إغلاق إسرائيل للمعابر يتحول فوضى وسرقات للطعام وسوء التغذية في غزة

توقيت سرقة المخازن ليس مصادفة، خاصة مع التهديدات الإسرائيلية

أ ب
أ ب
فلسطينيون يحاولون الحصول على طعام من مطبخ مجتمعي في خان يونس في غزة في 9 مايو

إغلاق إسرائيل للمعابر يتحول فوضى وسرقات للطعام وسوء التغذية في غزة

مساء الثاني من مايو/أيار، هاجمت مجموعة من اللصوص في مدينة غزة، مخازن مواد غذائية أساسية تابعة للمطابخ المجتمعية في المنطقة الغربية للمدينة، وبعد محاولات لمنعهم من القيام بالسرقة من قبل القائمين على المطبخ، أطلق اللصوص الرصاص الكثيف وهاجموا المكان مع عدد من النازحين، ما أدى إلى سرقة كافة المواد الغذائية وأدوات الطبخ التي يعتمد عليها القائمون على العمل في صناعة وجبة طعام يومية مجانية للنازحين في ظل استمرار إغلاق إسرائيل للمعابر منذ قرابة سبعين يوما.

يقول أحمد حسن، وهو أحد المبادرين الشباب الذين أخذوا على عاتقهم افتتاح مطبخ مجتمعي، لتقديم وجبة طعام يومية رئيسة للنازحين، أنه وزملاءه في العمل التطوعي المجتمعي، أُجبروا على وقف عملهم، ما تسبب في حرمان مئات النازحين من الحصول على وجبة طعام رئيسة يومية بسبب عملية السرقة التي طالت المخازن ومكان إعداد وجبة الطعام التي كانت تقدم مجانا، مضيفا لـ"المجلة": "يدعون أنهم جائعون، لكن الجائع ومش لاقي ياكل ما بحمل سلاح وبهاجم الناس هيك، جوعان تعال خود وجبة طعام مجانية يوميا ليش تسرق".

بدأ حسن عمله في المبادرة التطوعية مع زملاء آخرين في مدينة خانيونس منذ أكثر من عام، حيث كان قد أجبر الجيش الإسرائيلي سكان شمال قطاع غزة على النزوح إلى مناطق وسط وجنوب القطاع منذ بداية حرب الإبادة الجماعية في أكتوبر/تشرين الأول 2023، وبعد إغلاق المعابر الذي تسبب في فقدان المواد الغذائية الأساسية وارتفاع أسعار المتوفر منها، ما دفعهم للعمل على جلب تمويلات خارجية لشراء مواد غذائية وطهوها ثم تقديمها بشكل يومي للنازحين، ولم تكن الفكرة محتكرة على جهة أو مجموعة واحدة، بل انتشرت في مختلف المناطق ومخيمات النازحين، وحتى بعد سماح إسرائيل بعودة النازحين إلى مناطق سكنهم شمال القطاع، انتقلت بعض تكيات الطعام المجانية لتقديم خدماتها هناك، فيما لا زالت تكيات أخرى تعمل في مناطق الوسط والجنوب.

المنظومة الصحية في غزة تعرضت للتدمير خلال أشهر الحرب الماضية بسبب عمليات القصف المباشر لها أو محاصرتها ومداهمتها من قبل الجيش الإسرائيلي

ويستغرب حسن توقيت السرقة الذي جاء بعد مرور أكثر من شهرين على إغلاق إسرائيل للمعابر ومنع دخول شاحنات المساعدات والبضائع الغذائية، وتزامن مهاجمة وسرقة أكثر من سبعة مخازن أخرى تابعة إما للمطابخ المجتمعية أو للمخابز، وذلك في مختلف مناطق وسط وغرب مدينة غزة. وقال: "لو السرقة مش منظمة، ما كان صارت السرقة في وقت واحد، غير أن كل الأماكن اللي تمت مهاجمتها وسرقتها كانت من ملثمين مسلحين، وأكيد هدفهم تعميق الفوضى والمجاعة التي يعاني منها الناس".

