات. وقد عكس هذا القانون رغبة الحكومة في تحسين صورة اللعبة وجعل حضور المباريات أكثر أمنا وتنظيما. لكن، رغم نواياه الأمنية، أثّر هذا التشريع سلبا على الهوية التعبيرية للطبقة العاملة من جماهير كرة القدم. إذ وجد مشجعو مانشستر يونايتد التقليديون– الذين شكّلوا لسنوات عماد الثقافة الكروية– أن تجربتهم في "يوم المباراة" باتت خاضعة لسلسلة من اللوائح التي بدت منقطعة الصلة بواقعهم، مما أدى فعليًا إلى تقليص مساحات التعبير الجماهيري التي طالما ميزت هذه الثقافة.

ثم جاء أحد أبرز أشكال التدخل الحكومي في عام 1995، من خلال إدخال اتفاقية حقوق البث التلفزيوني للدوري الإنجليزي الممتاز. وقد شكّل هذا الإجراء نقلة نوعية في مشهد الإعلام الرياضي، إذ أُتيح للأندية لأول مرة التفاوض بشأن حقوقها الإعلامية بشكل مستقل، ما أدخل كرة القدم في عصر مالي غير مسبوق. وبفضل نجاحه الرياضي وتكيّفه الذكي مع هذا التحول الإعلامي، صعد مانشستر يونايتد ليصبح أحد أغنى الأندية في العالم وأكثرها شهرة.

تتجلّى العلاقة بين كرة القدم والسياسة بشكل أكثر وضوحا خلال فترات الأزمات، حين تجد الأندية نفسها في مواجهة ضغوط خارجية ذات طابع سياسي

وفي عام 1999، ساهم تمويل البنية التحتية الكروية عبر "اليانصيب الوطني" في توطيد علاقة الدولة بكرة القدم. فقد بدأت الحكومة باستثمار مباشر في بناء الملاعب ودعم برامج تطوير الشباب، في خطوة تهدف إلى تعزيز المكانة الدولية للمملكة المتحدة عبر بوابة كرة القدم، باعتبارها رمزا للجاذبية الثقافية البريطانية. وقد شكلت هذه السياسات جزءا من مشروع أوسع لترويج الفخر الوطني عبر الرياضة، وكان لنجاح مانشستر يونايتد دور محوري في هذا المسعى، إذ ساهم بشكل ملحوظ في تغذية الشعور بالوطنية لدى شريحة واسعة من البريطانيين.

النشاط السياسي في كرة القدم

في السنوات الأخيرة، باتت كرة القدم منصة بارزة للنشاط السياسي والاجتماعي، حيث لم يعد اللاعبون والمشجعون والأندية يكتفون بالأدوار التقليدية، بل صاروا يتخذون مواقف علنية حيال قضايا اجتماعية وإنسانية متنوعة. ولم يكن مانشستر يونايتد استثناءً من هذا الاتجاه. فقد كانت له مساهمات واضحة في واحدة من أبرز الحركات المعاصرة، وهي حركة "حياة السود مهمة" (Black Lives Matter)، التي شهدت تفاعلا واسعا من اللاعبين والمشجعين احتجاجا على العنصرية المنهجية والتمييز.

أ ف ب
مهاجم مانشستر يونايتد ماركوس راشفورد يركع على ركبة واحدة

وكان لاعبو مانشستر يونايتد، وعلى رأسهم ماركوس راشفورد، في طليعة الأصوات المناهضة للظلم العنصري، سواء داخل الملاعب أو في الحيز المجتمعي الأوسع. وقد جسدت حملة راشفورد ضد فقر الغذاء بين الأطفال خلال جائحة "كوفيد-19" مثالا ساطعا على قدرة لاعبي كرة القدم على التأثير في الخطاب العام والسياسات الحكومية. إذ قادت جهوده في الضغط السياسي إلى تراجع الحكومة عن قرارها بحرمان الأطفال المحتاجين من قسائم الوجبات المدرسية المجانية، ما يدل على تنامي نفوذ اللاعبين كأطراف فاعلة في الساحة السياسية.

وكان موقف النادي من العنصرية واضحا كذلك. فقد انضم مانشستر يونايتد إلى أندية الدوري الإنجليزي الممتاز في دعم حملة "ثني الركبة" (#TakeTheKnee)، وهي مبادرة رمزية اعتمدها اللاعبون عبر الركوع على ركبة واحدة قبل انطلاق المباريات، في تعبير صريح عن رفض التمييز العنصري. وقد جاءت هذه المبادرة ضمن إطار تحركات أوسع تقودها رابطة كرة القدم الإنجليزية (FA) واتحادات اللاعبين، هدفها تسخير كرة القدم كأداة لمناهضة العنصرية وتعزيز قيم المساواة. وبوصفه أحد أشهر الأندية في العالم، لعب مانشستر يونايتد دورا محوريا في تضخيم هذه الرسائل، وتحفيز جماهيره العالمية والمجتمعات المحلية على التفاعل الواعي مع هذه القضايا الملحّة.