 أ ب
طفل يحمل قدرا فارغا فوق رأسه منتظرا الحصول على طعام في خان يونس في 9 مايو

ويعتقد المبادر أن التوقيت ليس مصادفة، خاصة مع التهديدات الإسرائيلية المستمرة، وتصريحات إسرائيلية عدة قالت صراحة إن إغلاق المعابر ومنع دخول شاحنات المساعدات الغذائية هدفه الرئيس الضغط على حركة "حماس" والفلسطينيين في غزة، أي إن إسرائيل تستخدم الغذاء بشكل واضح وصريح كسلاح لتجويع مليونين و400 ألف غزّي وتعميق الأزمات التي تتوالى على حياتهم اليومية منذ 19 شهرا متتاليا نتيجة النزوح القسري من مناطق سكنهم وفقدانهم لأعمالهم ومنازلهم وأفراد عائلاتهم وعجزهم عن توفير الطعام والشراب والأمان.
وحذر الكثير من المنظمات الدولية والأممية من استمرار إغلاق المعابر وتعميق أزمة الجوع التي انعكست على السكان في الجانب الصحي كذلك. وقالت وكالة "غوث وتشغيل اللاجئين" (الأونروا) في بيان لها قبل أيام، إن ما تمارسه إسرائيل من إغلاق للمعابر ومنع دخول المساعدات الغذائية والمستلزمات والأدوية الطبية، يعد انتهاكا واضحا للقانون الدولي الإنساني، مطالبة إسرائيل- بصفتها قوة احتلال- بفتح المعابر والسماح بدخول الدعم الإنساني وعدم استخدام الغذاء كسلاح لمحاربة ومساومة المدنيين.
ويشير الناطق باسم "الصليب الأحمر" في قطاع غزة هشام مهنا، لـ"المجلة"، إلى أن إغلاق إسرائيل للمعابر تسبب في خنق الاستجابة الإنسانية في مختلف القطاعات، خاصة بعد استئناف الجيش الإسرائيلي للحرب والهجمات العسكرية في 18 مارس/آذار الماضي، بعد تطبيق الجولة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار في الثلث الأخير من يناير/كانون الثاني الماضي ولمدة 42 يوما، ما تسبب "في تحويل العمل الإنساني في غزة إلى أكثر المهام خطورة حول العالم" حسب وصفه.
ولم يتوقف أمر إغلاق المعابر على منع دخول المساعدات الغذائية وتجويع السكان، بل طال الأمر المنظومة الصحية في المستشفيات والتي انعكست على الأطفال بالتحديد وساهمت في سوء تغذية ووفاة عدد من الأطفال، ما أدى إلى ارتفاع حالات الوفاة بسبب سوء التغذية منذ بداية حرب الإبادة إلى 57 حالة، كان آخرها خلال الأيام الأخيرة الماضية، بحسب ما أعلنت وزارة الصحة في غزة.
يوضح مهنا، أن المنظومة الصحية في غزة تعرضت للتدمير خلال أشهر الحرب الماضية بسبب عمليات القصف المباشر لها أو محاصرتها ومداهمتها من قبل الجيش الإسرائيلي، ومنع دخول الأدوية والمستلزمات الطبية، هناك "تزايد في مخاوف الوصول إلى أوضاع متردية تتعلق بسوء التغذية خاصة للأطفال والمواليد الخدّج وكبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة، بسبب عدم توفر الأدوية العلاجية والمكملات الغذائية وحتى المواد الغذائية الأساسية".

بحسب تقديرات الأمم المتحدة، يعاني جميع السكان في غزة من خطر المجاعة بسبب التدهور السريع في الوضع الإنساني وفقد المواد الغذائية الأساسية من بينها الطحين وإغلاق المخابز

الطفل يوسف النجار يبلغ من العمر أربعة أشهر، وهو أحد الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية، حيث يرقد في قسم الأطفال بمُجمع ناصر الطبي في خانيونس جنوب القطاع، توضح الأم لـ"المجلة" أنه بحاجة إلى مكملات غذائية وحليب خاص منذ ولادته بسبب مشاكل صحية، لكن نظرا إلى عدم توفر الحليب مؤخرا نتيجة إغلاق المعابر، وعدم وجود البدائل في الأسواق والمستشفيات، هبط وزن طفلها حتى أصبح يزن جسده كيلوغراما ونصفا فقط، في حين كان من المفترض أن يكون وزنه الطبيعي في عمره الحالي قرابة 6 كيلوغرامات.
وتضيف: "أنا مش لاقية غذا منيح اللي أنا عشان أقدر أعتمد على الرضاعة الطبيعية وأعطيه حليب مغذي، وكل يوم حالته بتسوء لدرجة ما صار قفصه الصدري بارز وواضح من قلة التغذية". تبكي الأم خلال حديثها وتتفحص بيدها جسد طفلها يوسف والذي تحول إلى ما يشبه الهيكل العظمي المغطى بطبقة جلدية رقيقة: "كل يوم الدكاترة بحكولي أبصر ابنك يعيش إذا ما فتحت المعابر ودخل الحليب والعلاجات".

رويترز
فلسطينيون عند شاطئ البحر في مدينة غزة في 9 مايو

ليس وحده الطفل يوسف من يواجه سوء التغذية بجسده النحيل، حيث يوجد أكثر من 30 طفلا وطفلة في مختلف المستشفيات وتتطلب حالتهم الرعاية الخاصة، فيما يواجه أكثر من 60 ألف طفل سوء التغذية بسبب عدم حصولهم على التطعيمات والمكملات الغذائية الخاصة بمراحل الولادة والطفولة، بحسب ما أعلنت وزارة الصحة. وقد رقدت الطفلة رهف عياد (12 عاما) في مستشفى المعمداني بمدينة غزة، بسبب تراجع حالتها الصحية وعدم قدرتها على المشي وتساقط شعرها، نتيجة حاجتها لأدوية علاجية ومكملات غذائية خاصة بحالتها، حيث تعاني من هشاشة في العظام.
تقول الطفلة رهف: "نفسي أرجع زي ما كنت، وشعري يطول وأرجع أروح على المدرسة، ونفسي أصلي وأنا واقفة بدل ما صرت باصلي وأنا قاعدة على كرسي عشان مش قادرة أقف على رجلي، ونفسي ألعب مع خواتي وصحباتي، نفسي أكون زيهم مش نايمة على التخت بالمستشفى".
من جانبه، حذر رئيس قسم الأطفال في مُجمع ناصر الطبي الدكتور أحمد الفرا، من تفاقم أزمة سوء التغذية بين الأطفال بسبب الانهيار غير المسبوق في النظام الغذائي والصحي لدى الأطفال وعائلاتهم، ما يهدد حياة آلاف الأطفال بإصابتهم بأمراض مزمنة أو الموت، مضيفا لـ"المجلة": "خلال الأسابيع الأخيرة، بدأنا نشهد حالات هزال ونقص حاد في العناصر الغذائية الأساسية مثل البروتينات والفيتامينات".
ويشير إلى أن السبب الرئيس في سوء التغذية المنتشر لدى الأطفال، ناتج عن انعدام مصادر الغذاء الغني بالبروتينات، مثل اللحوم والدجاج- بسبب منع إسرائيل السماح بدخولها للسكان- وهو ما أدى إلى ارتفاع في معدلات فقر الدم ونقص فيتامين "B-12"، وانعكس بشكل مباشر على النمو الجسدي والعقلي للأطفال، خصوصا في المراحل المبكرة من أعمارهم.
وبحسب تقديرات الأمم المتحدة، يعاني جميع السكان في غزة من خطر المجاعة بسبب التدهور السريع في الوضع الإنساني وفقد المواد الغذائية الأساسية من بينها الطحين وإغلاق المخابز، وارتفاع أسعار الأصناف المتوفر منها كميات بسيطة في الأسواق. 
وينوه رئيس قسم الأطفال الفرا، أن الأطفال الرضّع أكثر الفئات تضررا، بسبب حاجتهم واعتمادهم الكلي على تغذية أمهاتهم، لكن بسبب حالة الأم ذاتها التي تعاني من نقص في التغذية، فإن انعكاس ذلك على حياة الطفل تصبح سلبية ومهددة، خاصة مع نقص كميات وأنواع الحليب الصناعي وارتفاع أسعاره بشكل غير مسبوق في الأسواق.

font change