مواجهة الضغوط السياسية

تتجلّى العلاقة بين كرة القدم والسياسة بشكل أكثر وضوحا خلال فترات الأزمات، حين تجد الأندية نفسها في مواجهة ضغوط خارجية ذات طابع سياسي. وقد عايش مانشستر يونايتد مثل هذه اللحظات غير مرة، من أبرزها استحواذ عائلة غليزر الأميركية على النادي عام 2005. إذ قوبلت هذه الصفقة برفض جماهيري عارم، اعتبرها كثيرون خطوة نحو تجريد النادي من جذوره العمالية والمحلية، واستبدالها بنموذج تجاري يركّز على الربح على حساب الانتماء.

مع استمرار تطور كرة القدم بوصفها صناعة عالمية متشابكة، سيواجه مانشستر يونايتد تحديات سياسية متنامية، خصوصًا في ظل اتساع نفوذ المستثمرين الأجانب ذوي الأجندات التجارية العابرة للحدود

وقد أثار استحواذ غليزر نقاشا سياسيا واسعا، عكس القلق المتزايد من تصاعد نفوذ رؤوس الأموال الأجنبية والمصالح التجارية في كرة القدم الإنجليزية. وعلى الرغم من عدم تدخل الحكومة بشكل مباشر، فقد سلطت هذه الصفقة الضوء على تساؤلات جوهرية تتعلق بموقف الدولة من تملك الأندية من قِبل مستثمرين أجانب، وما ينطوي عليه ذلك من تأثيرات على الهوية الثقافية والرياضية الوطنية. وقد رأى كثير من المشجعين في هذه الخطوة مظهرا من مظاهر الانفصال المتزايد بين الأندية وجماهيرها الأصلية، وهو ما دفع إدارة النادي إلى التوفيق بحذر بين تطلعات جمهور عالمي متزايد، وهواجس قاعدته المحلية التاريخية.

وفي عام 2021، واجه النادي أزمة أخرى لا تقل خطورة، عندما كان من بين المؤسسين المقترحين لدوري السوبر الأوروبي (ESL)، وهو مشروع يهدف إلى تأسيس بطولة مغلقة خارج إطار الاتحاد الأوروبي لكرة القدم (UEFA) والدوريات المحلية. وقد اعتُبر هذا المشروع على نطاق واسع محاولة صريحة لتغليب المصالح المالية على القيم التقليدية للتنافس العادل، ما أثار عاصفة من الاعتراضات من قبل المشجعين واللاعبين وحتى المسؤولين الحكوميين. وقد هدّد الدوري الإنجليزي الممتاز باتخاذ إجراءات ضد الأندية المشاركة، في وقت سارعت لحكومة إلى التعبير عن رفضها للمشروع.

أ ف ب
المدير الفني السابق لمانشستر يونايتد أليكس فيرجسون (وسط) قبل مباراة إياب المجموعة الثانية من دوري أبطال أوروبا لكرة القدم بين فولفسبورج ومانشستر يونايتد في فولفسبورغ بوسط ألمانيا في 8 ديسمبر 2015

وقد كانت مشاركة مانشستر يونايتد في هذه المبادرة محط أنظار خاصا، بحكم رمزيته وتأثيره في الكرة الإنجليزية. وسرعان ما اضطر النادي إلى الانسحاب تحت ضغط جماهيري وسياسي كثيف. وقد أبرزت هذه الواقعة مدى خضوع الأندية الكبرى للتدقيق السياسي، خاصة حين تتقاطع قراراتها مع مشاعر وطنية ومبادئ تتعلق بالعدالة والنزاهة الرياضية. كما أظهرت سرعة استجابة الحكومة كيف يمكن للمؤسسة السياسية أن تتدخل بفاعلية حين تمس المصالح الكروية الشأن العام الوطني.

ما بعد الأزمة: تحديات المرحلة القادمة

مع استمرار تطور كرة القدم بوصفها صناعة عالمية متشابكة، سيواجه مانشستر يونايتد تحديات سياسية متنامية، خصوصًا في ظل اتساع نفوذ المستثمرين الأجانب ذوي الأجندات التجارية العابرة للحدود. ومع بروز احتمالات تغيير في ملكية النادي، ستظل معادلة التوازن بين الهوية المحلية والعلامة التجارية العالمية أحد أبرز الملفات الشائكة، ليس بالنسبة ليونايتد فحسب، بل للكرة الإنجليزية كلها.

وفي السنوات القادمة، سيواصل النادي مواجهة هذه الضغوط المركبة، ساعيًا إلى التوفيق بين مصالح الجهات الدولية المالكة، وتطلعات جماهيره العريقة، والتحولات المجتمعية الأوسع. وستكون قدرة مانشستر يونايتد على التكيّف مع هذه التحديات المتسارعة العامل الحاسم في تحديد مستقبله، وتعزيز مكانته كنادٍ لا يقتصر حضوره على المستطيل الأخضر، بل يعكس أيضا التفاعل المعقّد بين الرياضة والسياسة والهوية الوطنية في القرن الحادي والعشرين.

font change

مقالات ذات صلة